سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تسع روايات له ترجمت الى العبرية قبل نوبل ... وبعدها رواية واحدة . الصحافة الاسرائيلية تتهم نجيب محفوظ بعداء الإسلام وتقليد الغرب ... والتأثر بالتراث اليهودي
حاولت التهرب كثيراً من كتابة هذا المقال، ولكنه ألح عليّ. كانت الاعتبارات متداخلة ومعقدة وهربت حتى من مجرد فكرته. ولكن من حق القارئ أن يعرف أن المقال كان يطاردني وكتبته شبه مرغم، إلا أن اعتبارات الأبوة الروحية لنجيب محفوظ جعلتني أتردد. قلت لنفسي: هل نحترم رأي القارئ في مثل هذه الأمور؟ لنتوقف إذاً أمام هذه القصة من زاوية حق القارئ. هذه الخواطر كانت تدور في ذهني عندما كنت أقرأ البحث، وما أن انتهيت منه حتى قررت أن أكتب عنه. البحث عنوانه: "نجيب محفوظ في الصحافة الأدبية العبرية في اسرائيل". وهو جاء كفصل من كتاب "الأدب المقارن" الصادر حديثاً عن دار الثقافة العربية القاهرة 2001، من تأليف محمد جلال إدريس استاذ الأدب المقارن والدراسات الاسرائيلية في كلية الآداب بجامعة طنطا. وقد أهداني المؤلف - وأبرز ما في وجهه لحية طويلة - نسخة منالكتاب، عندما كنا، معاً، في جامعة المنيا في صعيد مصر، وتحديداً خلال ندوة عن المرأة في العلوم الانسانية. يقول الباحث إنه تُرجم تسع روايات لنجيب محفوظ الى اللغة العبرية قبل حصوله على نوبل. وهذه الروايات هي: "زقاق المدق" ترجمها اسحق شريبر، وعام عوفيد وصدرت في 1969، أي عندما كان جمال عبدالناصر يحكم مصر، وبعد هزيمة الخامس من حزيران يونيو 1967، "اللص والكلاب" ترجمة مناحيم كابليوك وسفريات بوعاليم وصدرت في 1970، السنة التي "استشهد" فيها عبدالناصر، و"حب تحت المطر" ترجمها يوأب جفتي وصدرت في 1976، و"الشحاذ" ترجمها جحيتا برنر وصدرت في 1978، وكان السلام أبرم بين السادات ومناحيم بيغن، و"بين القصرين" ترجمها سامي ميخائيل وسفريات بوعاليم سنة 1981، و"ثرثرة على النيل" ترجمها مايكل سيلع، وصدرت في 1982، و"ميرامار" ترجمها اسحق شنيوم وصدرت في 1983، و"قصر الشوق" ترجمها سامي ميخائيل وسفريات بوعاليم صدرت سنة 1984، و"السكرية" ترجمة سامي ميخائيل وسفريات بوعاليم وصدرت سنة 1987، وهي السنة السابقة على حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، إذ حصل عليها في 12 تشرين الأول اكتوبر سنة 1988. والخلاصة ان المترجمين الاسرائيليين ترجموا له خلال 18 سنة تسع روايات، أي رواية كل عامين، وانهم ترجموا أعماله الروائية فقط من دون القصص القصيرة. واذا استثنيت ثلاثية "بين القصرين"، فإن الترجمة ركزت على الروايات التي تنتقد تجربة ثورة تموز يوليو وتهاجمها. والغريب انهم لم يترجموا رواية "الكرنك" التي تعتبر أخطر هذه الأعمال التي هاجمت ثورة 23 يوليو 1952. وبعد نوبل لم تترجم له سوى رواية واحدة فقط خلال 13 سنة هي عمر حصوله على نوبل. وهذه الرواية الوحيدة هي "أولاد حارتنا"، وقد تُرجمت بمعرفة دافيد سجيف ونشرت عام1990. ومن يومها لم يترجم له شيء الى العبرية. ولا شك في أن السلوك العبري الاسرائيلي تجاه نجيب