يجوز اعتبار "الواقعية السحرية" الحدث الأدبي الأبرز في النصف الثاني من القرن العشرين. روايات اميركا اللاتينية اجتاحت العالم غرباً وشرقاً، جنوباً وشمالاً. بابلو نيرودا وجد في "مئة عام من العزلة" 1967 الكشف الأهم للغة الإسبانية منذ "دون كيشوت" 1604. صدرت "مئة عام من العزلة" قبل 35 سنة. باعت حتى عام 1999، 30 مليون نسخة في لغات العالم، ولا تزال تمارس تأثيراً ادبياً على كتّاب في القارات الخمس. كيف حصدت رواية ماركيز كل هذا النجاح؟ وبماذا تدين لقصص خورخيه لويس بورخيس 1899 - 1986 وأدبه؟ الناقد العراقي سعيد الغانمي يحلل هنا الجماليات الخاصة بالواقعية السحرية ويحدد مكمن جاذبيتها. كان اكتشاف أدب أميركا اللاتينية بمثابة اكتشاف ثانٍ بعد اكتشاف كرستوفر كولمبوس للقارة البعيدة. وإذا كانت اللغة الإسبانية حصدت لشعرائها أكبر عدد من جوائز نوبل بدءاً من الشاعرة التشيلية غابريلا ميسترال ومروراً ببابلو نيرودا حتى اوكتافيو باث، فإن اكتشاف قدرة الأدب الأميركي اللاتيني على إنتاج أعمال سردية يمكن أن تكون موازية للأعمال السردية الأوروبية جاء بصورة صدمة أُطلق عليها اسم "أدب الواقعية السحرية". وكان هذا المصطلح قد أُطلق أولاً على روايات الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز على وجه الخصوص، لكنه سرعان ما عُمّم ليشمل الرواية الأميركية اللاتينية في كل مكان، وهكذا دخل فيه أدب فارغاس يوسا، وخوان رولفو، وكارلوس فوينتس و... والغريب أن يُستبعد أحياناً من هذا المصطلح أدب الرائد الأول في هذا الاتجاه، وهو الأرجنتيني خ. ل. بورخيس، الذي ترجمت أعماله منذ بواكير الستينات، وأن يطلق على أدبه لقب آخر هو: الفنتازيا المنطقية. ولعلّ السبب في ذلك يكمن في كون بورخيس لم يكتب عملاً روائياً على الإطلاق، بل اكتفى بكتابة القصص والقصائد والنصوص المفتوحة القصيرة غير الخاضعة للتجنيس. ولكننا، إذا ما تأملنا في الفارق بين مصطلح الواقعية السحرية ومصطلح الفنتازيا المنطقية، لم نجد اختلافاً كبيراً. إذ يدلّ المصطلحان على إعادة ترتيب الواقع ببث الغرابة فيه على نحوٍ مفهوم ومعقول. ولا تكتفي أعمال بورخيس بتحدي القدرة على التصنيف الأدبي وحسب، بل تحاول تحدي التصنيف المألوف للواقع بتقديم واقع آخر ممكن وغير موجود ولكنه منطقي ومعقول. وإذا تفحصنا الخواص البنائية في روايات ماركيز المميزة التي خلقت شهرته، ولعلّها أسهمت إسهاماً مباشراً في إيجاد هذا المصطلح، وهي "مئة عام من العزلة" و"خريف البطريرك" و"قصة موت معلن"، لوجدنا أن "مئة عام من العزلة" عمل ملحمي ضخم يستغرق زمنه الواقعي عمر أجيال عدّة، وتتنبأ بداياته بما سيقع في نهاياته. وفي ما بين ذلك يزدحم بأفعال سردية ثانوية تتعلّق بسيرة مدينته الخيالية ماكوندو. أمّا في "خريف البطريرك" فقد حاول ماركيز، خلخلة فكرة الأجناس الأدبية المستقرة وإحداث تداخل ومزج بينها، إذ مزج بين السرد والشعر، وقد وصف هو نفسه هذه الرواية بالذات بأنها