الواقع الذي يتناوله الروائي التونسي كمال الرياحي في روايته «المشرط» (دار الساقي، 2012) هو واقع غارق في الشعبية والغرائبية والسوريالية، يجافي السياق الطبيعي للأمور، يكسر المنجز التاريخي، ويضعنا وجهاً لوجه أمام فضاء روائي غريب، سواء على مستوى الشخصيات أو الأحداث التي تنتظمها. وهي غرابة يصنعها المتخيّل الروائي في إحالة على مرجعي غارق في تخلّفه ومكبوتاته. ولعل إمعان التخييل في تشويه الواقع يهدف إلى تعرية هذا المرجعي وتمزيق الأقنعة التي يواري بها وجهه. العالم المرجعي الذي تحيل عليه الرواية يؤمن بالمعتقدات الشعبية من سحر وشعوذة وإحياء الأشجار والحيوانات، فالخرّوبة أم غفور تحرس البيت، والثعبان يُخلى له البيت. وهو عالم سوريالي ينتقل فيه تمثال ابن خلدون من مكانه ويروي مشاهدات عجيبة، يقبض عليه الحارس، يُجامع زوجته، تدهسه شاحنة، يستيقظ تمثالاً في ورشة نحّات عصبي. وهو عالم يُستعمَل فيه الدين لتبرير سلوكيات فردية. وهو عالم تُشكّل الموضوعة الجنسية هاجسه الأكبر، وتحضر في النص على شكل مادة حكائية في مغامرة ابن خلدون والاعتداءات التي مورست بالمشرط، ومادة ضمن حكائية من خلال ورودها في حكايات الحكواتي. وهو عالم ينتمي إلى ما قبل ظهور التلفزيون حين يتحلّق الناس حول الحكواتي الذي «يطل عليهم كل صباح اثنين من عالم طالما اشرأبّت أعناقهم نحوه». (ص 71). إن قراءة الوقائع الروائية، في ضوء التأويل، من شأنها أن تتكشّف عن نتائج خطيرة تعتور الواقع التونسي، واستطراداً العربي، في اللحظة التاريخية التي تتناولها الرواية؛ فالرجوع الى السحر والشعوذة وإحياء الأشجار والحيوانات يُحيل على تغييب العقل والمنطق في تفسير الأحداث واختيار الأفعال والسلوكيات. ونسبة أقوال وأفعال وحكايات إلى تمثال ابن خلدون، واجتياحه من موجات القمل، وضربه وجَلده أمام الخلق، وإعادته إلى مكانه قسراً إنما تحيل على الدرك الذي يتردّى فيه العلم والعلماء. وتوظيف الديني في تسويغ الشخصي يُحيل على استغلاله لمآرب خاصة. وحضور الجنس من خلال الاعتداءات أو الحكايات يتكشّف عن مجتمع مكبوت يتطلّع إلى التنفيس عن كبته باليد (المشرط)، واللسان (الحكاية). على أن اختيار الكاتب وقائع غريبة / عجيبة/ سوريالية للتعبير عن واقع متردٍّ يعود إلى أحد سببين؛ الأول أنه يرى إلى الواقع من منظور عبثي، غرائبي، فيلجأ إلى التعبير عنه روائيّاً من المنظور نفسه، والثاني لجوؤه إلى نوع من التقية الروائية يتحلل بها من تسمية الأشياء بأسمائها، واستطراداً من مسؤوليته عن هذه التسمية. وقد يعود ذلك إلى السببين كليهما. هذه الوقائع الروائية المجافية للمنطق والعقل والطبيعة تنهض بها مجموعة شخصيات تعاني حالات مرضية أو تشوّهات خَلقية. تنتظمها علاقات عابرة تقوم على الشك والريبة، ما يضفي على النص مسحة بوليسية في مكان معين؛ فالنيغرو عبد أسود، فقير، شبه أمّي، مشطوب الوجه. بو لحية قاص وروائي يقع فريسة تخيّلاته، ويصدّقها، وتتعدّد رواياته للواقعة الواحدة. الفنان مجنون بلوحاته، يأكل نفسه مع كل لوحة، يُطرَد من المستشفى لغرابة أطواره وتسلّله داخل غرفة العمليات. السلطان طويل الوجه، غليظ الشفتين، يتمتّع بقدرات جنسية خارقة. الحكواتي حمزة الثابتة كذّاب كبير يتحلّق حوله روّاد المقهى لسماع حكاياته المثيرة. العاهرة سعاد تفقد مهنتها مع التقدّم في السن. ابن الحجاج عاجز جنسيّاً يعوّض عن عجزه بالإثارة. لطفي زوزو منحرف ومثلي. شورّب «رجل غريب بشقرة بربرية بشعة. يشدّ شعره الأصفر الطويل ذيل حصان. وشم الثعبان المخيف يطلّ من تحت القميص الضيّق...» (ص 24). وهو ذو عضلات بارزة وصدر رياضي، يلبس رأس فرعون وصليباً معقوفاً، هو وحش آدمي أشقر. إلى ذلك، ثمة تمثال ابن خلدون الذي ينتقل