محفوظ يحتاج الى تفسيرات لا أملكها، ولا يملكها سوى الصهاينة وإن كانوا لم يعلنوا ذلك. ويلاحظ الباحث أن هناك طائفة من المبدعين الاسرائيليين قامت بترجمة بعض أعمال محفوظ ومنهم الأديب الاسرائيلي العراقي المولد والنشأة، سامي ميخائيل، وهو ترجم ثلاثية محفوظ "قصر الشوق"، "بين القصرين" و"السكرية" كاملة. ودافيد سجيف ترجم رواية "أولاد حارتنا". أما ما كتبته صحافة العدو عن نجيب محفوظ، فهو يندرج في أنواع. بعضها يدور حول بعض هذه الروايات، وبعضها مقالات عامة عنه، والثالث مقابلات صحافية أجرتها الصحافة الاسرائيلية معه. والمقالات عبارة عن كتابات نقدية وترجمات عن صحف ووكالات أنباء أجنبية. والقسمان الأخيران يتعلقان بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وتأثير ذلك عليه وعلى بلده. وانحصرت المقالات كلها في السنوات منذ أوائل 1987 الى أواخر 1991، أي خلال خمسة أعوام ترجع بدايتها الى ما قبل حصول محفوظ على جائزة نوبل 1988، وتستمر ثلاثة أعوام بعد الجائزة. يتوقف الباحث، عند تعرضه للمقالات النقدية التي تناولت روايات نجيب محفوظ المترجمة الى العبرية، أمام رواية "أولاد حارتنا"، باعتبارها الرواية التي حظيت بأكبر تناول. وقد ركزت الكتابات على الظروف التي أحاطت بنشر الرواية، وما سببته من ردود فعل لدى الأوساط الدينية. وحاولوا إلصاق تهمة التعصب بهذه الأوساط. واعتبرت الكتابات ان السبب في ذلك هو اساءة نجيب محفوظ الى الاسلام. واعترف النقاد الاسرائيليون بالخلفية الدينية للشخصيات والأحداث التي وردت في الرواية. وحاول البعض منهم رد هذا التشابه الى تأثير التوراة على محفوظ. وأعطى النقاد بعداً سياسياً للرواية، وأخذ آخرون على بناء الرواية وحبكتها. ورأى البعض أوجه تشابه بين "أولاد حارتنا" وبعض روايات الأدب الغربي ومنها: "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل. وعند تناول ثلاثية "بين القصرين"، يعمد النقاد الاسرائيليون الى المنهج نفسه فيقولون: إن هناك تشابهات بين الثلاثية وبعض الأعمال الغربية وأهمها: رواية توماس مان "آل بورنيروك". وإن كان النقاد اختلفوا على قيمة ترجمة سامي ميخائيل للرواية، وإن كان هناك من أثنى على الترجمة، فإن البعض الآخر انتقد مستوى ترجمة الجزء الثالث "السكرية" وذلك لتدنيه عما سبقه، ولغموض عباراته وكثرة أخطائه. وهذا الرأي له أهميته لأنه صادر عن آخرين ترجموا أعمال محفوظ الأخرى الى العبرية. وان كانت "اللص والكلاب" الرواية الثانية التي تترجم لنجيب محفوظ، إلا أنها لم يهتم بها نقدياً، في صورة تماثل أو حتى تقترب من روايتي "أولاد حارتنا" و"الثلاثية". ومن الطبيعي أن يقدم النقاد في المقالات القليلة التي نشرت عن هذه الرواية تفسيراً اسرائيلياً. فاللص في الرواية هو رجل أيد الثورة في السابق، والآن يحارب اصدقاءه الثوريين السابقين الذين تخلّوا عن مبادئهم لتحقيق مكاسب شخصية. أما الكلاب فهم يمثلون النظام القوي الذين يقمعون كل محاولة استقلالية ضد الانتهازية والسعي وراء المصالح الخاصة وقهر المثقفين. في