بات العراق طُعماً في مصيدة لجميع أقطاب حرب الارهاب والانتقام بقرار من أقطاب حرب الارهاب والانتقام. أصبح العراقيون مطالبين بإثبات الولاء من خلال التحول الى مخبرين في حرب الاستخبارات لا أحد يستشيرهم. فهم مجرد بقعة وساحة وحجار في لعبة تحريرهم من الاستبداد أو من الاحتلال. محيطهم يخيفه مصيرهم. وداخلهم يمزقه الاستقطاب. بات العراق طعماً وبات مصيدة في آن. ففيه تنصب الإدارة الاميركية فخاً لاصطياد الارهاب الآتي اليه، حسب تقديرها. وفيه تعتقد شبكة "القاعدة" وبقايا نظام البعث ان اصطياد الجنود الاميركيين وسيلة لإلحاق الهزيمة بأميركا. واقع الأمر ان لا انتصار في العراق كما لا انتصار في فلسطين/ اسرائيل. فالسياسة المبنية على فكر المصيدة مصيرها يقع بين الانتصار والهزيمة. مصيرها ومصير بقع حروبها الهلاك. والعراق دخل حرب الهلاك عندما حوله أقطاب حرب الارهاب طعماً. وليس وحده مصيدة هلاك. لا توجد استراتيجية خروج من العراق لدى الإدارة الاميركية لأن الرئيس جورج بوش مصر على الانتصار على الارهاب في عقر الدار العراقية "ولن نغادر"، حسبما قال. لا توجد استراتيجية اميركية للبقاء والاستمرار في الحقبة الضرورية في العراق لأن الإدارة الاميركية ترفض الاعتراف بقراراتها وحساباتها الخاطئة وتريد أي معونة خارجية مجرد ملحق وهامش داعم بلا تساؤلات. بين الاستراتيجيتين المفقودتين حسابات انتخابية وعقائدية ورئاسة قابلة للاختطاف والارتهان، فيما العناد والهوس بين صفاتها. الحزب الجمهوري بأقطابه المهمة التقليدية في حيرة وغضب إزاء ما حدث أثناء رئاسة بوش الابن. فهو بات مهمشاً بعدما استطاعت حفنة متطرفة ومحنكة من اختطاف الرئيس الجمهوري لتمتلك فكره الديني والسياسي والعقائدي ومن وضع مستقبل اميركا في ايادي بضع شركات. يتردد الآن ان كبار الحزب الجمهوري في ذهول وحيرة من أمر نائب الرئيس ديك تشيني الذي اختير من قبلهم ليكون مرشداً لبوش الابن، ثم تحول الى أب منافس والى "منشق" عن تيار الكبار في الحزب الجمهوري. وهناك همس عن ضرورة تدهور صحي لهذا الرجل المصاب بمرض القلب كي لا يصل نائباً للرئيس الى البيت الأبيض على رغم خوضه المعركة الانتخابية. بدأ الكلام ايضاً عن ضرورة استقالة أو إقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد امام فشل ذوي الاندفاع للحرب في العراق بمبررات مشتبه فيها ومن دون استراتيجية تكفل عدم تحول العراق الى مستنقع كما حدث لأميركا في فيتنام. ثم هناك كلام عن تآكل آتٍ لسيطرة تشيني - رامسفيلد على صنع "السياسة نحو العراق وعلى فكر وذهن جورج دبليو بوش قبيل الربيع المقبل، موسم الانتخابات الرئاسية، ليتسلم كارل روف عندذاك مصير السياسات الداخلية والخارجية بصفته المسؤول الأول عن استراتيجية بقاء بوش في البيت الابيض. ما لن يتمكن كارل روف من السيطرة عليه هو عاطفة وشخصية جورج دبليو بوش. فهو مستوعب دينياً وهو عنيد كشخصية. امام كارل روف تحديات تجعل مهمته صعبة: الحزب الجمهوري العازم على استغلال الانتخابات لاستعادة وزنه واستعادة رئيسه... الكنيسة الانجيلية المصرة على الاحتفاظ بوزنها وتأثيرها في رئيس لم يسبق لها ان وجدت او صنعت مثله... المتطرفون من المحافظين الجدد الذين لن يسمحوا لأركان الحزب الجمهوري بتصحيح مسارهم أو القيام باختطاف مضاد للرئيس "الهدية"... والناخب الاميركي الذي بدأ يشعر بوطأة ما حدث في العراق من استهانة به واستغلال لثقته وبدأ يحس بثمن حرب العراق الذي عليه دفعه بأموال وأرواح. كارل روف ليس فقط أمام تحديات اليوم في العراق وانما هو امام خطط تعد لتوريط في المنطقة قد لا يستطيع سوى الانحناء أمامها. اسرائيل جزء رئيسي من خطط التوريط. وسورية ليست وحدها المرشحة وانما ايضاً السعودية، والفاعل ليس فقط رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون وانما هناك ايضاً أركان الارهاب. عنوان التوريط، ولربما الموافقة الضمنية لأسباب استراتيجية تأخذ في طياتها المصالح، هو اللااستقرار والفوضى. تلك الفوضى الضرورية التي باسمها يُطالب بالاستقرار. ذلك اللااستقرار الضروري الذي يبرر كل التدخلات. عنوان الفكر الحاكم هو الاستفادة العارمة من حال اللااستقرار والفوضى كي تبقي اميركا العراق والمنطقة في قبضتها لأسباب اقتصادية وسياسية واستراتيجية الأفق والتوقعات. من يقع في فخ من؟ المعارضون للاحتلال الاميركي يجدون في العراق مستنقعاً حيث عظمة اميركا تبدأ بالانحلال. العازمون على قهر اميركا يجدون في العراق فوضى عارمة تمكنهم من اصطياد الاميركيين وارسال جنودهم الى اميركا جثثاً في حقائب. القائمون على رسم السياسة الاميركية في هذه الحقبة يتخذون العراق قاعدة عسكرية واستراتيجية للانتصار في حرب الارهاب في الساحة العراقية، ولشن حرب الفوضى في المنطقة مبرراً لبقاء العراق قاعدة عسكرية اميركية منها تنطلق الحروب الاستباقية. قد تضاعف الولاياتالمتحدة جنودها في العراق وقد تخفض العدد الى 50 ألفاً. الأمر تحسمه الاعتبارات الانتخابية. انما اميركا ليست في وارد الانسحاب من العراق لسنوات عدة. والإدارة الاميركية تريد استكمال تصوراتها وسياساتها للمنطقة وفي المنطقة. هذه السياسات ليست كلها على حساب المنطقة اذا كُبح جماح الصقور المتطرفين، فعلى رغم غطرستهم الجامحة، ليست كل المفاتيح في اياديهم. وايران أفضل مثال. أراد الصقور لإيران انقلاباً من الداخل يغير النظام وأرادوا لها التوتر والتشرذم الداخلي لتصبح قابلة للاستهانة بها. ما قرره الايرانيون، بتيار الاعتدال وتيار التطرف، هو قطع الطريق على استهداف الصقور الاميركيين لايران عبر الملف النووي. تنازلوا من دون ان يتنازلوا، تعاونوا مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومع الأوروبيين فسحبوا الأوراق من صقور واشنطن. الأهم، ان الايرانيين دخلوا في "حديث وطني" - حسبما قالت فريدة فارهي التي كتبت عن المسألة النووية في ايران لصحيفة "نيويورك تايمز" - من اجل حل المشكلة بصورة "خلاقة"، وفعلوا. بذلك قرر الايرانيون، على الأقل في هذا المنعطف، ان يستبدلوا ما اسمته الكاتبة إلدين شولينو "سياسة الاشتكاء من الظلم" بسياسة عملية "وضعت المصلحة الوطنية اولاً". انما هذه ايران حيث الحكمة والحنكة السياسية وحيث التفكير الاستراتيجي بعيد المدى. هذه ايران التي وضعها جورج بوش قبل سنتين في خانة "محور الشر" الثلاثي مع العراق وكوريا الشمالية، ثم حذفها منه كأمر واقع، فيما قنن الشر في محور العراق. ويوم الثلثاء الماضي طمأنت الادارة الاميركية ايران بأن هدفها ليس تغيير النظام فيها، حسبما أبلغ وكيل وزير الخارجية ريتشارد ارميتاج الى الكونغرس بمصادقة مسبقة من البيت الأبيض، مضيفاً: "اننا على استعداد للدخول في محادثات محدودة مع