من مكانه ليعود بحكايات غريبة. ثمة المخّاخ الطائر الغريب ذو الرأس الطويل كرأس البغل والشفاه الغليظة الذي يأكل أدمغة الفضوليين. وهناك النسناس وهو نصف إنسان بنصف رأس ونصف بدن ويد واحدة ورجل واحدة... على أن اللافت في هذه الشخصيات أنّ ما من شخصية سويّة بينها، فكل منها يعاني عيوباً خَلقية أو خُلُقية. والملاحظ أن الكاتب لم يمنح معظمها أسماء بل اكتفى بالكنية او اللقب أو الوظيفة، وهو، بذلك، يقلّل من واقعيتها، ويجعلها تنسجم مع ما ينسب إليها من أدوار، وما تنخرط فيه من أحداث. الفضاء الغرائبي، الشعبي، الذي يرسمه كمال الرياحي في روايته، يختزله على لسان تمثال ابن خلدون، لدى تيهه في مجاهل الشمال، حين يحكي عن «أمّة تتكلم عربية غريبة، أمّة برؤوس طويلة وأجسام عظيمة يكسوها شعر مثل وبر الإبل...»، تأكل الأعشاب، أبناؤها يُسمّون بالمنافيخ، لا تعرف الملح، تصطاد النسناس وتأكله، وفيها شجر البطّوم المنشّط جنسيّاً. وهو، بهذا الاختزال، يقول الكثير عن عالمه المرجعي. هذا الفضاء الروائي العبثي، الغرائبي، يختار كمال الرياحي للتعبير عنه خطاباً روائيّاً يُجاريه في عبثيته، ويمارس هامشاً كبيراً من التجريب. وعلى ملاءمة الخطاب للفضاء، ثمة مفارقة تقتضي الإشارة إليها هي أنه بقدر ما يُحيل الفضاء العبثي، الشعبوي، الغرائبي على عالم مرجعي ما قبل حداثي، فإن الخطاب العبثي، التجريبي، يرتبط بأفق حديث. هكذا، يكون العبثي مرادفاً للتخلّف على المستوى الحكائي، ومرادفاً للحديث على المستوى الخطابي. على أية حال، تتمظهر حداثية الخطاب الروائي في «المشرط» في أن الكاتب ينسف مفهوم «الحكاية» بالمعنى المتداول في الرواية العربية، فنحن لا نقع في النص على حكاية تنمو أحداثها وتتعقّد حبكتها ويأتي حلّها، بل نحن إزاء أحداث متناثرة تطغى عليها الغرابة ولا تشكّل حكاية. ثمة فوضى منظمة تنتظم الأحداث هي أقرب إلى العبث السردي يمارسه الكاتب في إطار التجريب، لكنه عبث مدروس يعتمد خلطة فنية روائية تُفيد من التراث السردي العربي في قصصه الشعبي حين يطغى التخييل الغرائبي وتتناسل الأحداث بعضها من بعض، وتُفيد من تقنيات السرد الحديثة في جنوحها لضرب وحدة الراوي، ونسف مفهوم الحكاية، وكسر خطّية الزمن... يعتمد كمال الرياحي تقنية تعدد الرواة، وفي هذا الإطار، قد تُروى الواقعة الواحدة من منظورات عدة، وتختلف من منظور إلى آخر. ويطعّم نصّه بأخبار صحافية أو تلفزيونية، ومقتبسات كتبية، وتصاريف مشعوذين، ويوميات شخصيات، فيلاقي التنوّع النصّي هذه الخلطة الغريبة، العجيبة، من الأحداث. هذا الخطاب تحمله لغة سردية تؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة، تُقلّ من أدوات الربط، تجنح للتصوير الكاريكاتوري والمبالغة كما في: «بو لحية يتمرّغ بين السطور» (ص66)، و «جرحي يسطّر وخدي طبلٌ يقرع ألمه» (ص67). وقد تعتمد التشخيص كما في: «الشمس تعثّرت في ثوبها...»، و «القمر المخمور لم يظهر هذا المساء»، و «الحانة كعادتها تقذف أحشاءها...» (ص76). وقد تؤنسن المكان «شدّوا خدّي الشارع فانفتح فمه المقرف الأبخر» (ص77). على أن الكاتب يستخدم هذه التوابل البلاغية بمقدار يُطيّب الطبخة النصّية ولا يُفسدها. في «المشرط» يكسر الرياحي مجموعة سياقات؛ يكسر سياقاً لغويّاً فيستخدم أداة «المشرط» في غير ما وُضعت له، ويكسر سياقاً تاريخيّاً فينسب إلى ابن خلدون غرائب الأقوال والأفعال، ويكسر سياقاً طبيعيّاً فيلجأ إلى ما يجافي المنطق الطبيعي، ويكسر سياقاً روائيّاً فينسف مفهوم الحكاية ويمارس عبثاً سرديّاً وفوضى منظّمة. ولعل هذا ما يمنح الرواية اختلافها عن السائد الروائي من دون أن يكون الاختلاف، بالضرورة، قيمة إيجابية. فالتجريب بالمطلق قد تترتّب عليه نتائج وخيمة.