المقالات العامة التي دارت على نتاج نجيب محفوظ عموماً، هناك من يقول: ينبغي أن نضع نجيب محفوظ في إطار المؤرخين المهيأين لتقبل الانتاج الأدبي كوثيقة. ثم يركز ناقد آخر على مقدرة نجيب محفوظ على نقد الواقع وشجاعته في نقد النظام الحاكم ورموزه في تلك الأيام، ما كان يتطلب جرأة لم تتوافر لغيره من كتّاب جيله مثل توفيق الحكيم وفتحي غانم. ويشير الى تطور محفوظ وعدم جموده الأدبي سواء من ناحية موضوعاته أو شاعريته. ويركز على تأثره الواضح بمدرسة الفرنسي سارتر، حين بدأ يكتب عن الانسان المغترب في المجتمع الحديث. ويذهب أحد النقاد الى أن أهم رواية أصدرها محفوظ بين الستينات والثمانينات هي "أمام العرش" 1983 التي شن فيها نقداً سياسياً اجتماعياً سافراً ضد عبدالناصر، وأبدى فيها تعاطفاً كبيراً تجاه خلفه أنور السادات. ولم يحاول هذا الناقد الاجابة عن تساؤل بسيط هو: لماذا لم يترجم هذه الرواية الى العبرية ما دامت تعتبر من روايات محفوظ المهمة والخطيرة؟ وثمة ناقد يذهب الى أن خطة المراحل التي انتهجها نجيب محفوظ في كتاباته، حطمت قدراته الابداعية وحالت دون أن يكون كاتباً مبدعاً على المستوى العالمي. ويعتقد آخرون انه لو امتنع عن تقدمه البطيء خلف مراحل تطور الرواية الأوروبية وتحمس في مقابل ذلك لتطوير نموذج عربي - مصري للكتابة الروائية لزاد من ثراء الأدب العربي ولتقدم خطوات واسعة أكثر مما هو عليه الآن. ويذهب الناقد نفسه الى أن الموقف التعليمي في كتابات محفوظ على رغم انه ثقف آلاف القرّاء العرب إلا أنه أدى الى ضرر كبير في انتاجه الأدبي. في المقابلات الصحافية التي أجرتها الصحافة الاسرائيلية مع نجيب محفوظ، حصلت بعد حصوله على نوبل. وباعترافهم نجح البعض، وفشل البعض الآخر، في اجراء مثل هذه المقابلات. ونشرت صحيفة "هآرتس" مغامرة لصحافي اسرائيلي جاء الى القاهرة لمقابلة نجيب محفوظ لكنه فشل في ذلك. فقد تهرب محفوظ من مقابلته، على رغم تحديد موعد له، امتنع محفوظ عن اجراء المقابلة معه وعاد الصحافي الى اسرائيل من دونها. إن نظرة الباحث الفاحصة الى هذه المقابلات، تؤكد أن الهدف من ورائها هو معرفة وجهة نظر نجيب محفوظ الى السلام واسرائيل. ويلاحظ الباحث ان النقاد الاسرائيليين لم يهتموا بالنواحي الأدبية والفنية عند محفوظ بقدر اهتمامهم بآرائه السياسية. كانت هناك حال من التركيز على مواقف محفوظ السياسية، سواء في عهد عبدالناصر، أم في علاقته بالاسرائيليين، أم عبر موقفه من السلام. حتى الذين كان هدفهم هو الكتابة النقدية الخالصة، مزجوا كتابتهم بمواقف محفوظ من السلام العربي - الاسرائيلي، وهي مواقف مؤيدة دوماً. يكتب عنه واحد من هؤلاء النقاد: "نجيب محفوظ هو الوحيد من بين أدباء مصر المشهورين الذي لم ينجرف في تيار العداء لاسرائيل المسيطر على المثقفين المصريين. ولم يتراجع محفوظ عن تأييده السادات من أجل السلام العربي - الاسرائيلي". ويكتب آخر من أولئك النقاد: "عبّر نجيب محفوظ في رواياته وأعلن في مقابلاته ان الصراع بين مصر واسرائيل لن يحسم في ميدان القتال، لأنه