ينهض الأدب كله على مقوّم المجاز = الاستعارة في القلب، والأدب السردي، الحكائي - القصصي والروائي، بخاصة يستمد وجوده من لحمة التخييل، وقد استوعب الواقع وتعالى عليه، بكل ما فيه من خصوبة الحياة، وعذابها، وسعي الإنسان وبحثه عبر تعدد المصائر للأفراد والجماعات، وللأنوات القلقة على الدوام في تاريخ ممتد أو متداخل. هذا تشخيص السرد عموماً، لكن الرواية الحديثة، الغربية بالدرجة الأولى، اتجهت منذ العشرينات من القرن الماضي الى قلب العلاقات المنسجمة، والمعادلات الثابتة، في الرواية الواقعية بخصائصها الشمولية من حيث منظورات الإنسان والتاريخ والمجتمع والمعتقد والذهني والسيكولوجي، ومفهوم الواقع والزمن تحديداً. ومنذئذ، ومن غير أن نسهب في استعراض أسماء الأعلام المجددين، والتيارات الانقلابية في آداب كثير من الأمم، بين غرب وشرق. وانخرطت الرواية مبكراً في مجرى التحول هذا، وانتظم فيها، وبإيقاع متواتر، بحث الانسان المضني، لكن المثابر، عن قيم جديدة أو صراعه للتشبث بالقيم الأصيلة في عالم ما ينفك ينهار. وكان من الطبيعي أن يتلبس هذا الانخراط تصورات ومياسم عدة، تصورية وصورية، وأن تختلج في مرآة/ مرايا النص الروائي، المتشكل في صيرورة التحول، نبضات وملامح واقع آخر، وانسان مغاير، ورؤى باهرة هي بنت الولادات الكبرى للقرن العشرين. والرواية العربية التي استنسخت في بواكيرها نماذج الرواية الغربية، ثم راحت تدريجاً تقيم بناءها، وتنحو الى التميز برؤاها، ستخوض بدورها طريق التحول بعد أن أرست عقدها، واستقر فيها النموذج الواقعي. وتكرر مرات حتى بات أضيق من امكان استيعاب فيضان الواقع نفسه عن حالاته وأوضاعه الحياتية والهندسية الثبوتية، والكاتب في غمرته يوجه البوصلة الى آفاق أخرى لم تكن بعد مرئية. وفي المجال السوسيوثقافي العربي، فإن قيماً ستحل محل أخرى، وتؤدي، بالتالي، الى خلخلة ثوابت فكرية وخلقية واجتماعية وفنية، بالطبع. ان سلسلة ما يسمى ب"التابوهات" المرتبطة بثقافة عقيدية وتخليقية مشرعنة ستنتقل الى وضع التمثيل السردي بحذر، ومعها مناوشة بل حفر في البنية السطحية للمجتمع، ولسلوك الفرد وأحلامه ومكبوتاته. وعلى صعيد الصياغة الفنية، و"تقنية" العمل، من جانب آخر، لن يعود من الممكن نقل التجربة في زمن السرد الخطي، ذي الاسترسال الأفقي، كما سيختل مفهوم زوج الواقع والخيال باكتساح منطق الأخير للأول بمنأى وضد منطق الحياة الاجتماعية والانسانية عامة. انه منطق الانزياح الذي، مذ قصة كافكا في "المسخ"، ثم "المحاكمة"، واحتفاء رواية اميركا اللاتينية بالمخيال الشعبي كمادة قوية تخييلية، هو ما يطبع بصماته على قسم لا يستهان به من الرواية العربية التي واصلت تطورها البنائي، وتجربتها التمثيلية والتخييلية في مجتمعات تتكالب عليها أسباب التخلف والضغط السياسي وتضييق الحريات، وتكدس الانكسارات، وهيمنة المكبوت الذي لن يجد بدّاً من الاصطدام بالواقع، وكسره ولو وهماً للتنفيس، وهذا بعض صنيع الرواية. تصدر الرواية الأخيرة "برج العذراء" بيروت، دار الآداب، 2003 للروائي المصري ابراهيم عبدالمجيد لتعلي من شأن منطقة الانزياح، وتقره كنسق تام، في كتابة الرواية العربية. ان كاتبنا صاحب الروايتين المهمتين الأوليين: "البلدة الأخرى" و"لا أحد ينام في الاسكندرية"، وبعد أن رسخ قدمه في تربة التجربة الواقعية، والاستذكار الشخصي، المحيي لهيئة المكان التاريخ وروحية الزمان الانسان في الحياة، وبسردية منسجمة مع قواعد المحاكاة الفنية، وتطريز لها بتلوينات نظرة شخصية هي رهان الكاتب مع الأدب والوجود. في "برج العذراء"، التي تصدرها دار الآداب اليوم بغير قليل من المغامرة، يدخل ابراهيم عبدالمجيد الى عالم الغرابة من بابه الواسع، ولكنها، وكما سيتاح للقارئ قراءته وفهمه، غرابة منبثقة من الواقع لا مسقطة عليه الى حد الاندماج والتطابق، وهذا هو الخرق الأول في منظور الكاتب. ويتمثل الخرق الثاني في "التعرية" الكاملة للحال الجنسية، لو جاز لنا تسميتها هكذا، بنزع كل أرديتها، ومن ورائها رغبة لكشف عورة مجتمع بأكمله