حل الدور على إيران بسرعة - سمه تحرشاً إن شئت - بعد اغتصاب العراق وابتزاز سوريا. إذ ارتفعت أصوات في واشنطون خلال الأسبوع الأخير، قائلة ان غزو العراق كان "استفتاحا" فقط، وبمثابة "نهاية بداية" الحرب ضد الإرهاب. وان ساحة المعركة الحقيقية والكبرى في تلك الحرب هي إيران، التي لا بديل عن إسقاط نظامها وتركيعها، حتى تسوى ارض المنطقة جيداً، وتتم عملية "إعادة تشكيلها" حسب الأصول! (1) ليس صحيحاً أن الهدف من الحرب هو تغيير النظام العراقي، إنما تغيير منطقة الشرق الأوسط لصالح اسرائيل. بهذه العبارة أزاح الستار عن الحقيقة مبكراً الكاتب الأمريكي روبرت نوفاك. في برنامج تليفزيوني بثته محطة سي. ان. ان، في بداية شهر مارس الماضي انتقد فيه موقف الإدارة الأمريكية. وهو ما أزعج الدوائر الإسرائيلية في حينه. وعبرت عن ذلك صحيفة "هاآرتس"، التي نشرت في 5/3 تقريراً حول الموضوع. حدث ذلك قبل بدء الحرب، ولكن اللغة تغيرت بعدما كسبت الولاياتالمتحدة الجولة، وأسقطت نظام بغداد. ولم يعد الجهر بالحقيقة مغامرة ولا باعثاً على القلق. فنشرت صحيفة "هاآرتس" ذاتها في 15/4 مقالة لموشيه ايرنز (وزير الخارجية الأسبق) قال فيه صراحة أن دول "محور الشر" الثلاث التي أعلن الرئيس الأمريكي انه يستهدفها في حربه على الإرهاب هي في الحقيقة دول معادية لإسرائيل، وهذا ينطبق مباشرة على العراقوإيران، أما كوريا الشمالية - الدولة الثالثة - فهي الطرف الذي يمد أعداء اسرائيل بالصواريخ. بعد الفراغ النسبي من العراق اتجهت الأبصار الإسرائيلية على الفور صوب سورياوإيران. وقال رئيس الوزراء ارييل شارون ان بلاده لا تستطيع أن تطمئن في حين تعرف أن لدى سوريا "ترسانة ضخمة من السلاح الكيماوي وتملك قوة إرهابية خاضعة لها، وهي حزب الله. كما أن لإسرائيل أعداء آخرين مثل إيران، التي تدعو إلى إبادة اسرائيل، وجهودها للحصول على أسلحة غير تقليدية معروفة، كما أنها تقف وراء حزب الله" - يديعوت احرونوت (16/4). لم يكن شارون وحده الذي عبر عن هذا الموقف، ولكن كلامه جاء صدى لمعزوفة كاملة تبنتها الطبقة السياسية في اسرائيل، التي عبرت عن ذات الموقف في كتابات وبرامج تليفزيونية وإذاعية بلا حصر. وظل محور الحديث هو أن الخريطة الجديدة للشرق الأوسط لا يمكن أن ترسم معالمها إلا بعد تطويع سورياوإيران، ومن ثم تأمين اسرائيل من كل الجبهات المحيطة بها. بعد أيام قليلة من التعامل الأمريكي مع الملف السوري على النحو الذي يعرفه الجميع. نشرت "نيويورك تايمز" في 8/5 الحالي أن الإدارة الأمريكية تمارس ضغوطاً على الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإدانة طهران في انتهاك معاهدة حظر الأسلحة النووية. إزاء ذلك فقد طلبت واشنطون من الوكالة الدولية ان تضع نظام تفتيش "صارماً" للبرنامج النووي الايراني. ونقلت الصحيفة عن مسئول أمريكي لم تنشر اسمه، أن واشنطن قررت تصعيد ضغوطها في هذا الشأن، بعد تلقيها معلومات أثارت دهشتها عن مدى تقدم البرنامج النووي الإيراني، وذلك اثر زيارة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي لمنشأة "نتانز" النووية (وسط إيران). وقال المسؤول الأمريكي: "الأمر لا يقتصر فقط على ان إيران تسرع برنامجها النووي، ولكننا تلقينا أخيراً معلومات جديدة أقلقتنا بخصوص ذلك البرنامج. ثم أن هناك إصرارا من جانب الإسرائيليين يدعونا لان نهتم بتلك المشكلة على نحو اكثر جدية"(!). تتابعت تلك "الاكتشافات" الأمريكية بعد إسقاط النظام العراقي، وفي أعقاب التعامل الأمريكي مع الملف السوري. الأمر الذي يعطي انطباعاً قوياً بأننا بصدد "اجندة" تنفذ، وليس بازاء مصادفات أفرزتها الأحداث. كما أن المسألة