في جوهره صراع حضاري". ولذلك - بحسب رأي محفوظ الذي يورده الناقد الاسرائيلي - ينبغي أن تكون كل محاولة لإصلاح الخلل الاجتماعي في مصر موجهة الى هذا الغرض. وهذا الموقف - كما يرى الناقد الاسرائيلي - يفسر تأييد محفوظ الشديد لمبادرة السلام التي قام بها السادات. ويورد صحافي اسرائيلي كلاماً على لسان محفوظ: "هناك أيضاً في اسرائيل كثير من المثقفين، والأدباء والمبدعين، معروفون بمواقفهم المعارضة لموقف الحكومة". ويكتب واحد من الصحافيين: "ان نجيب محفوظ دعا الى السلام مع اسرائيل بعد حرب الأيام الستة. في الوقت الذي كان الآخرون يبادرون بالانتقام". ونصل الى ترجمات محفوظ في الصحافة الاسرائيلية وهي نوعان: ترجمة من العربية لمقابلات أجريت معه في الصحافة المصرية والعربية، وترجمة من الصحافة العالمية. وفي حديث مترجم من الصحافة المصرية، يقر نجيب محفوظ بالتأثيرات الفرنسية والانكليزية والألمانية والروسية على بناء "الثلاثية"، ويعترف بأن شخصياته لها مقابل في الأدب العالمي لكن جميع رواياته تدور حول أناس واقعيين. أما ترجمات مقابلاته عن الصحافة العالمية فمن أبرزها مقالان مترجمان عن مجلة "دير شبيغل" الألمانية، أولهما يدور حول التطرف وآراء محفوظ في قضية سلمان رشدي والخميني والمتطرفين عموماً. ويرى نجيب محفوظ أن لرشدي حقاً في التعبير ويجد في الخميني إرهابياً لا علاقة له بالاسلام... أما المقال الثاني فيورد آراء المادحين والمهاجمين لمحفوظ من التيار الاسلامي. وأعتقد أن المجلة الألمانية، والجريدة الاسرائيلية التي ترجمت عنها، قد كذبتا وحرفتا ما قاله نجيب محفوظ، لأنني متأكد أن نجيب محفوظ إبان أزمة سلمان رشدي المعروفة، رفض التوقيع على بيان لتأييد رشدي، وذلك بعد أن اتصل به صامويل بيكيت هاتفياً يطلب منه أن يوقع هذا البيان... ويبقى لي عتب على الدكتور محمد جلال إدريس. فهو عندما ترجم عناوين اعمال نجيب محفوظ، عن العبرية وقع في خطأين أساسيين، وعند التعامل مع عمل أدبي عربي، كانت تجب عليه العودة الى الأصل العربي، فلا يترجم مجموعة "دنيا الله" باسم "عالم الله". وكذلك يكتب الاسرائيليون عن "تحت المظلة" على أنها رواية، وهي في الحقيقة مجموعة من القصص القصيرة. لم يعد هناك مبرر لحيرتي في كتابة هذا المقال إذاً. لقد اكتشفت ان حتى نجيب محفوظ نفسه لم ينجُ من عداوة النقاد الاسرائيليين تجاه كل ما هو مصري وعربي ومسلم. وإن كان هذا هو موقف نقاد اسرائيل من نجيب محفوظ، فكيف هو موقفهم من سواه؟ ان العدو لا يمكن أن صبح صديقاً أبداً، انه يبقى عدواً أبد الآبدين. وها هم يوردون على لسان محفوظ قوله، الذي لم يقله: "ان العداوة بيننا ليس لها سبب عرقي أو ديني. ألم نعش هنا أجيالاً وأجيالاً بلا كراهية؟ إن هذه العداوة موقتة، من ذلك النوع الذي ساد بين ألمانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية". يقولون هذا على لسانه، مع انني أشك في أنه قال هذا الكلام لهم. انهم يلصقون الكلام به إلصاقاً، كذباً وافتراء. ومع هذا يمارسون ضده أقصى ألوان الكراهية. * كاتب مصري