بعد اغتيال الرئيس الاميركي جون كينيدي مطلع الستينات، ازدادت مراقبة شرطة الحراسة على تحركات الرؤساء الذين خلفوه مثل نيكسون وفورد وكارتر وريغان وكلينتون وبوش الأب. وبما ان عملية اغتيال كينيدي تمت بواسطة القنص، فقد ركزت الدوائر المختصة اهتمامها على مراقبة شرفات الأبنية وشبابيك المنازل المطلة على الطرقات التي كان يسلكها موكب الرئاسة. وقبل أن يقوم نيكسون بزياراته الرسمية سنة 1974 الى الصين وأوروبا الغربية والعواصم العربية، حرص مكتب التحقيقات الفيدرالي على نقل سيارتين مصفحتين شحنتا على متن الطائرة العملاقة "هيركليس". كذلك كان البوليس السري الأميركي يسافر قبل الرئيس بهدف التنسيق والتعاون مع السلطات المحلية بشأن توزيع أدوار حماية الموكب. وكثيراً ما كانت وزارتا البلدين تتدخلان من أجل حل الخلافات بسبب تجاوز الأميركيين لهامش الصلاحيات المعطاة لهم. ولكن أساليب حماية الرئيس الأميركي تغيرت عقب أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 على اعتبار ان الشعب الأميركي في الداخل والخارج أصبح هو أيضاً عرضة للتهديد. وبسبب هذا الواقع الجديد رفعت الولاياتالمتحدة درجة الاستنفار العسكري بطريقة غير مألوفة وغير مسبوقة. وعليه اضطرت الحكومة البريطانية الى مجاراتها في هذا السياق، الأمر الذي دفع قيادة الشرطة الى استنفار 14 ألف نفر، أي بزيادة أربعة آلاف على عدد جنود بريطانيا في العراق. كذلك عززت الاستخبارات تدابير الوقاية والحماية مستخدمة من أجل ذلك 1700 مخبر سري انتشروا حول قصر "باكنغهام" بهدف تعطيل أي عملية ارهابية قد تقوم بها "القاعدة" أو المنظمات الأخرى. والمضحك في الأمر ان تدابير الوقاية الاستثنائية التي كلفت عشرة ملايين جنيه، لم تمنع أحد محرري جريدة "دايلي ميرور" من التسلل الى القصر بصفة خادم. وانتظرت الصحيفة يوم وصول الرئيس بوش كي تسجل سبقها الصحافي، وتظهر صورة محررها على شرفة قصر "باكنغهام" وهو يرتدي لباس الخدم الملكي. وذكرت كاتبة التحقيق جين كير ان زميلها رايان باري عمل في جناح الملكة وخدم طوال شهرين جميع أفراد الأسرة. وقالت انه كلف صباح الخميس باعداد وجبات الفطور لكل من الرئيس بوش وزوجته لورا والوزير كولن باول وكوندوليزا رايس. وكان من الطبيعي ان تستغل الصحيفة هذه الفضيحة الأمنية لتسخر من تدابير الحماية وتقول ان الخادم المزيف خدع مكتب التوظيف وشرطة القصر، الأمر الذي يشكل خطراً على سلامة الأسرة المالكة وضيوفها من أمثال الرئيس بوش وأعضاء الوفد المرافق. والمعروف ان صحيفة "أخبار اليوم" المصرية حققت في الماضي البعيد سبقاً صحافياً مماثلاً عندما تنكر أحد محرريها بزي خادم ليحصل على وقائع جلسات مؤتمر الجامعة العربية. ولم تكن فضيحة "دايلي ميرور" هي الخبر الوحيد الذي استأثر باهتمام الجمهور البريطاني. فقد حدث ان طلب رئيس تحرير صحيفة "ذي صن" اجراء مقابلة خاصة مع الرئيس بوش اسوة بالصحف الكبرى. ولما رفض البيت الأبيض طلبه تدخل صاحب الجريدة روبرت ميردوخ عند رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، مهدداً بنقل أسلحته الإعلامية لمصلحة رئيس حزب المحافظين صديقه مايكل هاورد. وبما ان هذه الأسلحة تشكل ترسانة اعلامية عالمية يصعب تجاهلها، فقد رضخ البيت الأبيض لتدخل بلير ولابتزاز ميردوخ. وهكذا استقبل بوش رئيس تحرير الجريدة الشعبية تابليود تريفور كافناغ على مضض. ولكنه من جهة أخرى تحاشى اغضاب امبراطور الصحافة المرئية والمكتوبة بعدما أبلغته كوندوليزا رايس ان ميردوخ يملك 174 محطة تلفزيون في الأميركيتين الشمالية والجنوبية وآسيا وأوروبا. كما يملك الى جانبها في القارات الخمس 480 منشورة اجتماعية وسياسية واقتصادية بينها في بريطانيا "صانداي تايمز" الاسبوعية و"التايمز" و"ذي صن" و"نيوز