ليست مقصورة على تطوير البرنامج النووي الإيراني او تخصيب اليورانيوم، وإنما الملف الإيراني كله هو الهدف، وما مسألة البرنامج النووي سوى ذريعة للاصطياد و "جر الشكل" كما يقال. (2) في الوقت الذي كانت الولاياتالمتحدة تمارس ضغوطها على وكالة الطاقة الذرية في فيينا بالنمسا، شهدت واشنطون "مصادفة" أخرى من النوع المريب. فقد دعت واحدة من أهم منظمات اليمين الأمريكي المتطرف (مؤسسة أمريكان انتربرايز) إلى عقد مؤتمر تحت عنوان "مستقبل إيران". كان ذلك في السادس من شهر مايو الحالي (لا تنس أن نيويورك تايمز نشرت خبر الضغوط الأمريكية في الثامن من الشهر ذاته). شارك في المؤتمر مجموعة من الكتاب والسياسيين الأمريكيين والإيرانيين المقيمين بالولاياتالمتحدة. وكانت الفكرة المحورية التي دارت من حولها المناقشات هي أن التحول الديمقراطي في إيران يحتاج إلى دفعة من الخارج. وفي هذا الصدد ذكر مايكل لادين خبير السياسة الخارجية بالمؤسسة ان النظام الإيراني مثله مثل النظام السوفيتي مستعد للانهيار، ولكن ذلك الانهيار يتطلب عوناً وضغوطاً مستمرة من الخارج. السيناتور الجمهوري سام برونباك عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، وموري اميتي المدير السابق للجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية (ايباك) كانا من بين ابرز المتحدثين في المؤتمر، ويستحق كلامهما الذي لخصه تقرير بثه مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) قراءة متأنية. في بداية حديثه دعا السيناتور برونباك الحكومة الأمريكية للتحالف مع الشعب الإيراني، وقال ان إيران تمثل خطراً على الولاياتالمتحدة لعدة أسباب، على رأسها سعيها إلى الاستفادة من سقوط صدام حسين وبسط نفوذها داخل العراق، وقال: رغم أن إيران لم تكن هي التي حررت الشعب العراقي، ولكن هذا لن يوقف محاولتهم للاستفادة (من الموقف). ثم أضاف ان إيران هي اكبر مساند الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط، وأنها تسعى إلى نشر الثورة الإسلامية والى بسط نفوذها على بلدان أخرى كالعراقوأفغانستان. ذكر برونباك انه يقود مساعي لحشد معارضة أعضاء الكونجرس لإيران وتأكيد دعمهم لبعض المبعدين الإيرانيين المقيمين في الولاياتالمتحدة. وأشار إلى مشروع قرار قدمه في الثاني عشر من مارس الماضي ينتقد سجل الحريات في إيران ويطالب الحكومة الأمريكية بعدم إضفاء الشرعية على النظام الإيراني. قال أيضاً انه يخطط لتقديم ملحق لقانون الاعتمادات المالية بمجلس الشيوخ يسمى "قانون ديمقراطية إيران" يقر بأن سياسة أمريكا هي دعم الديمقراطية في إيران. وسوف يقدم الملحق في حالة تمريره دعماً مالياً لقنوات تليفزيون وإذاعة تنطلق من الولاياتالمتحدة للحديث إلى الشعب الإيراني عن الديمقراطية. أضاف صاحبنا انه سوف يقدم قريباً مشروع قانون مؤسسة تدعى "مؤسسة الديمقراطية في إيران" تعمل على توفير منح للإيرانيين الأمريكيين ولمحطات الإذاعة والتليفزيون الأمريكية الموجهة إلى إيران لمساعدة الشعب الإيراني على "استرداد بلدهم". أما موري اميتي، فقد أعرب عن اعتقاده بأن النظام الإيراني لن يتغير اذا ما ترك أمر التغيير للتفاعلات الداخلية، لذلك فانه يتعين على الحكومة الأمريكية أن تضع هدف تغييره ضمن أولوياتها. وقال ان السيناتور سام برونباك يحتاج إلى الدعم والمساندة وان فرص تمرير المشاريع التي يقدمها كبيرة. وكشف الرجل عن وجود منظمة جديدة تجمع مجموعة من السياسيين والكتاب الأمريكيين الراغبين في الضغط على الإدارة الأمريكية لاتخاذ موقف اكثر تشدداً ضد حكومة إيران، وتدعى "التحالف من اجل الديمقراطية في إيران (CDI)". أشار تقرير "كير" إلى