تستقبل القاهرة نهاية هذا الأسبوع مؤتمراً ثانياً للرواية العربية. المؤتمر الأول سنة 1998 جمع معظم الروائيين العرب. كانت تلك مناسبة لافتة استوقفت نجيب محفوظ: أن يرى هذا العدد الكبير من الناس العاملين في تأليف الروايات! ليس هذا قليلاً. نجيب محفوظ كتب رواياته الأولى "مُخترعاً" الرواية العربية. الباحث عن أسلافٍ عربٍ لصاحب "الثلاثية" يدرك ان محفوظ وحده استطاع أن يرسي شرعية هذه الرواية - الطفلة عند منتصف القرن العشرين. بعد "ثلاثية" محفوظ يمكن الكلام عن "عالم روائي عربي". مع "الثلاثية" يظهر الطموح المحفوظي لتأليف رواية شاملة. يتكرس هذا في "أولاد حارتنا" ثم في "الحرافيش". أعمال تشير الى رغبة وجهد وقدرة. الأهم أنها تشير الى عالمٍ خياليٍ يستعير عناصره من عالمنا ثم ينظمها وفق رؤية فلسفية - سياسية متماسكة. وها نحن أمام أدب رائدٍ يتحول بمرور الزمن أدباً كلاسيكياً. الحاضر الغزير المتشعب محفوظ هو تاريخ روايتنا. هو الماضي. جزء من تراثٍ هائل يتشابك في الذاكرة مع "ألف ليلة وليلة" و"مروج الذهب" و"الأغاني" والقزويني والطبري وآخرين. محفوظ رمز للماضي الذي يحضر الآن، ولا ينكسر حضوره طالما استطاع أن يعثر على قراء. يموت الكتاب على الرف حين يغطيه الغبار. لكنه يرتجف وتنبعث فيه الحياة من جديد ما ان تقع على كلماته نظرة بشرية. محفوظ هو الماضي. أما حاضر الرواية العربية فغزير متشعب. انه حاضر يبدأ في ستينات القرن العشرين ويجري حتى اللحظة. ليس غريباً أن يبدو هذا الحاضر ابناً للقاهرة. تحتاج الرواية الى روائيين. هؤلاء أفراد. والأفراد أبناء مدن لا أرياف. القاهرة - المدينة صنعت روائيين كثراً. بعضهم جاء إليها من البعيد البعيد ليس من الصعيد فقط. ولكن من الأردن أيضاً. بعضهم وُلد فيها. بغداد أيضاً شكلت مسرحاً لظهور روائيين. وكذلك حفنة مدن عربية أخرى. لكن القاهرة فرضت حضوراً طاغياً. المدينة التي "تموج موج البحر بسكانها" ابن بطوطة أعطت محفوظ، ومن جاء بعده، نظرة "روائية" الى هذا العالم. في الصخب يصنع الفرد الواحد المملوء بالقلق والرؤى عزلة ضرورية لإعادة تنظيم حياته وحياة العالم. محبوساً في غرفة، يكتب ما يعرفه وما لا يعرفه، ويعثر على نفسه وعلى العالم. محفوظ فعل ذلك بأسلوبه الخاص. بعده يظهر آخرون بأساليب أخرى. لا يكتب واحدٌ مثل صاحبه. لكلٍ أسلوبه. والاسلوب هو الشخصية. هو نظرة أحدنا الى نظام الأشياء، وطريقة تأقلمه مع هذا النظام. تتعدد الرؤى وتتعدد الروايات. وبين ستينات القرن العشرين ومطلع القرن الجديد تتكاثر الروايات العربية تكاثراً لافتاً. كالأرانب تتكاثر. مما لا يعني بالضرورة انها تعثر على قراء. القراءة مسألة أخرى. التسارع الفعلي في هذا الانتاج لم يبدأ إلا في العقدين الأخيرين. ولعل هذا التسارع يرتبط بما جرى لبلادنا بعد 1967 وبعد 1973 وبعد 1975. فجأة اهتزت مسلَّمات. ارتجفت دولٌ وبانت حدودٌ وارتفع صراخ. الحرب الأهلية اللبنانية كانت جزءاً من ذلك الاضطراب العربي الفظيع، رمزاً من رموزه. الأمر يبدو واضحاً إذا تذكرنا الحضور العربي الكثيف فيها. في أزمنة مضطربة ازدهرت روايتنا العربية، نتاجاً كميّاً على الأقل. كل يومٍ الآن، تظهر رواية في بيروت أو القاهرة أو دمشق أو... الرواية العربية سنة 2033 هل نستطيع أن نتخيل مستقبل الرواية العربية بعد 30 عاماً؟ نقرأ في "آفاق" اليوم عن رحلة الرواية العربية عبر القرن العشرين. ما نقرأه هنا تحية الى محفوظ والى من جاء بعده. انه تحية أيضاً لآخرين سبقوا محفوظ، أو عاشوا على بعد زقاقين منه، وكانوا مثله "روائيين"، وان لم نسمع بهم، أو نقرأ رواياتهم يوماً. ظلمات التاريخ تخفي روايات لا تحصى، وأحلاماً مكسورة، وأصواتاً اختنقت قبل ارتفاع النشيد. في مدنٍ عنيفة صاخبة تولد عوالم وتموت أخرى. كيف يكون عالم الرواية العربية سنة 2033؟ هل نقدر أن نتخيل قارئاً يفتح هذه الصحيفة عدد "الحياة" الصادر في 15 - 10 - 2003 في خريف 2033 ويقرأ هذه الكلمات؟ انه في الأغلب ينظر الى الكلمات على شاشة مضيئة وليس على الورق. كيف سيتبدل عالمنا في 30 سنة وكيف ستتبدل رواياتنا؟ أسماء كثيرة تكون قد اختفت. أسماء كثيرة تكون قد ظهرت. روايات كثيرة تكون نفدت أو تلفت ولم تطبع مرة أخرى أبداً. روايات كثيرة تكون صدرت وعرفت مجداً عابراً أو باقياً، لا أحد يدري. هل يرتفع عدد القراء العرب في ال30 سنة الآتية؟ أم يتضاءل؟ في القاهرة وحدها 15 مليون نسمة. سنة 1990 كانوا يطبعون من أي رواية لكاتب معروف في تشيكوسلوفاكيا سكانها 12 مليون نسمة نحو مئة ألف نسخة. الكاتب العربي تُطبع اليوم من روايته ألف نسخة أو ثلاثة آلاف، وأحياناً قليلة خمسة آلاف نسخة. هذا كل شيء. ونادراً ما تنفد طبعة أولى قبل مرور سنوات. أما الاستثناءات فتُثبت القاعدة. قبل عامين نشر ملحق "آفاق" تحقيقاً عن صناعة الكتاب العربي أظهر ان المؤلف لا ينال مردوداً مالياً ذا قيمة من مؤلفاته، وان الناشر - هو أيضاً - يشكو القلة. يحدث هذا في جميع البلدان العربية. ليس الجو مشرقاً. ومع ذلك نجد أفراداً يطلبون الكتابة، وتأليف الروايات. يدلّ هذا الى حقيقة بسيطة: الكاتب يكتب لأنه لا يستطيع أن يمتنع عن الكتابة. يتابع الكتابة، إذاً. مع قراء، أو بلا قراء، يتابع الكتابة. ومرات يعثر على قراء في أماكن غير متوقعة. أو انه على الأقل يتمسك بهذا الوهم. نحتاج الى الأكاذيب الصغيرة. ليست سيئة ما دامت تمدّنا بالقوة. ونتابع الكتابة... الحياة تمضي بسرعة والفهم يأتي على مهل. ثم ها نحن في سنة 2033: نقف في مكتبة في بيروت أو بغداد أو الرياض أو تونس أو دمشق أو حوران أو القاهرة ونتأمل رفوفاً كُتب أعلاها كلمة: "رواية" أو Fiction. نلتقط الرواية الجديدة تلو الرواية. ننظر الى الغلاف الأول هذا اسم لا نعرفه ثم ننظر الى الغلاف الأخير رواية تاريخية مسرحها العراق سنة 2004. نبحث بين الروايات عن اسم نعرفه، عن اسم أليفٍ. لسببٍ ما نتمسك بالقديم الأليف. الجديد لن يصبح كلاسيكياً إلا بمرور الزمن. ولعله يختفي بمرور الزمن، من يعلم؟ لا أحد يعلم ماذا يخفي المستقبل. هذا نعرفه. نعرف أيضاً ان الروائيين لن يكفّوا عن تأليف الروايات. بعضهم يتعب أو يملّ أو يفرغ أو لا يجد حاجة الى المزيد. وبعضهم ينتعش ويكمل، مع قراء أو بلا قراء. بعضهم ينسحب وبعضهم يدخل الشيخوخة. هذه هي الحياة. في هذه الأثناء يظهر روائيون جدد. العدد غير مهم. كانت الرواية الروسية تقدر أن تكتفي بأرستقراطي كادحٍ واحدٍ من طراز تولستوي لتحتل مكاناً في التاريخ الكوني للأدب. العدد غير مهم. المهم الإخلاص للرواية. والمهم أن نتمسك بالأمل. عندنا ما نبني عليه. ليس محفوظ فقط. ليس تراثنا السردي القديم فقط من المؤرخين والشعراء الى الجغرافيين والرحّالة والعشّابين والأطباء. ولكن كل ما نقرأه أيضاً. وُلدنا في زمنٍ يحضن أزمنة، في مكانٍ يحضن أمكنة. نتبع شوبنهاور إذاً، وننفتح على العالم، لينعكس العالم كاملاً مجلواً في مرآة الأعماق... ثم نكتب. عندنا ما نبني عليه. ليس ستيفنسون وبورخيس وشكسبير فقط. بل هوميروس ودانتي وماركو بولو أيضاً. هؤلاء من المعاصرين. عندنا ما نبني عليه. سنة 2033، مع بعض الأمل، لن تكون سنة سيئة للرواية العربية.