أستراليا، أرض الغابات، قرَّحتها ندوب الحرائق. والنيران المستعرة منذ تموز يوليو الماضي، في عز شتاء جنوب الكرة الأرضية، أكلت مساحات واسعة في الداخل النائي ولم ترحم الأماكن الآهلة. اجتاحت الحرائق أطراف سيدني، كبرى مدنها، التي ما زال سكانها يرتعدون لذكرى "ميلاد أسود" عاشوه قبل سنة بالتمام، حين حاصرت النيران مدينتهم طوال ثلاثة أسابيع فأتت على 7700 كيلومتر مربع ودمرت 110 منازل. المزارعون في استراليا ينتظرون المطر منذ سنتين، وقد تحولت مراعيهم الخضر أرضاً يابسة شققتها الشمس وملأتها عظام الأغنام النافقة عطشاً. ويعتبرون ان موجة الجفاف الحالية هي الأقسى في مدى ذاكرتهم، والخبراء يؤكدون أنها الأسوأ خلال قرن. حرائق استراليا تزامنت، عبر نصف الكرة الأرضية، مع "غرائق" في المغرب من جراء فيضانات غمرت مناطق زراعية في غرب البلاد وشرقها، واجتاحت قرى قريبة من الرباط وفاس وسطات، وبلغ عدد ضحاياها نحو 40 شخصاً غرقوا في مياه السيول التي جرفت منازلهم وحقولهم. وتسببت الأمطار الغزيرة التي هطلت أواخر تشرين الثاني نوفمبر الماضي في اندلاع حريق في مصفاة "سامير" على ساحل المحيط الأطلسي، وهي أكبر مصفاة نفط في المغرب وتبعد 30 كيلومتراً من الدار البيضاء. وبعد أيام، في البرازيل، اجتاحت الوحول والصخور بلدة أنغرا دوس ريس القابعة في سفح تلة قرب ريو دي جانيرو. فقتل نحو 50 شخصاً، وشردت ألف عائلة دمرت منازلها. وقال أحد المعلقين ان تلك الحادثة، في كانون الأول ديسمبر الماضي، لم تكن سوى بداية الموسم. غضب الطبيعة يتأجج. فهل تكون 2003 سنة الكوارث الطبيعية؟ أرقام قياسية الأمطار غير العادية التي هطلت السنة الماضية حطمت أرقاماً قياسية في مناطق كثيرة. فحدثت فيضانات مدمرة في أوروبا كانت الأسوأ منذ 150 عاماً، وذهب ضحيتها أكثر من 100 شخص. واجتاحت انزلاقات الوحول قرى كثيرة في الهند ونيبال وبنغلادش. وفي المقابل، دمرت موجات الجفاف والحرائق غابات وأراضي منتجة، ولا سيما في الصين وفيتنام واستراليا واندونيسياوالولاياتالمتحدة. الكوارث الطبيعية، التي نجمت غالبيتها عن ظروف مناخية، كلفت البلدان والمجتمعات المتضررة نحو 56 بليون دولار في الفترة بين كانون الثاني يناير وأيلول سبتمبر 2002، بحسب تقرير "مجموعة ميونيخ الدولية لإعادة التأمين". وبذلك تكون الفاتورة النهائية لسنة 2002 ربما تجاوزت 70 بليون دولار. وتقوم المجموعة منذ السبعينات بجمع أرقام وسجلات سنوية حول الكوارث الطبيعية وتكاليفها. وكانت الأرقام والوقائع الواردة في تقريرها مدار بحث في مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأممالمتحدة لتغير المناخ الذي عقد أخيراً في نيودلهي. توماس لوستر، عضو الفريق الذي أجرى الدراسة، أفاد أن هناك "أكثر من 500 كارثة طبيعية كبرى حدثت خلال الفترة المذكورة من السنة الماضية، فقتلت ألوف الأشخاص وشردت مئات الألوف وأضرت بالملايين، وكثير من الأحداث المناخية التي سجلناها كانت في أعلى درجات الشدة". وأشار الى أن غزارة الأمطار بلغت نسباً نادرة، فسجلت أرقام قياسية غير مسبوقة في احصاءات علماء الأرصاد والمناخ. كانت هناك، مثلاً، فيضانات شتوية في تشيلي وجامايكا ونيبال واسبانيا وفرنسا، وفيضانات صيفية كاسحة في ألمانيا وروسيا والنمسا والجمهورية التشيكية، حيث تجاوز