قصيدة نثر طويلة. لكنّ هذه السمة تحديداً تعود إلى بورخيس في أعماله المفتوحة غير الخاضعة للتجنيس، ولا سيّما كتاب "الصانع". والسبب في غرابة هذا الصنف الجديد وطرافته أنّ الرواية تعتمد على تعاقب الأفعال والأحداث، بينما يعتمد الشعر على تعاقب الألفاظ والكلمات. ومن هنا فإن ذهن قارئ الرواية ينصرف في العادة نحو ترتيب الأفعال، بينما ينصرف ذهن قارئ الشعر نحو ترتيب الكلمات. ويتذكر قارئ الرواية الأحداث والفصول، بينما يتذكر قارئ الشعر الكلمات والصور. ورواية "قصة موت معلن" قصة ذات بناء بوليسي، يحاول بطلها الهرب من محاولة قتله من دون أن يفلح، لأنّ كل شئ يسير خلافاً لما يريد. بل إن أمّه نفسها التي تريد تخليصه من قاتليه تسهم في قتله، فتحكم إغلاق الباب في اللحظة نفسها التي بدأ يطرق عليه ويستحثّها على فتحه. وليس من شك في أن قيمة أعمال ماركيز لا تكمن في التفاصيل المجتزأة عن بعضها، بل في ربط هذه التفاصيل وإعطائها الصفة الموهمة بكون الواقع غريباً وغير ممكن، على رغم تكرار حصوله اليومي. ويمكننا باختصار تسمية هذه الصفة أو السمة باسم الإيهام بالواقع. وهذا ما يستدعي منا في نهاية الأمر أن نعيد النظر في مفهوم الواقع نفسه وصلته بالعمل الأدبي. ويمكننا القول إن مصطلح الواقعية السحرية ينتمي إلى سلالة من المصطلحات التي يعود أقدمها إلى منتصف القرن التاسع عشر، حقبة الرأسمالية الصناعية: الواقعية الكلاسيكية، الواقعية التعبيرية، الواقعية الاشتراكية، الواقعية النقدية، الواقعية الأميركية. وعلى رغم اختصاص كل واقعية من هذه الواقعيات بملمح مميز، فإنها تتفق جميعاً في فهمها الإيديولوجي للواقع. تمتاز الواقعية الكلاسيكية، مثلاً، بالراوي العليم. وتمتاز الواقعية التعبيرية باعتقادها بإمكان نقل الواقع حرفياً، والأدب في تصورها مجرد تعبير وانعكاس للواقع. بينما تؤمن الواقعية الاشتراكية بأن تقتصر رسالة الأدب على التبشير الإيديولوجي. في حين آثرت الواقعية الأميركية اللجوء إلى لغة صحافية للتعبير عن الحياة اليومية. في كل هذه النسخ من الواقعية هناك تواطؤ إيديولوجي بين الكاتب والقارئ على أن الواقع شئ مألوف ومتكرر وواضح بذاته، وأن فهمه لا يتطلب سوى تفاعل هاتين الذاتين لبلورة صورة عنه. في الواقعية السحرية، لم يعد الواقع واقعياً. لقد صار الواقع نفسه سحراً، أي إيهاماً بالواقع. ومن هنا فالواقعية السحرية تقوم بوظيفتين في وقت واحد: الأولى زرع الغموض والسحر في الواقع، والثانية تبديد هذا السحر والغموض. وبالتالي يتحوّل السحر من وسيلة سردية، كما كان في الأعمال الأدبية ذات الطابع الكرنفالي، إلى إيديولوجيا مستترة يجري تسريبها وإخفاؤها في وقت واحد. وهذا هو مصدر جاذبية هذه الرواية. فهي من حيث الظاهر تنتمي إلى سلسلة الواقعيات السابقة وتشترك معها في الزعم بوجود واقع قابل للتمثيل وممكن النقل، لكنها سرعان ما تعود إلى تحويل هذا الواقع نفسه وتفريغه من شحنته الواقعية بالزعم أنه يتكوّن