لم تعد هناك جدوى من الحديث عن اهمية الأوسكار بالنسبة الى صناعة السينما في هوليوود. وعن السؤال عما اذا كانت الافلام الاميركية المتهافتة عليه، تستفيد منه مادياً ام لا. واذا ما كان يمنح على هذا الأساس الفني او لتلك الغاية التجارية. الحديث في هذ الشأن طال وتكرر ولم يعد يجدي حتى في اطار الغاية منه. الجديد، اذا أردت، هو انه بات مهماً جداً للأفلام غير الاميركية، فالحصول عليه هو مكافأة سخية تطرح الفيلم بثبات اكثر في السوق الاميركية والعالمية وتساعده على تجاوز ايراداته المحدودة او تحقيق ارباح طائلة كما فعل في العام الماضي "الحياة حلوة" لروبرتو بنيني الذي اضاف نحو مئة مليون دولار الى ما كان جناه قبل نيله الاوسكار، لترتفع مجمل ايراداته العالمية الى اكثر من 240 مليون دولار. وبما ان الفيلم غير الاميركي هو فيلم فني أساساً، فان الأوسكار حقنة في شريان السينما، التي لا تعرف نجوماً عالميين او الامكانيات التي عادة ما تتمتع به الانتاجات الاميركية ذاتها. اسأل اي مخرج لديه فيلم من تلك المعتبرة فنية او صعبة الترويج تراه يتمنى لو انه يرشح للأوسكار رسمياً ويتمنى اكثر لو ناله. والأهمية هي ايضاً عند الطرف الآخر: اكاديمية العلوم والفنون السينمائية مانحة الأوسكار باتت تدرك اكثر من ذي قبل اهمية هذه الافلام كعنصر جذب للجمهور. اكثر فأكثر ينتشر فعل مشاهدة حفلة توزيع الجوائز دائماً في الاسبوع الاخير من الشهر الثالث بين مشاهدين من كل انحاء العالم. هذا يعني مزيداً من الاعلانات ومزيداً من الأموال الوافدة ولو ان الأكاديمية مسجلة كشركة غير تجارية لا يحق لها استثمار ايراداتها في روافد تجارية. فيلم لبناني قبل اسبوعين اعلنت الاكاديمية عن الدول التي تقدمت بأفلامها للعروض بغية قيام اعضاء الأكاديمية اختيار الخمسة التي ستدخل مسابقة اوسكار افضل فيلم اجنبي. المرحلة الحالية هي مرحلة اختيار اولى نتيجتها تسمية الافلام الخمسة المرشحة ترشيحاً رسمياً. وحسب الأكاديمية التي توزع منذ مطلع هذا الشهر نشرة يومية بأخبارها، فان عدد الدول المشتركة افلامها في هذه المرحلة الاولى وصل الى 47 دولة وهو رقم أعلى من اي رقم مضى. من بين هذه الدول يبرز، لدينا على الاقل اسم لبنان. فيلم "حول البيت الوردي" لجوانا حجي توما وخليل جريج يعرض الآن على اعضاء الأكاديمية لعل وعسى. لكن المهمة تتطلب، لكي تنجح عنصر المال الذي يؤمن في الدرجة الاولى مكتب علاقات ترويجية يقوم فرض الفيلم على مشاهديه بالدعوة الى مشاهدته في عروض تقام خصيصاً وبإرسال اشرطة الفيديو والقيام بحملة ترويجية قد تتضمن ايضا اعلانات في الصحف. لكن الى الآن ليس لدى "البيت الوردي" شركة توزيع اميركية تقوم بالانفاق على هذه الحملة، ما يعني ان فرص الوصول الى الترشحات الرسمية بعيدة جداً. وكان فيلم زياد الدويري "بيروت الغربية" ترشيح لبنان في العام السابق ليس فقط لجائزة الأوسكار بل ايضاً لجائزة "غولدن غلوب" التي توزع في الشهر الاول من كل عام من قبل جمعية المراسلين الأجانب في هوليوود. بعد اكثر من خمسين سنة على انشائها اصبحت هذه الجائزة مهمة لهوليوود كمدخل شبه