لا إعادة الاعتبار الى الأممالمتحدة بعد تحقيرها ولا الاستعداد المفاجئ للشراكة الفعلية مع روسياوفرنسا وألمانيا وراء سعي الإدارة الأميركية الى قرار جديد عن مجلس الأمن بشأن العراق. انها الحاجة الى ذرائع للآخرين كي يتمكنوا من تقديم قوات وأموال لمساعدة الاحتلال الواقع في مأزق، من جهة، وهي الحاجة الى إضفاء الشرعية الدولية على الوجود الأميركي العسكري في العراق ومحو "الاحتلال" ليطلق عليه تسمية مختلفة بقرار من مجلس الأمن، من جهة أخرى. وهذا مجرد بعض عناصر دوافع الإدارة الأميركية في عودتها الى الأممالمتحدة لتسجيل سوابق قانونية وسياسية تتعدى العراق وتدخل في خانة التفكير الأميركي الجديد بمعنى الانعزالية والانفرادية ودور الدولة العظمى الوحيدة في مسيرة العالم. توجد ايجابيات، بالطبع، لعودة الولاياتالمتحدة الى الأممالمتحدة بعدما وصمتها بأن لا صلة لها ولا تأثير عندما قاومت اعطاء صلاحية الحرب في العراق. فحينذاك ثار الغضب الأميركي من المنظمة الدولية ومن دول مثل فرنسا والمانيا الى حد العداء. اما الآن، فإن العلاقة الأميركية الألمانية دخلت مراحل المصالحة والاصلاح. والعلاقة الأميركية الفرنسية بدورها تدبدب نحو التطبيع بعدما أعلنت فرنسا في مطلع المفاوضات على مشروع قرار مجلس الأمن الأخير انها لن تستخدم الفيتو ضده. وبالتالي، أفادت عودة الولاياتالمتحدة الى الأممالمتحدةفرنسا وألمانيا والعلاقة الأميركية الأوروبية. من ناحية المنظمة الدولية ذاتها، شكلت العودة الأميركية اليها فشلاً لها من ورطة الاختيار بين الانزواء تلبية لأوامر اميركية وبين التحدي غير القادرة عليه. الدول التي خضعت لضغوط أميركية تطالبها بالمساهمة بقوات أو بأموال في العراق استفادت ايضاً من محاولة استصدار قرار عن مجلس الأمن يضفي الشرعية على الوجود العسكري الأميركي في العراق والحكم الأميركي للعراق الى حين قيام حكومة عراقية مستقلة ذات سيادة وصلاحيات، فهذه الدول وقعت بين فكي العلاقة الثنائية مع الولاياتالمتحدة... والظهور بمظهر الشريك في الاحتلال للعراق. فجاء مجلس الأمن ليوفر لها "ورقة التين" التي احتاجتها. ثم ان المفاوضات على مشروع القرار أدّت الى مواقف جديدة للإدارة الأميركية مثل تحديد موعد منتصف كانون الأول ديسمبر كموعد لمجلس الحكم العراقي ليتقدم بجدول زمني لصياغة دستور واجراء انتخابات... والعمل مع دول أخرى داخل وخارج مجلس الأمن لاستعادة العراق السيادة الحقيقية لاحقاً مما يعني، افتراضاً، انهاء الاحتلال... وفتح الباب على امكان الموافقة على استفادة دول أخرى من ورشة بناء العراق بعد النزاع. هذه الايجابيات لا تنفي السلبيات العديدة والخطيرة في السوابق التي تضمنها مشروع قرار مجلس الأمن الأخير في شأن العراق. فهذه المرة الاولى في تاريخ مجلس الأمن التي يصبح فيها الاحتلال شرعياً بقرار من المجلس ليمحو لغوياً كلمة "الاحتلال" ويستبدلها بسلطة "ائتلاف" ويعطيها صلاحيات واسعة النطاق بلا محاسبة وبلا آلية مراقبة ومن دون موعد محدد لإنهاء هذه الصلاحيات. وهذه المرة الاولى التي يصادق فيها مجلس الأمن على انشاء قوة متعددة الجنسية بلا دور له فيها على الاطلاق ومن دون أية سيطرة على مهماتها أو فترة بقائها. وهي المرة الأولى في تاريخ المنظمة الدولية التي يحجب فيها مجلس الأمن صلاحية خوض حرب ثم يعود ويبارك نتيجة الحرب ويكرسها بإضفاء الشرعية عليها. وضمن السوابق القانونية والسياسية قيام مجلس الأمن بطبع الشرعية على احتلال عسكري من خلال انشاء قوة متعددة الجنسية تلبي مطلب الدولة القائمة بالاحتلال... وطبع الشرعية على احتلال سياسي من خلال تفويض القوة القائمة بالاحتلال الاشراف على العملية السياسية بتحييد وتحجيم للأمم المتحدة نفسها. الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان اتخذ مواقف في الأسابيع القليلة الماضية كلفته تضايق الادارة الاميركية منه. فهو وصف الأمور بصراحة عندما قال: "ان قوة الاحتلال هي الحكومة، وستبقى الحكومة، بغض النظر عن تبني هذا القرار أو عدم تبنيه، الى حين تسليم السلطة كاملة الى العراقيين. فمجرد استخدام