التفسيرات التي حاولت البحث في سبب إقدام إسرائيل على الضرب في عمق الأراضي السورية كثيرة ومتنوعة. وكلها تقريبا واضحة ومنطقية: من رغبتها في انتهاز الفرصة وشن حرب شبيهة بالحرب الاستباقية الأميركية، أو رغبتها في توسيع الصراع لزيادة الضغط على سورية وصرف الأنظار عن فشلها في إدارة صراعها مع الفلسطينيين، وصولا إلى تذكير سورية في الذكرى الثلاثين لحرب تشرين/ أكتوبر بأن تلك الحرب لم تنته بعد، وبأن الدولة اليهودية لا تزال تعتبر سورية عدوتها بكل ما تحمل الكلمة من معان، وما تلقي على كاهل الطرف العربي من تبعات. لكن ثمة تفسيرين آخرين، قد لا يستمدان أهميتهما من كونهما يأتيان في مقدمة التفسيرات، بل فقط لأنهما لم يترددا كثيرا على الألسنة. أحد هذين التفسيرين ينطلق مما قد نسميه تهكماً "حسن نية"، والآخر من سوء نية صريح. وإذا بدأنا ب "حسن النية"، فربما كانت تلك طريقة دولة الاحتلال في التعبير عن رغبتها في منح حكومة أحمد قريع فرصة، تلافيا لخطأ اقترفته مع أبو مازن، والذي عبر عنه صراحة أحد جنرالات إسرائيل متأسّفا على أن بلاده لم تمنح الإصلاحي الفلسطيني فرصة كافية كي يقوم بعمله. ويمكن تلمس هذا الخط الإسرائيلي في محاولة التعامل مع أحمد قريع بطريقة مختلفة في عدة وجوه. فإسرائيل لم تؤيد أبو العلاء علانية كما فعلت مع أبو مازن، حيث أثبت هذا التأييد العلني أنه كان ضربة لمصداقية الأخير وتقويضا لشعبيته. وإسرائيل، من جهة أخرى، لم تنفذ عمليات اغتيال بحق قادة الجماعات الفلسطينية منذ الإعلان عن تسمية أحمد قريع رئيسا للوزراء بنفس الكثافة التي فعلت بها ذلك مع سلفه. وكان محتّما على الحكومة اليمينية لكي تستمر في هذه السياسة أن تبحث عن هدف آخر تضربه، بشرط أن يكون الهدف مُرضيا ولو إلى حين للمطالبين بإقصاء رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات أو قتله، وفي نفس الوقت لا يوجه نحو أحمد قريع بشكل مباشر. وهنا يأتي التفسير المحتمل الثاني الذي يجزم بسوء النية. وهو يرتكز على أن إسرائيل، بضربها سورية، صارت قاب قوسين أو أدنى من توجيه ضربة لعرفات، حيث أن خطوة كتلك تحتاج إلى قدر كثيف من الدخان يغطي عليها ويمهد الظنون لاحتمالها. وهذا بالإضافة إلى أن شارون يريد أن يجهز هدفا بديلا لعرفات تحسبا للاحتمال الأرجح بأن القضاء عليه لن يوقف الانتفاضة الفلسطينية، وتخييراً للإدارة الأميركية بين أمرين مُرّين: التخلص من عرفات، أو ضرب سورية. وتريد الدولة الحليفة الصغرى أن تشبك آخر خيط لهدفها الاستراتيجي المتمثل في القضاء على زعيم الفلسطينيين بأول خيط من هدف استراتيجي آخر هو تكثيف الضغط على سورية، وإدخال عامل جديد إلى الساحة ينصب عليه الغضب ويتعلق بالقضاء عليه الأمل تماما كما فعلت مع أبو مازن حين طالبته بالتهدئة، وقبيل توصله إلى هدنة أعلنت أنها لا تعترف بذلك بل تريد نزعا كاملا لأسلحة الجماعات الفلسطينية، وهكذا لن تتوقف السلسلة.