لا يبقى فيه أي شيء مستور، ويتشخص فيه الجنس، في مسمياته ودواله ومدلولاته مباشرة، بقرائن وعلامات مادية تأخذ دور البطولة وتستقل بسجل لغوي وبلاغي واصطلاحي خاص بها. وكلا الخرقين، بما أنهما يكسران نمطية الواقع ونسق الثبات، والمحافظة التوافقية المغشوشة في المجتمع، ينزعان الى اقناعنا، في حلقات مشهدية وحوادثية وحوارية وبهلوانية، اثارية، وبالتدريج، بأن ما يتجلى لا معقولاً هو المعقول عينه، وبأن انقلاب العلائق وفجاجة التشخيصات الجنسية والتعذيبية هي علائق الواقع والكتابة الجديدين. لا مناص لفهم هذه اللعبة من فرز بعض خيوطها الحكائية، والتي لن تغني عن قراءة العمل كاملاً، وهي خيوط ينسجها شخص واحد، هو السارد والبطل الفاعل، وبؤرة انبثاق الشخصيات والأدوار، يمكن تلخيص حكايته كالآتي: شخص ينجو وحده من حادث سير أودى بحياة ابنته وزوجته. بعد علاج دام شهراً في المستشفى نتعرف اليه عائداً الى مدينته. في مدخل المدينة يدهس شاباً عابراً، ويضطر الى نقله الى المستشفى حيث سيلفظ أنفاسه، وهناك سيقبض عليه لينقل الى مركز الأمن ومنه الى النيابة. في مركز الأمن ستبدأ مفارقات الرواية وانعطافها الى التحول الغرائبي، بدءاً من الشخصية التي تتحمل اسمين راشد رشاد وسليم سليمان وهويتين الأولى عادية والثانية لكاتب وصحافي شهير ولا تكف عن مبادلة نفسها، بحسب المواقف، متراوحة بين التماهي والتضاد. مروراً بمركز الأمن حيث يسأم المحتجزون أنواعاً غريبة ومقذعة من التعذيب يعد التنكيل الجنسي أشنعها، وبار برج العذراء - عنوان العمل - ملتقى شخصيات الرواية، نساء ورجالاً، وحيث تتناسل الحكايات وأشكال فرجة جنسية مبدهة على غرابتها، وصولاً أخيراً الى مستشفى أمراض السرطان الذي توصف فيه مشاهد مرعبة ومقززة ومفجعة عن الموت. بين هذه المحطات يتنقل الاسم الاسمان والشخصية الشخصيتان. والجميع ينكره وينظر فيه آخر. أي الصحافي الشهير، وستلعب الرواية على هذا الخلط والتداخل لعباً بهلوانياً، بمعنى بهلوانية السيرك، حيث يسرد رشاد وضع سليمان ووصفه، مرة بكيفية مستقلة، ومرة بصورة مزدوجة. مما يضع خاصية التضعيف كتعبير عن فصام شيزوفرينيا عامة تسود محافل الرواية كلها، وتدمغ الفاعلين فيها. خلا حادث السير، الذي ذهب ضحيته زوجته وابنته، لا شيء شيحدث لرشاد/ سليمان، باستثناء مشاهداته الغريبة في مركز الأمن، وتمريناته الشبقية في مكتبه أو شقته، ومسامراته مع رواد بار البرج، وتنقله العبثي بين غرف أو مصالح مستشفى السرطان. ونستطيع أن نقول بأن كل ما رآه بين تنقلاته هذه، وأخرى، في أوضاعها المقلوبة، و"المعهّرة" عمداً وبإفراط، ليست الا الامتداد الطبيعي لضياع الهوية وتشرذمها، له وللآخرين وللمجتمع، ومعه البحث المستحيل - عبر السرد - لإعادة تركيب عالم مفكك وهجين وقبيح. ثم ان رشاد/ سليمان وهو في قلب الرواية لا يذهبان من ألف الى باء أو الى جيم إلا وهماً وإنما يراوحان مكانهما، ولذلك ما همّ إن تداخلت الأماكن والشخصيات، وتمطط الزمن أو تقلص أو تجرّد. وبعبارة أخرى، فإن ابراهيم عبدالمجيد الذي يضع بطله وقصته في سياق لا زمني ولا مكاني، وفي فضاءات معينة شكلاً، ومجازية رمزاً ودلالة، يؤكد من البداية ان كتابة الرواية - هذه على الأقل - عنده، لا تُعنى بمصير الفرد الذي تعرض للمسخ جنسياً. ولا بأي بحث متفرد من أي نوع، ما سبق أن اجترحه في أعمال سابقة، وإنما غايتها تسفيه وتتفيه وإدانة وضع بأكمله، معيّن بتوصيفات محددة في النص، شكله أو خطابه أو سلوكه هو القمع أولاً وأخيراً، باسم خدمة الشعب، والاجهاز على مؤسسات هذا الوضع المعهّرة للمجتمع، والمدمرة للأفراد والقيم والمبادئ. ان رواية "برج العذراء" التي تتحدى القمع والمنع باجتراحهما معاً في صورة خرق "التابو" تكاد تبوح، ببوح مؤلفها، بأنها عمل هادف، ملتزم، وتؤكد مجدداً ان الكاتب، الروائي، في الأدب والعالم العربي هو دائماً صاحب رسالة، والرواية هنا هي رواية الأمثولة. فإلى أي حد ينسجم هذا الموقف مع منزع الغرابة، وخلط السجلات المعهودة للرواية الواقعية. * روائي وناقد مغربي.