حكومة ايران في شأن امور تمثل مصالح مشتركة". الدول العربية المجاورة للعراق تو ضع في مرتبة مختلفة تماماً عن المرتبة التي توضع فيها ايران أو تركيا لدى الادارة الاميركية. فهي مصنفة الى قواعد تابعة للولايات المتحدة والى دول مرشحة للانهيار أو للانفجار. سورية والسعودية تتربعان على قائمة أولويات التصنيف الثاني، بالذات حسب خطط وتوقعات صقور الادارة الاميركية. تجدر المقارنة بين المسألة النووية الايرانية وبين المسألة الاصلاحية العربية في أذهان اقطاب في الادارة الاميركية. ايران قضمت لسانها على رغم كامل اقتناعها بحقها في امتلاك السلاح النووي في موازين القوى، علماً بأن باكستان والهند واسرائيل تمتلك هذه الأسلحة. الدول العربية تناولت الاصلاحات بإجراءات تجميلية بدل الانعكاف الفعلي والعاجل على ادخال اصلاحات جذرية صادقة وفعلية. رأي بعضها ان اميركا عازمة على اسقاط النظام فيها مهما كان وبغض النظر عن الاصلاح المطلوب، لذلك قررت الرهان على تورط اميركا في فخ العراق وعلى أركان عقيدة التدمير من الغاضبين العرب من أمثال شبكة "القاعدة". بعضها الآخر لا يزال في صدمة ازاء انقلاب اميركا عليه على رغم كل ما قدمه لها وهو يواجه زلزال التقهقر من الداخل وكأنه عاصفة عابرة. في هذه الدول بالذات تنجح استراتيجية الصقور الاميركيين من دون ان يضطروا للحديث عن معالجة عسكرية. ذلك ان الغليان الداخلي آتٍ بفوضى عارمة، حسب تقديرهم، وعندئذ تكون القوات الاميركية جاهزة في العراق لضبط الأمور في الدولة المجاورة بعد تقسيمها الى ثلاثة اجزاء. فاستمرار التواجد العسكري الاميركي في العراق ليس فقط من اجل العراق وانما من اجل السياسات الاميركية في المنطقة. جملة "لن نغادر" قالها جورج دبليو بوش لإبراز عزمه على الانتصار في حرب الارهاب على "الجبهة" العراقية. تحدث بوش في مؤتمره الصحافي هذا الاسبوع عن حرب الاستخبارات، وقال ان هناك حاجة "لقيام المزيد من العراقيين بجمع المعلومات الاستخبارية". وقال تكراراً ان "العراق مكان خطير". بوش، وقبله وزير الدفاع رامسفيلد يطالب العراقيين بلعب دور المخبر في هذا المكان "الخطير" تماماً كما يطالبهم أركان بقايا حزب البعث وشبكة القاعدة وغيرها. مساكين أهل العراق. فبعد كل الظلم والاستبداد وبعد الحلم بالتحرير والاستقرار ها هم بين السندان والمطرقة في حروب الاستخبارات وحروب الارهاب يطالبهم جميع الأطراف ان يثبتوا الوطنية عبر لعب دور المخبر الخطير. "العراق خطير لأن الارهابيين يريدون لنا ان نغادر، ولن نغادر". هذا ما قاله بوش هذا الاسبوع، وقد يكون مخطئاً تماماً في تقديره. الارهابيون يريدون للقوات الاميركية البقاء في العراق كي يقوموا باصطيادها. قد يريدون خروجها من العراق لاحقاً منهزمة، انما الآن يريدون لها البقاء لإشباع رغبتهم بالانتقام ولتحقيق النصر في حرب الارهاب. "اننا في حال حرب" قال بوش "حرب من نوع آخر" تماماً. هكذا ايضاً يؤمن الذين بدأوا بشنها. انها حرب من نوع آخر. "العراق جبهة حرب الارهاب"، قال بوش، وكأن العراقيين وجهوا دعوة الى اميركا لتحويل بلادهم جبهة في حرب الارهاب لإبعاد الحرب عن المدن الاميركية. بعد حرب العراق بات "العالم أكثر طمأنينة وحرية تحت قيادتي... واميركا أكثر أمناً". هذا تماماً ما قاله جورج دبليو بوش هذا الاسبوع. ولم يكن يمزح. المصيبة انه لم يكن يمزح.