الهطول معدلاته السنوية في بعض الأقاليم خلال يوم أو يومين. وقال لوستر: "لدينا مؤشرات قوية على أن الاحترار العالمي يزداد، وستكون له تأثيرات خطرة في المجتمعات وفي الاقتصادات في العالم". وقعت 526 كارثة طبيعية كبرى في الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، معظمها في آسيا حيث بلغ العدد 195، في مقابل 149 في الأميركتين و99 في أوروبا و45 في اوقيانيا و38 في أفريقيا. وحصدت هذه الكوارث أكثر من 9400 قتيل، بينهم أكثر من 8000 في آسيا. وقدرت الأضرار الاقتصادية ب4,56 بليون دولار، تحملت اوروبا معظمها، اذ قدرت خسائرها بنحو 33 بليون دولار، في مقابل 8,14 بليون دولار في آسيا و7,7 بليون في أميركا الشمالية. أما الخسائر المؤمّن عليها خلال هذه الفترة فكلفت قطاع التأمين نحو تسعة بلايين دولار، منها نحو ستة بلايين في أوروبا وبليونان في الولاياتالمتحدة. شكلت الفيضانات ثلث هذه الكوارث، والعواصف معظمها. لكن الفيضانات قتلت عدداً أكبر من الناس، وكلفت أكثر من العواصف والزلازل والكوارث الأخرى مجتمعة، اذ سببت 42 في المئة من الوفيات و66 في المئة من الخسائر الاقتصادية و64 في المئة من الأضرار المؤمن عليها. أما العواصف والأعاصير والزوابع فكانت مسؤولة عن 13 في المئة من الوفيات و23 في المئة من الخسائر الاقتصادية و34 في المئة من الأضرار المؤمن عليها. على سبيل المثال، دمرت الفيضانات وانزلاقات التربة 100 ألف منزل في اندونيسيا وقتلت نحو 150 شخصاً، ومنيت الزراعة والبنى التحتية بخسائر فادحة، وتلوثت مياه الشفة. وخلفت العاصفة الشتوية "آنّا" أضراراً فادحة في ألمانيا وبريطانيا، ومات ثلاثة أشخاص. وتعرضت الاكوادور لفيضانات وانزلاقات ترابية دمرت 1500 كيلومتر من الطرق وخربت المحاصيل ومصائد الأسماك، ومات 23 شخصاً. وضربت الأعاصير والعواصف العاتية عدداً من الولايات الاميركية، فألحقت أضراراً بألوف المنازل والمنشآت وقتلت 10 أشخاص، وقدرت الخسائر ببليون دولار. وقتلت الفيضانات والانزلاقات 500 شخص في وسط الصين وغربها، ودمر نحو مليوني منزل، وقدرت الكلفة الاقتصادية بنحو 5,4 بليون دولار. ودمر أكثر من 70 ألف منزل عندما اجتاحت الفيضانات والانزلاقات أجزاء من روسيا، وتأثرت 340 بلدة، وتضررت جسور وطرق وأنابيب غاز ومصفاة نفط، وقتل 117 شخصاً. وفي الصيف الماضي، قتلت الفيضانات وانزلاقات الأراضي الناجمة عن سقوط أمطار قياسية 1300 شخص في بنغلادش ونيبال وأجزاء من الهند، وأغرقت عشرات ألوف القرى ودمرت مئات ألوف المنازل، وأجلي 27 مليون شخص عن منازلهم. ومن جهة أخرى، تأثر 800 ألف شخص بموجة جفاف هي الأكثر حدة خلال قرن في شرق الصين وشمالها، وقدرت الخسائر الاقتصادية بنحو 2,1 بليون دولار. أما الاعصار "ليلي" المدمر، الذي زحف على منطقة الكاريبي والولاياتالمتحدة، فأوجب إجلاء 500 ألف شخص، وقدرت خسائره الاقتصادية بنحو بليوني دولار. الأنماط المناخية المتغيرة سببت كوارث في بلدان عربية عدة. فالهطولات المطرية والثلجية غير العادية التي شهدتها سورية في كانون الثاني يناير الماضي أسفرت عن كارثة بشرية واقتصادية وخصوصاً في محافظتي اللاذقية وطرطوس. اذ انهارت أبنية، وقتل عدد من المواطنين، واقتلعت الأشجار، وانجرفت تربة الأراضي الزراعية، وتهدمت سدود وبيوت