أوف ذي وورلد" ومحطة "سكاي". وسائل الإعلام البريطانية ركزت في تغطيتها على الجانب السياسي، معتبرة ان الزيارة تمت لرفع شعبية بلير وبوش في السنة الانتخابية المقبلة. ورأى فيها المحللون منبراً اعلامياً لإعادة تسويق مبررات الحرب على العراق بعدما كثر عدد التوابيت المنقولة من بغداد الى واشنطنولندن وروما. وربما جاء توقيت الزيارة ملائماً للملكة اليزابيث وضيفها على اعتبار ان الحملات السياسية التي تعرضا لها خلال الاشهر الثلاثة الأخيرة كانت بحاجة الى افتعال حدث مضاد يلهي مواطني البلدين عن متابعة فضائح الأسرة المالكة وعن فشل الحربين في افغانستانوالعراق. وبسبب هذه الاعتبارات وسواها جددت الملكة دعوة ظلت نائمة في الادراج أكثر من ثمانين سنة، أي منذ حل الرئيس الأميركي وودرو ويلسون ضيفاً على قصر باكنغهام سنة 1918. وبما ان جورج بوش يعتبر ويلسون مثله الأعلى في الحكم، فقد حرص على تقليده حتى في زيارته لبريطانيا. يجمع المراقبون على القول بأن أحداث 11 أيلول سبتمبر هي التي ذكرت جورج بوش بضرورة إحياء عقيدة سلفه الرئيس الثامن والعشرين. ولوحظ في غالبية خطبه انه كان يطرح نفسه كرئيس مكمل لرسالة ويلسون الذي أعلن سنة 1917 انه دخل الحرب لكي يجعل العالم أكثر أمناً وأكثر حرية. ولقد اقتبس بوش هذا الشعار من معلمه الروحي، مشدداً على ترديد كلامه بأنه يطمح الى اقتلاع جذور الشر والارهاب المنبثقين عن ثقافة سياسية تسمم الشعوب وتقتلها. واشتهر ويلسون بوضع خطة سلام مؤتمر باريس المؤلفة من 14 نقطة اهمها: تحرير الشعوب من الاستعمار والاستعباد، والعدالة للعدو كما للصديق، وتثبيت السلام بواسطة عصبة الأمم. ومن الواضح ان بوش استعار من ويلسون ما يعجبه بحيث انه تجاوز صلاحيات الأممالمتحدة، وقفز فوق مبدأ العدالة للجميع، وادعى انه احتل العراق لكي ينشر الديموقراطية في الشرق الأوسط ويشفي المنطقة من مرض الارهاب وحكم الديكتاتوريات. ولوحظ انه طرح عقيدته في خطابه امام الملكة ومدعويها، وانه تعمد الحديث عن حربه بالتحالف مع صديقه طوني بلير، ضد الارهاب. وقال ان الحرية تعرضت في مسيرة التاريخ لمخاطر الارهاب وتحديات الطغاة. وبرر الحرب في افغانستانوالعراق بالقول ان الطريقة الوحيدة لهزيمة الارهابيين هي نقل ساحة الحرب اليهم وليس التعامل معهم بهوادة لأن ذلك يشجعهم على العدوان. وقال ان اميركا ستستمر في تشجيع الديموقراطيات والانفتاح الاقتصادي، لأن الالتزام المشترك بهذه المبادئ يقود الى تحقيق السلام والأمن الدوليين. في حديثه المتلفز مع ديفيد فروست، شدد الرئيس بوش على القول بأن الماضي شهد انحياز القوى الكبرى الى هذا الجانب أو ذاك في النزاعات الاقليمية، الأمر الذي كان يجعل الحلول صعبة ومستعصية. ووعد بالتزام نهج مختلف يعتمد على التحالفات الواسعة في الشرق الأوسط وآسيا وذلك بهدف مضاعفة الضغوط من أجل إحلال سلام دائم وعادل. ولقد تعارض هذا الطرح مع خطابه في القصر الملكي عندما قال: "يجب توفير الأمن والسلام لاسرائيل التي عاشت في ظل الموت العشوائي لفترة طويلة جداً". ولكنه دعاها الى وقف بناء المستوطنات وإزالة المواقع الاستيطانية الأمامية غير المرخص بها وانهاء إذلال الفلسطينيين. وانتقد أبو عمار من دون أن يسميه عندما قال: "ان السلام لن يتحقق على أيدي الزعماء الفلسطينيين الذين يرهبون المعارضة ويتسامحون مع الفساد ويتصلون بالجماعات الارهابية". وأكمل تصوره ليقول: "ان الفلسطينيين الذين تعرضوا للمعاناة لمدة طويلة يستحقون زعماء حقيقيين قادرين على تولي الحكم في دولة فلسطينية مستقلة". ولم يوفر في خطابه الدول الأوروبية التي انتقدها بسبب اسلوب تعاملها مع ايران، كما استخدم ضد فرنسا والمانيا موضوع العداء للسامية لأنه في نظره يسمم النقاش العام بشأن