أن للمنظمة حديثة العهد موقعاً إلكترونيا، يضم قائمة بأسماء المساندين لها، ومن بينهم كبار صقور المحافظين مثل جيمس وولسي المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية، وجاك كامب المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس الأمريكي في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 1996، ومايكل لاين وجاشوا ميروفيك الخبيرين بمركز أبحاث أمريكا انتربرايز، وفرانك جافني رئيس مركز سياسات الامن الذي عمل في عام 1986 وخلال حكومة الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان كمساعد وزير الدفاع الأمريكي لسياسات الامن الدولي. (3) "نهاية البداية"، كان عنوان المقالة الرئيسية التي نشرتها "ويكلي ستاندارد" (عدد 12/5) لرئيس تحريرها ويليام كريستول. والمجلة ممولة من البليونير اليهودي المعروف روبرت ميردوخ، اما ويليام كريستول فله اكثر من صفة، أهمها انه رئيس مجموعة "القرن الأمريكي الجديد"، التي تتزعم الدعوة إلى هيمنة الولاياتالمتحدة على مقدرات العالم، وقيادتها له. ومنذ نشأتها في عام 1997 وهي تتبنى فكرة إسقاط النظام العراقي، وهي التي جمعت ملايين الدولارات لتحقيق ذلك الهدف. وفي سبيل ذلك فإنها عملت على تأسيس "المؤتمر الوطني العراقي" برئاسة احمد جلبي، كما أنها اشتركت في تأسيس لجنة تحرير العراق. وللعلم فان مجموعة القرن الأمريكي الجديد هذه تضم إضافة إلى رئيسها ويليام كريستول: ديك تشيني نائب الرئيس بوش، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع وبول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع ومنظر المجموعة، وريتشارد بيرل أحد أهم مستشاري وزير الدفاع وآخرين، وكل هؤلاء اما من اليهود او المسيحيين الإنجيليين المتصهينين. ويليام كريستول الذي يصنف باعتباره واحداً من أهم الكتاب المعبرين عن وجهة نظر المحافظين المتطرفين (الصقور)، اعتبر في مقالته سالفة الذكر أن النصر في العراق هو بداية نهاية الحرب الكبرى ضد الإرهاب. وإذ اعتبر أن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي هو "قلب المشكلة"، فانه اعتبر كوريا الشمالية خطراً مؤكداً، لكن مشكلتها يمكن احتواؤها، واكبر خطر تمثله هو نشرها للأسلحة الفتاكة للإرهابيين والدول الإرهابية، وهؤلاء جميعاً في الشرق الأوسط. بالنسبة لإيران ذكر كريستول "أن تحرير العراق كان اكبر المعارك التمهيدية لرسم مستقبل الشرق الأوسط، ولكن المعركة الكبرى القادمة ستكون من اجل إيران"، (تمنى ألا تكون معركة عسكرية). وعبر الرجل عن اعتقاده بأن إيران تمثل خطراً على مستقبل العراق كما تريده الولاياتالمتحدة، وقال أن على الولاياتالمتحدة دعم أصدقائها وحلفائها في العراق لمواجهة الضغوط الإيرانية، كما دعا إلى نقل المعركة إلى إيران نفسها وقال "ينبغي علينا أيضاً أن ننقل المعركة إلى إيران مستخدمين أدوات تتراوح بين الدبلوماسية الشعبية والعمليات السرية". وذكر في هذا السياق أن الضغط على إيران يمثل أولوية قبل الضغط على دول أخرى في الشرق الأوسط، وقال أن إيران هي "نقطة التحول" في الحرب ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل وفي الحرب ضد الإرهاب وفي مساعي إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وقال "لو ذهبت إيران سوف يتبعها بسهولة اكبر تغييرات إيجابية مساندة للغرب ومعادية للإرهاب في المنطقة، وسوف تتحسن جداً فرص التسوية الفلسطينية الإسرائيلية".. وهذا بيت القصيد! (4) ليس خافياً أن الشهية انفتحت لتغيير النظام في إيران بعد إسقاط النظامين في كابولوبغداد، وبعد النجاح الذي تحقق في تغيير هيكل السلطة الفلسطينية والتقليص