تعبير "الاحتلال" أطلق انان حملة ضده لأن أحد أهداف القرار هو محو لغة الاحتلال. وفي قوله ان مشروع القرار "لم يشكل تحولاً رئيسياً في تفكير الائتلاف" داس انان على أقدام الصقور في الإدارة الأميركية الذين وضعوا الخطوط الحمر التي لن يُسمح بعبورها لئلا تؤدي حقاً الى التحول الرئيسي في فكر وسياسة الإدارة الأميركية نحو العراق. وعندما تحدث انان بلغة "إما نحن وإما أنتم" في اطار العملية السياسية في العراق لئلا تصبح الأممالمتحدة شريك الأمر الواقع في الاحتلال، جاء الرد عليه بمعنى نحن الذين نقرر وتم تحجيم دور الأمين العام أكثر في القرار الجديد. وأخيراً، تعمدت الديبلوماسية الأميركية اظهار "لافاعلية" الأمين العام للأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بالولاياتالمتحدة. فقد كان الخوف أن تتأثر الدول الأعضاء في مجلس الأمن بمواقف انان لدرجة حجب الدعم عن القرار، لذلك برز التفكير في احتمال سحب مشروع القرار. لكن الاستراتيجية الاميركية عدلت عن هذا التوجه واستبدلته بحشد الدعم في مجلس الأمن بمعزل عن مواقف الأمين العام وبقدر من العزل له. انبثقت مواقف كوفي انان من تجربة الأممالمتحدة في العراق وما تعرضت له من انتقام تمثل في تفجير مقر الأممالمتحدة، كذلك انبثقت من مقاومة فعلية لموظفي الأممالمتحدة للخدمة في العراق كهامش في كتاب الاحتلال الأميركي البريطاني له. لكن الاستراتيجية الأميركية لم تأخذ الأممالمتحدة ركناً رئيسياً لها في العراق على أي حال. ففي القرار 1483 سحبت الولاياتالمتحدة النفط العراقي من الأممالمتحدة وألغت برنامج "النفط للغذاء". وفي القرار 1500 كسبت لمجلس الحكم العراقي الذي عينته الشرعية الدولية. وفي مشروع القرار الأخير أرادت الصلاحية الشرعية الدولية للتواجد العسكري في العراق ومعه قوة متعددة الجنسية تدعم الاحتلال وتعطيه تسمية مختلفة. أسباب هذه الاستراتيجية المتماسكة محلية بمقدار ما هي تتعلق بالدور الذي تريد الادارة الاميركية للولايات المتحدة ان تلعبه في هذه الحقبة من الزمن عالمياً. فالرأي العام الأميركي لا يريد لأميركا ان تدفع كلفة العراق، بقوات أو أموال. وهذا القرار يوسع حلقة تغطية التكاليف المالية ويفسح المجال لقوات غير اميركية تقوم بمهمات تحرر القوات الأميركية لتقوم بدورها بمهمات مختلفة يمكن تصنيف الادارة الاميركية لها بأنها مهمات الحرب على الارهاب. الرأي العام الأميركي ينقسم في شأن مبررات الحرب حيث ينتقد بعضه خوضها بلا صلاحية من الأممالمتحدة ويرى ان أسبابها مختلفة. هذا القرار يعيد المسؤولية الى الأممالمتحدة حيث انها الطرف الذي "عاد الى صوابه" من خلال تصديقه على نتائج الحرب ومباركة لها. كما انه ضمنياً يدعم مقولة الإدارة الأميركية ان هذه الحرب لتحرير العراقيين من قبضة الاستبداد اذ انه يتضمن الكلام عن اعادة السيادة الى العراقيين. وهو ضمنياً يدعم المزاعم بأن هذا ليس احتلالاً للعراق من خلال محوه لغة الاحتلال. وقد يكون القرار أيضاً مساعداً في حال قررت الادارة الاميركية اعلان انتصارها في العراق لتنسحب منه بعجلة اذا تطلبت المعطيات الانتخابية ذلك. لكنه في الوقت ذاته صك الشرعية المفتوحة على بقاء القوات الأميركية في العراق لأية فترة زمنية تقتضيها المصالح الأميركية واعتبارات الإدارة الأميركية السياسية للمنطقة ككل. أما بالنسبة الى البعد العالمي، فإن تساقط اعتراضات الدول الاعضاء في مجلس الأمن أمام الهجمة الأميركية دليل واضح على انتصار الإدارة الأميركية في تحويل مجلس الأمن الى مجرد "مظلة" تحمي وتساعد الاحتلال وتنشله من ورطته. وبغض النظر عما اذا كان تبني القرار يؤدي الى مجرد توفير الغطاء أو الى التعاون الفعلي وتوفير القوات والأموال، فإن أثره العملي والواقعي قد يكون أكبر على المنظمة الدولية مما قد يكون على العراق. فالقرارات لا تحل المأزق بمجرد صدورها. وأفضل السيناريوهات هو ان يؤدي القرار الى تخليص العراق من المأزق حتى وإن كان ينشل الاحتلال من الورطة. هذا تمنٍ تفاؤلي وسط بحر هائج من التجاوزات القانونية والسياسية تنذر بإفرازات الشؤم والتشاؤم.