مؤكد للوصول الى الاوسكار، حيث ان معظم الأفلام ومعظم الشخصيات التي ترشح رسمياً لجائزة الأشهر ترشح قبل ذلك لجائزة "الغولدن غلوب" ما يعني ان جزءاً كبيراً من الحملة الترويجية تم تلقائياً. احد افضل الافلام المعروضة حالياً برسم الترشيحات الرسمية يجب ان يكون ذلك الفيلم الايراني الرائع "لون الفردوس" لماجد ماجيدي. اذا ما نزعت القشور البراقة التي تحيط بالسينما الايرانية هذه الأيام والتي تجعل من افلام جافة اشبه بمشاريع لم ينته العمل عليها بعد، تجد ان قلة من الأفلام الايرانية تستحق، سينمائياً وليس فقط اعلامياً، البريق الخاطف المحيط بها. يخطر على البال فيلم "البساط" لعباس كيورستامي و"التفاحة" لسميرة مخملباف و"مسافر من الجنوب" لبرفيز شهبازي. "لون الفردوس" ينضم الى هذه الافلام التي عولجت بمزيج من المضمون والفن فتميزت عن غيرها التي انتهجت مبدأ الرسالة الاجتماعية وحدها. "لون الفردوس" يتحدث عن صبي اعمى في نهاية الفصل الدراسي في طهران. يأتي ابوه من القرية لكي يعرض على المدرسة ابقاء الصبي في رعايتها، ثم يجبر على اصطحابه. الأب يحب ابنه بلا ريب، لكنه في سبيل الزواج مجدداً بعد خمس سنوات من وفاة زوجته ولا يريد لابنه الأعمى ان يكون عقبة في سبيل البحث عن الفتاة التي ترضى الزواج به. بعد رحلة طويلة يصلان الى القرية حيث تستقبل الجدة أم الأب حفيدها بحب شديد. وهناك تلك المشاهد العديدة التي تجسد علاقة الصبي بالطبيعة من خلال السمع واللمس. لكن الفيلم ليس مجرد تعبير عن ملاحظات فردية، بل سرعان ما ينجلي عن بلورة درامية فعالة وذلك على الرغم من ضعف في التركيبة الواقعية للمشاهد النهائية. الأب يتخلص من ابنه بإرساله الى منشرة يديرها نجار أعمى محترف. الجدة تحزن لهذا الفعل فتقرر ترك البيت في يوم عاصف. يلحق بها ابنها ويعيدها منهوكة القوى الى البيت حيث تموت بعد ايام وبموتها يقرر اهل العروس صرف النظر عن تزويج ابنتهم لرجل لديه مشاكل لا يمكن التغاضي عنها. اذ لم يبق لدى الرجل سوى قناعاته بأن حياته عبارة عن سلسلة من التراجيديات، يعود الى النجار ويحضر ابنه من عنده. لكن فصلاً تراجيدياً آخر في الانتظار وهو الفصل الأضعف بين حلقات الفيلم والوحيد غير المقنع على النحو الذي صور عليه. على الرغم من ذلك هذا فيلم يبقى ماثلاً في البال طويلاً بسبب طبيعته. حب المخرج للطبيعة واعتنائه بتصويرها وتصوير الحياة الفردية فيها. مشاهده الصامته تذكرنا بأفلام اندريه تاركوفسكي والايطالي أرمانو أولمي. صامتة. موحية. متأملة وجميلة. وهناك قصة ولد آخر لكن في فيلم من العجيب فعلاً ان يتسلل حتى لهذا المستوى التمهيدي من العروض. انه الفيلم الفيليبيني "طائرة الورق" لجيل بورتس: قصة إبن شرطي يشهد قيام أبيه بقتل صبي كان يلعب بطائرة الورق معتقداً أنه لص. الأب لا يعلم ان ابنه شاهده وينفي انه مطلق النار، لكن الإبن يعايش أزمة داخلية نفهم أنها حادة بسبب الموسيقى التي تصاحب مشاهد الإبن أو بسبب طبيعة المعالجة الميلودرامية المتثاقلة والممطوطة. ومثل أفلام مصرية طرقت هذا الدرب من قبل هناك مشاهد تريد إبراز الصراع الداخلي في ذات