خلال اليومين المقبلين، غداً وبعد غد تقام في بيروت تظاهرة باتت، كما يبدو سنوية، هي تظاهرة ليلة "البوبليفور" ملتهمو الإعلانات التي يشاهد خلالها جمهور يتجمع في قاعة اليونيسكو، ولمدة ست ساعات على الأقل، مئات الشرائط الإعلانية القصيرة. والحال ان المسألة، على ضوء التطور الحاصل في إنتاج الفيلم الإعلاني، في العالم، كما في لبنان، لم تعد تحديداً مسألة دعاية وإعلان، بل صار الإعلان، في افضل حالاته، جزءاً من الفنون الجميلة... ومن هنا اذا كانت هذه السهرة تدعو الى استهلاك شيء، والتهام شيء، فإنما هو الشرائط الإعلانية نفسها، إذ اضحى الإعلان جزءاً من يومية حياتنا، ومن مذاقاتنا الفنية، ناهيك بكونه دعوة الى التهام كل شيء وأي شيء. عند مدخل المترو يلتقي احد علماء النفس شحاذاً اعمى ليسأله: كم تكسب؟ ويجيب الأعمى: من 6 الى 12 دولاراً. وهل تحب ان تكسب اكثر؟ بالطبع. عندئذ يتناول العالم النفسي اللوح الموضوع امام الضرير والمكتوب عليه "أعمى"، ويضيف عبارة: "إنه الربيع، لكني لا أراه". بعد ذلك يزداد دخل الأعمى الى ثلاثة اضعاف ما كان عليه في السابق. تعبر الحكاية اصدق تعبير عن اهمية إخراج الإعلان وتسخير الفكرة في الاستهلاك التجاري والسياسي والإيديولوجي، فالوصول الى الهدف هو الأساس وهدف كل إعلان اقناع المستهلك ترويجاً للسلعة ولو من طريق التجميل والمبالغة... وصولاً الى درجة التحايل والكذب... حينما عنون رائد الإعلان الفرنسي الحديث جاك سيغيلا كتاباً يروي فيه حياته ومهنته ب"لا تقولوا لأمي انني اعمل في الإعلان فهي تعتقدني عازف بيانو في بيت دعارة". استظرف كثر العنوان منوهين بطرافته. ولكن ومن دون ان يدركوا مرماه الحقيقي واحتاجوا لقراءة الكتاب مرتين وأكثر لكي يفهموا ماهية الإعلان كما رآه سيغيلا: "مهنة تقوم على الكذب والمخادعة وبيع الناس ما لا يحتاجونه عبر إقناعهم بأنهم في امس الحاجة إليه". قد لا يكون هذا الحكم على الإعلان صحيحاً، لكن كثرة تؤمن به على رغم انها اول من يقع في فخه. فمن ذا الذي يمكنه يا ترى ان يقاوم هجمة إعلانية يومية تقنعه بأن المسوق الفلاني افضل من الآخر وبأن المشروب العلاّني اكثر سلامة، أو شركة الطيران الفلانية توصله بسلامة لا توصله بها الشركة المنافسة؟ في الحقيقة ان الإعلان اضحى في ايامنا هذه جزءاً اساسياً من الاستهلاك ومن السوق ومن العولمة بالتالي، وفي هذا الإطار كان في امكاننا ان نصدق المخرج الإيطالي الكبير فريدريكو فيلليني حينما قال يوماً ان معركته الكبرى والخاسرة هي المعركة ضد الإعلان: الإعلان كلوحات تشوّه فضاء المدينة، كشرائط تلفزيونية تقطع سياق عرض افلامه، وكنتاجات بصرية يحققها اناس غير موهوبين. لكن فيلليني نفسه الذي قدّم في فيلمه القصير "إغواء الدكتور انطونيو" اقسى مرافعة سينمائية ضد الإعلان، حقق قبل موته مجموعة من الإعلانات، فهل معنى هذا انه غيّر رأيه؟ ابداً كل ما في الأمر انه وجد مبرراً عبر القول إن دخول كبار المخرجين عالم الإعلان سيرفع من شأن الذوق البصري وقد يخفف من مخادعة هذا الفن. نبوءة تحققت هذه النبوءة لفيلليني تحققت على اية حال، فالإعلان صار اليوم في حد ذاته فناً جميلاً بصرف النظر احياناً عن البضاعة التي يعلن عنها بل انه صار ايضاً مدرسة تخرج سينمائيين كباراً. ولعلّ المثال الأبرز في هذا الإطار هو ما يقدّمه النموذج اللبناني في إعلان ذي مستوى رفيع في ضوء شحّ الأعمال السينمائية بسبب ضعف الإمكانات المادية وتوجّه الخامات الفنية الى مجال الإعلان وهكذا عندما نعي ما وصل إليه الإعلان في لبنان من اهمية، لا نعود نستغرب فكرة ان تكون بيروت محطة اساسية في جولة ذلك الحدث الإعلاني العالمي الذي ينظم منذ اكثر من عشرين عاماً في اكثر من 160 مدينة من ميلانو الى جاكرتا، وارسو الى هونغ كونغ، برلين الى نوفو سبيرسك وحتى بغداد، فيعرض ما يقارب الخمسمئة فيلم إعلاني جمعت من كل انحاء العالم في اضخم استعراض إعلاني... "ليلة البوبليفور" ليلة ملتهمي الإعلان وهذا الحدث الذي تنظمه شركة "ماجيك بوكس ايفنتس" للسنة الثانية على التوالي بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي بات موعداً تنتظره بيروت بشغف كبير، إذ يتحول الليل الى وقفة مع الإعلان على مدى ست ساعات متواصلة. صحيح ليلة "البوبليفور" هي حدث فرنسي إلا انها ليست إطلاقاً مهرجاناً فرنكوفونياً حصرياً حتى ولو كانت البعثة الثقافية الفرنسية في لبنان هي التي تدعمه. والسبب ان الأفلام معروضة بكل اللغات من العربية الى الإنكليزية ومن الفرنسية الى الصينية... فالإعلان يتخطى حدود اللغة ويتجاوز العقبات الجغرافية: إنه في حد ذاته لغة خاصة لا تحتاج الى أي تفسير او تأويل... أبو فؤاد؟؟؟ للمناسبة من الواضح انه لا يمكن الحديث عن الإعلان من دون التطرق الى بعده الطوبوغرافي، مثلاً إعلان سوني بالنيون الكبير يعلمنا حكماً اننا في قلب ساحة بيكاديللي في لندن. وفي لبنان فإن إعلان "ابو فؤاد" التلفزيوني الذي يعتبره كثيرون بداية للصناعة الإعلانية الجادة قد رسّخ في ذهن الجمهور كعلامة عن بداية الحرب اللبنانية وانتهائها. ومسيرة الإعلان في لبنان مسيرة مثمرة، الكل فيها راح يتكلم لغة "أبو فؤاد" هذا الرجل الستيني الذي اضحى مع الوقت اكثر من مجرد رمز للسلعة التي يمثلها حين دخل الميثولوجيا اللبنانية بشهادة الكثر، ليضاف الى لائحة ابو ملحم وأبو سليم وغيرهم ممن طبعوا الذاكرة اللبنانية قبل الحرب بصور وحكايات من المستحيل ان تخرج بسهولة من قلوب مشاهديها القابعين حينها تحت صدمة دخول الشاشة الصغيرة بيوتهم. بالأمس كان "أبو فؤاد ...3 بواحد" صورة لافتة لتاريخ الإعلان في لبنان، واليوم آلاف الإعلانات تحمل تواقيع مواهب لبنانية شابة تنبئ بمستقبل زاهر لهذه المهنة التي راحت في السنوات الأخيرة تقترب شيئاً فشيئاً نحو العالمية... في ذاك الزمن كان هناك على اية حال استخفاف بما قد يمثله الإعلان اياً كان في وجدان الناس، اما في زمننا الراهن فثمة ايمان مطلق ووعي حقيقي لقدرة الإعلان في اقتحام القلوب والعقول ايضاً... مسيرة الإعلان في لبنان مسيرة مستمرة. "أبو فؤاد... 3 بواحد" آخر إعلان شاهده اللبنانيون قبل الحرب، وهو ايضاً أول الإعلانات التي ظهرت على المشاهدين بعد الحرب. والتطور كان نتيجة الفاصل الزمني الذي يفصل بين المرحلتين: الفتاة الصغيرة كبرت وأضحت امرأة ناضجة اما أبو فؤاد فبقي هو هو بنظاراته المميزة وطيبته الزائدة... احترافية وتطور ابو فؤاد بقي هو هو اما صناعة الإعلان في لبنان فوصلت الى ما لم يكن في الحسبان، إذ شهدت خلال فترة قصيرة تطوراً وتقدماً لافتين لناحية الفكرة والتقنية والإخراج وفي شكل خاص من ناحية أداء الممثلين العفوي والبعيد من التصنع على عكس بقية الصناعات التلفزيونية من افلام ومسلسلات. ولا نغالي ان قلنا ان كثيرين وخلافاً للسائد، باتوا ينتظرون بين كل برنامج وآخر بشوق وترقب الوقفة مع الإعلان، فما مدى صحة هذه الظاهرة، وإلامَ يعود ذلك؟ بنظرة بانورامية على ما يعرض اليوم على شاشاتنا الصغيرة ارى ان غالبية البرامج المحلية بعيدة كل البعد من الواقع الذي نعيشه، اذ يحاول في شكل فاشل محاكاة قصص لا تشبهنا فتأتي الصورة متزلفة ومتصنعة في آن، الأمر الذي لا ينطبق بتاتاً على الإعلانات التي كما يبدو فهم اصحابها قوانين اللعبة فجاءت مبسطة، حقيقية، اقرب ما يكون الى واقع الناس، بذكاء واضح وحنكة لا مجال لنكرانها. والحقيقة ا نه مع إدراك اهمية دور الإعلان المرئي في اجتذاب الجمهور بواسطة الصورة والصوت في ظل تطور وسائل العمل الإعلامي وأساليبه لناحية التقنية والتخصصية المترافقة مع الإنتاجات الضخمة، اتجهت المؤسسات والشركات التجارية المختلفة الى التركيز على الإعلان التلفزيوني لجذب المشاهدين الى ما تقدمه هذه المؤسسات والشركات من سلع ومنتوجات وبالتالي حمل المستهلك على شرائها... وهكذا بات من الضروري انشاء مؤسسات خاصة تعنى بالعمل الإعلاني وتتابعه من الألف الى الياء، فولدت من رحم هذه الحاجة شركات راحت تزداد يوماً بعد يوم، الأمر الذي ولّد منافسة حقيقية فيما بينها، ما ساهم في شكل كبير في نجاحها... مهما يكن من أمر، باتت صناعة الإعلان في لبنان مثلها مثل صناعة الفيديو كليب، الخلاص الذي يتمسك به جيل كامل من السينمائيين الشباب عندما وجدوا على طريقتهم سبيلاً للعمل بانتظار تحقيق حلمهم بقيام صناعة سينمائية حقيقية لم يملّوا انتظارها ابداً...