من حمولة سحرية تخلخل التواطؤ السابق المشترك بين كاتب النص الواقعي وقارئه. لتوضيح هذه الفكرة دعونا نقارن بين بعض الصور السحرية في روايات ماركيز ونظائرها في الأعمال الكرنفالية والفنتازية. في "مائة عام من العزلة" جعل الراوي ريميدوس الجميلة تطير في السماء. كانت خرجت لنشر الغسيل، وإذ استهوتها الملاءات التي راحت تتطاير في الهواء، أخذت هي نفسها بالطيران. لكن السؤال هو بماذا يختلف طيرانها من حيث هو وسيلة سردية عن طيران حسن الصائغ البصري في "ألف ليلة وليلة" مثلاً؟ وبماذا يختلف ميلاد صبي بذيل خنزير، مثلاً، عن تحوّل إنسان إلى كلب أو حمار في "ألف ليلة وليلة"، أو تحول غريغور سامسا إلى حشرة في رواية المسخ لكافكا. من الناحية البنائية لا يوجد اختلاف بين رسم الصورتين. لكن الاختلاف يكمن في الوظيفة الإيديولوجية للصورتين. لأن روايات ماركيز لا تريد لهذا التحول أو الطيران أن يكون مجرد وسيلة سردية لحل معضلة الانتقال من عالم إلى آخر، بل هي تريد أن تظلّ لصيقة بهذا العالم أو الواقع، فتضخ فيه السحر وتبدده في وقت واحد. إن الواقع نفسه مصنوع، في الرواية الواقعية السحرية، من كتلة سحرية لا بد من تبديد غموضها.وكذلك الحال مع مشهد عبث الأبقار في القصر الرئاسي، في "خريف البطريرك"، إذ لا يكاد هذا المشهد يختلف من الناحية البنائية، عن مشاهد كثيرة في أعمال كرنفالية يتبادل فيها السادة والعبيد أو الملوك والشحاذون الأدوار، لينتقم كلٌّ منهما من الآخر. لكن الاختلاف بينهما يكمن في الوظيفة الإيديولوجية لهذا السحر، إذ ينطوي هذا المشهد على لمسة حنان يحيط بها ماركيز عزلة السلطة الشمولية. هناك وسائل كثيرة يتحقق عبرها هذا الاتفاق على مفهوم الواقع، ويأتي في مقدم هذه الوسائل مفهوم الشخصية الجوهرية كما مارسته الرواية الواقعية الكلاسيكية .ومن المعروف أن رواية القرن التاسع عشر والنسخ الأخرى المتولدة منها كانت تؤمن بوجود أنماط ثابتة لتصرف الشخصيات ولا محيد عنها. ولكل شخصية هوية مطلقة محددة ما إن تضعها في مكان حتى تستطيع أن تتنبأ بما سيصدر عنها من سلوك. ويشارك القارئ مشاركة فاعلة في توقع نمط السلوك الصادر. وبسبب ذلك يبدو كما لو أن للنص الواقعي الكلاسيكي بنية لغز. يحتفظ المؤلف بين يديه بالخيوط التي تفضي إلى انكشاف الحقيقة، ويبقي عليها مخفية عن القارئ. وفي لحظة ما يصارح بها القارئ. غير ان هذه اللحظة هي خاتمة الرواية. على العكس من ذلك، تتصرف الرواية الواقعية السحرية، لأن المؤلف قد يكشف للقارئ ما سيقع من أحداث قبل وقوعها. وقد يلجأ إلى هذا الأسلوب في رواية ذات بنية بوليسية تعتمد أصلاً على تعليق القارئ وإخفاء بعض الأحداث عنه. ويبدو أن السبب في هذا الميل إلى الوضوح هو أن الرواية الواقعية السحرية لا تعتمد على ثبات الشخصية، ولا تستند إلى جعل سياق ترتيب الأفعال في النص هو قوام فاعليتها، بل يكمن سحر هذه الرواية في حركية شخصياتها، وتغير دلالات الإيحاء التي تحيط بالأفعال فيها.