زراعية، ونفقت أعداد كبيرة من المواشي. وروى معمِّرون أن المنطقة لم تشهد منذ 30 عاماً مثل هذه الهطولات أو تتعرض لمثل هذه الخسائر المادية الكبيرة. والعواصف الربيعية الممطرة التي ضربت السعودية في نيسان ابريل الماضي خلفت سيولاً هائلة لم تشهدها مناطق غرب البلاد وجنوبها منذ عشرات السنين. واحتجزت المياه مئات الأشخاص، خصوصاً في الأودية، وسجلت وفاة 14 شخصاً غرقاً. وكانت أكثر المناطق تضرراً مكةالمكرمة والطائف والليث والباحة ونجران وأبها وجيزان وشمال جدة. لكن البلاد عموماً تشهد موجة جفاف متواصلة منذ العام 1998، تسببت في انحسار الغطاء النباتي المحدود ونضوب الآبار والسدود وتضرر المحاصيل الزراعية ونفوق قطعان ماشية. وتعاني تونس شح الأمطار منذ خمس سنوات، ورفع التونسيون صلاة الاستسقاء مرات عدة طلباً للمطر. ويعزو خبراء نقص الأمطار للسنة الخامسة على التوالي الى تغيرات المناخ، اذ انخفضت معدلات الهطول في المنطقة الشمالية المطيرة من 200 مليمتر سنوياً الى 20 مليمتراً فقط. عيون من الفضاء طور العلماء أنظمة عالية التقنية لمراقبة الأوضاع على الأرض من الفضاء. وباتت الأقمار الاصطناعية تصور مختلف المناطق بدقة تسمح برؤية بضعة أمتار مربعة بوضوح عال وبالألوان الطبيعية. وعندما غرقت ناقلة النفط "برستيج" قبل أسابيع، تم تصوير بقعة النفط على السواحل الاسبانية وتحديد مدى انتشارها واحتمالات خطورتها. وثمة فوائد أيضاً في مراقبة الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين وحرائق الغابات والفيضانات، والكتل الجليدية ومدى تأثيرها في المناطق القريبة، وتوقع احتمال حدوث انهيارات فيها، ما يسمح باتخاذ الاحتياطات اللازمة. لكن مراقبة الكوارث وتوقعها لا يغنيان عن العمل لتدارك حدوث بعضها. فثمة كوارث كثيرة من صنع الانسان، من ناقلات النفط والمواد الكيماوية التي تغرق بالعشرات سنوياً في بحار العالم، الى الانهيارات الكاسحة الناجمة عن تعرية الجبال من غطائها الشجري وانجراف تربتها مع السيول. ويبدو أن تغير المناخ، المرتبط بانبعاثات من صنع الانسان، هو سيد الكوارث الحالية والآتية. اذ يحمل أهوال ذوبان الكتل الجليدية، وارتفاع مستوى البحار، وغرق السواحل والجزر، واشتداد العواصف والفيضانات وموجات الجفاف. وعلق كلاوس توبفر، المدير التنفيذي لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة، على تقرير "مجموعة ميونيخ لإعادة التأمين"، قائلاً ان العالم يواجه زيادة في الكوارث المناخية كالتي شهدناها عام 2002. وهي ستؤثر في شكل متصاعد في كل مظاهر الحياة، بما فيها الزراعة والصحة والموارد المائية والحياة الفطرية، "وستكون المناطق الأفقر والشعوب الأفقر هي التي تعاني أكثر، لعدم حيازتها الموارد التي تمكنها من التكيف مع البيئات الأكثر تقلباً وقساوة المنتظرة في العقود المقبلة". القلقون على مستقبل البشرية ينتظرون سريان بروتوكول كيوتو، الذي يلزم دول العالم الحد من الانبعاثات الصناعية المسببة للاحتباس الحراري. فهو، وإن لم يوقف الزلازل والبراكين وبقع النفط الناجمة عن حوادث الناقلات المسنَّة، يؤمل أن يحد من وطأة الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ. * ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية"، عدد كانون الثاني /يناير 2003