النسبي لدور الرئيس عرفات. ولم يكن ذلك مشجعاً للقوى الأصولية والصهيونية في الولاياتالمتحدة فضلاً عن اسرائيل فحسب، ولكنه أيضاً بدا مشجعاً لأنصار الملكية في إيران، الذين كثفوا من هجومهم الإعلامي والدعائي، واصبح لديهم هذا العام 7 محطات للبث التليفزيوني الموجه إلى الداخل، في حين لم يكن لهم طيلة السنين التي خلت سوى محطتين فقط. لكن الأمر ليس سهلاً من ناحية، كما أن المواجهة التي ينشدها هؤلاء وهؤلاء مع إيران - التي يريدون لها أن تكرر التجربة مع أفغانستانوالعراق - ليست مدرجة ضمن الأولويات الأمريكية، على الأقل حتى نهاية العام القادم. هو ليس سهلاً لان إيران بلد السبعين مليون نسمة مختلف في حجمه وقدرته العسكرية وبنيانه العقيدي والمذهبي، الأمر الذي يجعله عصياً على الاجتياح العسكري. ولست اشك في أن الأمريكيين يعرفون جيداً أن المغامرة بالدخول في مواجهة عسكرية مع ايران ليست بالأمر البسيط. آية ذلك أن تجربة اسرائيل المرة مع العمليات الاستشهادية لا بد أن تكون قد حذرت الأمريكيين من التورط في مواجهة مجتمع تعد ثقافة الاستشهاد عنواناً كبيراً له. ومن حيث الملاءمة، فمن المستبعد أن يكون وضع الولاياتالمتحدة قلقاً في أفغانستان ولم يستقر بعد في العراق، ورغم ذلك تتورط في معركة جديدة مع إيران. فضلاً عن هذا وذاك، فالإشارات المتواترة القادمة من واشنطون تجمع على أن الرئيس بوش دخل في أجواء التحضير لانتخاباته الرئاسية في شهر نوفمبر من العام القادم. وان أي جهد خارجي تبذله إدارته لن يتجاوز حدود الاتصالات الدبلوماسية والضغوط السياسية، وهو غير مستعد للتورط في أية مواجهات عسكرية، وهذه الفكرة يبثها ويدافع عنها بقوة اثنان من أهم واقرب مستشاري الرئيس الأمريكي هما كارل روف مستشاره الأول للشئون الداخلية وكوندوليزا رايس مستشارة الامن القومي. من أخبار واشنطون أن صقور البنتاجون فوجئوا بهذه الرسالة، حين ابلغوا برفض خططهم التي أعدوها لتوسيع حرب العراق، لكي تشمل عمليات "تأديبية" عبر الحدود. وكان دوجلاس فايث وكيل وزارة الدفاع قد خطط لشن غارات جوية على سوريا، حسب وكالة يونيتد برس، بمباركة من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. ومن تلك الاخبار أن اجتماعاً عقد في البيت الأبيض منتصف شهر أبريل الماضي، ضم رايس وروف ورامسفيلد ومستشار الامن القومي الإسرائيلي ايفريان هالفي، الذي حمل إلى واشنطون رغبة اسرائيل في أن تقوم الولاياتالمتحدة ب "الاعتناء" بسورياوإيران، تمسكت رايس تكراراً بقولها أن لا مغامرات عسكرية إضافية خلال عهد جورج بوش في رئاسته الأولى. وبعدما اعترض رامسفيلد على ما قالته رايس، التفت إلى روف وطلب رأيه، فأبلغه روف أن الرئيس يوافق مع رايس. ثم أن رايس قالت لصحيفة "واشنطون بوست" أن "وجهة نظر الرئيس هي أن كل مشكلة في الشرق الأوسط لا يمكن حلها بالوسيلة ذاتها". إشارة إلى الحل العسكري في العراق وعدم تطبيقه على سوريا، إلا اذا كانت هناك ضرورة لذلك. (الحياة اللندنية - 9/5). اذا صح ذلك فمعناه أن المواجهة الحاسمة بين واشنطون وطهران التي تتلهف عليها اسرائيل وتنتظرها بفارغ الصبر، مؤجلة لمدة 18 شهراً على الأقل. وتلك فرصة لتعزيز الصمود والمقاومة، من خلال تحقيق الوفاق الوطني وترتيب البيت الإيراني، الذي اصبح الصراع بين المحافظين والإصلاحيين نقطة ضعف أساسية فيه. ومن أسف أن ذلك الصراع مستمر ومتصاعد رغم ظلال الخطر المحدق الذي يهدد الجميع.. وليس من شك أن استمرار ذلك الصراع هو اكبر هدية يقدمها الطرفان للمتربصين والطامعين والذين يتمنون أن ينشغل كل منهما بالآخر ويضعفه، حتى تسقط إيران بين أيديهم في نهاية المطاف، لقمة سائغة بغير حرب!