الأب فتقوم الكاميرا بالإنقضاض على حركات معلنة ووجه متلبد مع موسيقى مناسبة تصدح من مكان ما. من اليابان هناك "كوكيجيرو" لتاكيشي كيتانو وهو ايضاً عن ولد ورجل: الأول صبي ينطلق باحثاً عن عنوان إبنه البعيد في الأرياف والثاني رجل عادي يتوهم نفسه أحياناً فرداً في عصابة أو ممثلاً في فيلم بوليسي، لكنه إنسان في الأساس ساذج يقرر ايصاله الى مبتغاه. ليس أفضل ما أخرجه كيتانو "سوناتين"، "شرطي عنيف"، "هانا باي" لكنه يبقى عملاً جيداً في مسيرة المخرج وفي نطاق الأفلام التي تستغل رحلة ما لتمعن في محطاتها المختلفة. والولد في الفيلم الاسباني "كل شيء عن أمي" لبدرو المادوفار، مفقود. يموت بعد نحو عشر دقائق من بداية الفيلم، لكنه موجود من خلال سعي الأم البحث عن أبيه. هذا ايضاً ليس أفضل أفلام المخرج لكنه واحد من أرجها حالياً. الفيلم الطاجكستاني المرة الأولى الدولة المذكورة في الأوسكار هو "لونا بابا": فتاة يغوي بها ممثل متجول فتحمل منه. والدها يريد طمر العار بالبحث عن الرجل وتزويجه ابنته أو قتله. بين الكوميديا والعنصر المتأتي من مشاهد شبه رمزية/ شبه سوريالية بكاميرا دائمة القفز كما لو كانت مثبتة على لولب نطّاط راسور. الفيلم الروسي الأفضل لهذا العام هو "مولوك" لالكسندر زوخوروف. استقبل بنصف حماس عندما عرض في "كان" الأخير، لكنه يستحق نظرة أفضل اذا ما خلا الناقد بنفسه بعيداً عن أجواء "كان" القائمة على عوامل من الهالات البارقة. ساعتان من سينما دارسة ليومين من حياة هتلر في مأواه الجبلي خارج برلين مع أعوانه وبصحبة عشيقته ايفا براون. زوخوروف ينجح في التقاط نسيج العلاقة بين هتلر وعشيقته ويصل الى التجسيد بهتها حيناً وعاطفتها المكبوتة حيناً. وهو لا يرى هتلر ملوناً، اذ ليس هو بالانسان الممكن التعاطف معه، لكنه ليس أيضاً بالشرير الجاهز كما صور دوماً في الأفلام الأخرى. فرنسا وايطاليا هما الدولتان الأكثر تنافساً على الأوسكارات الأجنبية منذ بدايته، وهذا العام يرمي كل منهما بعمل يستحق الإهتمام: "شرق/غرب" ريجيس فرنييه يصطحب زوجة فرنسية الى روسيا ما قبل انهيار الجدار. زوجها طبيب روسي الأصل يقرر الاستفادة من عرض ستالين بالعفو الشامل والعودة الى بلاده ولا يدرك خطأ فعلته الا عندما يصل الى هناك. هناك الكثير مما يحدث في الفيلم والقليل المقنع ما يجعل العمل يبدو كما لو كان انتاجاً متأخراً لجهة معادية للأنظمة البائدة. فرنييه الذي أبدع في "اندوشين" يعالج موضوعه على نحو منفعل وصادق في اندفاعه لكن الحاصل لا يخرج عن نطاق تسلية متكلفة. الفيلم الايطالي "ليس من هذه الأرض" يتحدث عن راهبة تجد طفلاً في حديقة فتبحث عن أمه بعدما أودعته المستشفى. للوصول الى الأم تتبع أثراً وحيدا: سترة عليها اسم محل التنظيف وصاحب المحل إنسان وحيد وحزين الى ان يجد نفسه في حب هذه الراهبة التي تجد نفسها في المقابل، في حب الطفل. هناك فيلم ايطالي آخر أقوى تأثيراً هو "اسطورة 1900" لجوزيبي تورنتاتوري "سينما باراديزو" لكنه فيلم ناطق بالانكليزية ما يجعله من تلك الأعمال الكثيرة التي تأمل باختراق الأوسكار الأميركي وليس الأجنبي.