الشرق الأوسط. ولاحظ المشاهدون ان كاميرات التلفزيون ركزت على التقاط تعابير وجه الأمير تشارلز عندما تحدث بوش عن القضية الفلسطينية. والسبب ان ولي العهد البريطاني يعارض السياسة الاميركية تجاه الفلسطينيين، ويعتبرها منحازة الى أقصى الحدود. لذلك امتنع عن السفر الى الولاياتالمتحدة مدة ست سنوات، الأمر الذي عرضه الى الاتهام بأنه يميل الى احترام الدين الاسلامي أكثر من الأديان الأخرى، وأن غالبية أصدقائه هم من الحكام العرب. وهذا ما يفسر اعتراض الصحف على قرار انتدابه لاستقبال الرئيس الأميركي في المطار لأن بوش يعرف حجم الهوة السياسية التي تفصل بينهما. السؤال الأخير يتعلق بمدى تنفيذ البرنامج الملكي، والى أي حد استطاع المتظاهرون والمعترضون اخفاق الزيارة ولو على المستوى البروتوكولي؟! يقول رئيس التشريفات في قصر "باكنغهام"، ان زيارة الرئيس جورج بوش لم تخضع للمعايير المطبقة في مثل هذه المناسبات. وفي رأيه ان الأصول تقضي بانتقال الضيف من المطار الى محطة "فيكتوريا" للقطار حيث تنتظره العربة الملكية المذهبة المكشوفة، مثلما جرى للرئيس الروسي بوتين. ولقد أُلغي هذا التقليد بناء على توصيات سكوتلنديارد لأن الرئيس قد يتعرض للاهانة أو الأذى الجسدي على أيدي المتظاهرين الكثر. لذلك انتقل من المطار الى حديقة القصر بواسطة مروحية حملته تحت جنح الظلام. واقترح الاميركيون على منظمي البرنامج أن تحلق مروحية بشكل منتظم فوق القصر طوال فترة الزيارة. واعترضت الملكة بسبب الازعاج الذي يحدثه أزيز الطائرة للضيوف وللجياد أيضاً. وبدلاً من ان يحل بوش وأعضاء الوفد المرافق له في الطابق العلوي من القصر، كما هي العادة، قررت ادارة التشريفات نقلهم الى الطابق الأرضي خوفاً من سقوط صاروخ موجه يصعب أن يصيب الجناح الأرضي. وبين الثوابت البروتوكولية التي تجاوزها رجال الأمن، قبول دعوة عمدة لندن الى مأدبة غداء يقيمها عادة في اليوم الثاني من الزيارة. ولقد عبّر العمدة كين ليفنغستون عن سروره بهذا القرار الذي أعفاه من استقبال جورج بوش وطوني بلير. ذلك انه يعتبرهما مسؤولين عن شن حرب غير مبررة ضد العراق، وأنه من واجبه محاربتهما بمختلف الوسائل المتاحة. ولم تكن التظاهرة الضخمة التي قادها في ساحة ترافلغار سوى تتمة لتظاهرة سابقة ضمت أكثر من نصف مليون معترض على شن الحرب. قبل وصول جورج بوش الى لندن بثلاثة أيام نشرت صحيفة "صانداي تايمز" صورة كاريكاتورية معبرة تمثل الرئيس الاميركي وهو يخترق بوابة قصر "باكنغهام". ولكي يعكس الرسام الموقف الشعبي البريطاني من التحالف العسكري بين الدولتين، أظهر بوش في صورة جندي يحمل بيمينه علم بلاده الممزق وبيساره كلبه المدلل طوني بلير. وبدلاً من أن تواكبه طوابير العسكر، فقد اختار الرسام مئات النعوش المصطفة خلفهما. وكان من الطبيعي ان يثير هذا الكاريكاتور غضب الرئيس بوش، الذي فسر التحالف مع بلير بأنه قدر واحد يجمع بين دولتين تتكلمان لغة واحدة وتحاربان عدواً واحداً. وبفضل هذه الشراكة أصبحت ضمانات أمن الشعبين أقوى من السابق لأن حرب العراق أضعفت نفوذ الارهابيين. وفي الرد على هذا الاستنتاج الخاطئ سأل أحد المراسلين طوني بلير خلال المؤتمر الصحافي المشترك، عن تفسيره لأسباب مهاجمة المصالح البريطانية في تركيا إذا كان حقاً قد تضاءل نفوذ الارهابيين؟ وتدخل مراسل آخر ليسأل جورج بوش عن أسباب إقصائه وحجبه عن مواجهة النواب والمتظاهرين والشعب اذا كان حقاً يؤمن بأن ذراع الارهاب قد قطعتها حرب العراق. وكان جوابهما المشترك يدل على الارتباك والحيرة لأن قنابل اسطنبول أصابت شعبية طوني بلير... ولأن زيارة جورج بوش كرئيس لجمهورية الولاياتالمتحدة، حرمته من مشاهدة لندن التي اعجب بها يوم زارها كمواطن أميركي عادي! * كاتب وصحافي لبناني.