في نهاية أيلول سبتمبر بلغ عدد قتلى القوات الأميركية في العراق 308 رجال ونساء. هذه حقيقة. تزامن صدور الرقم السابق مع خبر يقول ان الجندية ليندا اندوز، وعمرها 24 سنة، قتلت عندما صدمتها سيارة مدنية قرب اوفرلاند بارك في ولاية كانزاس وهي في اجازة من الخدمة في العراق مع فرقة النقل 129. "فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". هذه حقيقة ثانية. ما ليس حقيقة هو الاصرار على أسباب ثبت بوجه نهائي قاطع انها كاذبة، فالعراق لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، ولم يهدد بالتالي أمن المنطقة أو العالم، وهو بالتأكيد لم يهدد أمن الولاياتالمتحدة يوماً. مع ذلك يبدو المسؤولون الأميركيون والبريطانيون، وكأنهم أخذتهم العزة بالإثم، فكل واحد منهم يصرّ بدوره على أسلحة العراق وتهديده، وكأن المستمعين أطفال أو متخلفون عقلياً. وقد عدت قبل أيام من زيارة للولايات المتحدة شملت يومي احد، وهذا يوم من تقاليده ان تستضيف شبكات التلفزيون الكبرى في الصباح كبار المسؤولين للحديث عن قضايا الساعة. وسمعت أركان الادارة كلهم، حتى ان مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس ظهرت في برنامجين الأحد الماضي، يصرون على الكذبة، ما ذكّرني بالسيئ الذكر غوبلز وحديثه عن ترديد الكذبة حتى يصدقها الناس. وأربأ بالمسؤولين الأميركيين ان يمارسوا هذا النوع من الدعاية السوداء. غير انني لا أفهم الاصرار على الخطأ بدل تجاوزه الى ايجابيات إطاحة صدام، وما يمكن ان تفعل الولاياتالمتحدة لمساعدة العراقيين على اعادة بناء بلدهم، والسير في طريق الديموقراطية. مشكلتي مع الاصرار على الخطأ، كمواطن عربي، انني لا أعود أصدّق بقية الكلام لادراكي ان قاعدته غير صحيحة. وقد سمعت الآنسة رايس، وهي أكاديمية محترمة، تقول ان العراق سيكون نموذجاً في التجربة الديموقراطية لبقية بلدان المنطقة، ولكن كيف أصدق هذا، وقد سبقه الاصرار على الأسلحة المزعومة، ورافقه استمرار انهيار الوضع الأمني. الغريب في موضوع الأسلحة هو التكرار، مع ان الحكمة تقول ان يصمت من كذب حتى ينسى الناس، خصوصاً ان بعض الأميركيين يرفض ان يصدّق، وقد سمعت كبير المفتشين الأميركيين ديفيد كاي يقول ان لا أسلحة ممنوعة في العراق، ما يعني إغلاق الموضوع لأن الرجل أرسل على ألوف المفتشين، وهم حاولوا جهدهم ولم يجدوا شيئاً، ولا يجوز ان جزءاً من الحكومة الأميركية يقول لا أسلحة، وان جزءاً آخر يصرّ على وجود الأسلحة. السناتور ادوارد كنيدي، وهو من أعمدة الكونغرس، انتقد موقف الادارة بحدّة، وسمعت هوارد دين، الذي يحاول الفوز بترشيح الحزب الديموقراطي للرئاسة، يقول ان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوفيتز يجب ان يستقيلا بسبب العراق. وهو كان دعا قبل ذلك الى استقالة جورج تنيت، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، للأسباب نفسها. أمس فقط كان وزير الخارجية البريطاني جاك سترو يصرّ على كذبة الأسلحة في مقابلة تلفزيونية. في الوقت نفسه، نشرت الصحف الأميركية اعلانات من جهات معادية للحرب مثل منظمة "الفوز من دون حرب"، ورأيت في اعلان شغل صفحة كاملة في "نيويورك تايمز" المواطن الأميركي لاري سيفرسون يطالب باستقالة رامسفيلد، ويقول ان له ثلاثة أبناء، منهم اثنان يخدمان في العراق، وقد خان رامسفيلد ابناءه والأمة ويجب ان يذهب. وضمت وكالة استخبارات الدفاع صوتها الى جوقة المعارضين، أو المحتجين، فسرّب عنها تقرير يقول ان المعلومات التي وفّرها أحمد الجلبي والمجلس الوطني العراقي واستخدمها البنتاغون كانت زائفة. طبعاً هي زائفة فقد صدرت عن معارضين للحكم ومنشقين يفترض ان يزوّروا المعلومات أو يبالغوا فيها لخدمة هدفهم المعروف، وأنا لا ألومهم، وإنما ألوم من صدّقهم لأن كذبهم ناسبه. الواقع انني ألومه مرّتين، الأولى للتصديق، والثانية لاكتشاف الكذب "فجأة" قبل يومين، فقد تعرّض الجلبي والمؤتمر فجأة الى حملة آذنت بنهاية شهر العسل مع الادارة الأميركية، وثمة أسباب بينها ان الجلبي قال ان اعادة اعمار العراق لا تحتاج الى البلايين التي طلبتها الادارة، ثم مطالبته بالتعجيل في نقل الحكم الى العراقيين، وغير ذلك من مواقف لا تفيد الاحتلال. اليوم أزعم انني وألوف الناس العاديين مثلي، ونحن نعارض صدام وطلبنا رحيله ورحّبنا بسقوطه، أدركنا بالعقل البسيط والمنطق ان معارضي النظام في بغداد يكذبون، وأن الاستخبارات الأميركية، بكل ما تملك من خبراء وتكنولوجيا، صدقتهم عندما ناسبها التصديق، و"اكتشفت" كذبهم عندما ناسبها التكذيب. وهناك نغمة جديدة، فكبير المفتشين ديفيد كاي، ومجلة "تايم"، ومصادر رسمية وإعلامية أخرى، بدأت تقول ان العلماء العراقيين كذبوا على صدام حسين خوفاً منه، وأقنعوه بأن لديهم القدرة على إنتاج أسلحة دمار شامل، وأنه في جهله صدقهم، ونشر الكذبة التي صدقتها الادارة الأميركية، ورئىس الوزراء توني بلير، فهي ناسبت سياسته كذلك. من يكذب على من؟ الفيض الهائل من الكذب، بطريقة قصر عنها الاعلام الشيوعي في حينه، والموجه في بلادنا، يجعلني أخشى ان يكون ما يدبّر لنا نموذجاً عراقياً مبنياً على كذب كان العراقيون أول ضحاياه، وجاء العرب والمسلمون بعدهم، وفي حين ان بعض الأنظمة العربية جيد، فإن بعضها الآخر يجب ان يرحل، رحمة بأبناء شعبه، ولكن اذا كان المطروح علينا هو التجربة العراقية فإنني انتصر لكل نظام عربي على طريقة "النحس اللي تعرفه...".