شهدت بيروت خلال أسبوع واحد ثلاثة أحداث فنية تنتمي، من منطلقات مختلفة، إلى عالم الرقص والاستعراض: "ألفا ليلة وليلة" لعبدالحليم كركلا وفرقته، "حرب عَ البلكون" لعمر راجح و"فرقة مقامات للرقص الحديث" مسرح مونو، و"تنادي" للثنائي ناتاشا ديفاليا ويلدا يونس زيكو هاوس. ولعلّ مصادفات الروزنامة الثقافيّة، إذ تضع في موقع المواجهة تجارب متفاوتة الامكانات، متباعدة الأساليب والرؤى، متناقضة في علاقتها باللغة المشهديّة واستعمالات الجسد، تؤكّد نوعاً من الحيويّة في الحياة الثقافيّة اللبنانيّة، على رغم كل أزماتها وتشرذماتها. وإذا كان من الصعب تناول تلك العروض الثلاثة في مقالة واحدة، خارج المناسبة نفسها، فإن التعامل نقدياً مع الفنّ الرسمي المكرّس الذي تمثّله اليوم أعمال كركلا، يفتح مجال المقارنة بين اتجاه له مكانته التاريخيّة، والتجارب الابداعيّة الشبابيّة التي تبحث عن لغة وأشكال جديدة، وتعد بنهضة في مجال الفنون المشهديّة العربيّة. ومهما كان شعور المشاهد بأنّه ضحيّة عمليّة "نصب فنّي" في عرض كركلا الجديد "ألفا ليلة وليلة" تصميم الرقص لابنته أليسار كركلا، والاخراج لابنه إيفان كركلا، فيما احتفظ هو لنفسه ب"الاشراف الفنّي"... مهما كان شعور المشاهد بأنّه ضحيّة اعتداء على ذوقه، واحتقار لذكائه، لا تجوز الكتابة عن هذا الفنّان بنبرة سلبية، أو من منطلق الإلغاء. فمسيرة عبد الحليم كركلا، واحدة من أنضج التجارب العربية المعاصرة. وهو يتحدّر من تقاليد فنيّة عريقة، أغناها بعمليّة بحث معمّق وميداني في مختلف أشكال الفولكلور العربي والاسلامي مغرباً ومشرقاً، وصولاً إلى إيران، وقد قدّم أعمالاً تعتبر محطات مضيئة في ذاكرتنا الفنيّة من "الخيام السود" 1977 إلى "أصداء" 1985. ويكفي أن نشير إلى أن فرقة كركلا، هي الفرقة العربيّة الوحيدة التي تعمل، خارج أي مؤسسة رسمية، بطريقة احترافيّة، وفي شكل متواصل طوال العام. وربّما لكل هذه الأسباب مجتمعة، يحقّ لنا أن نقسو على كركلا الذي أخذت أعماله تنحدر تدريجاً منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي، حتّى لم يبقَ منها إلا مجموعة عناصر استعراضيّة قائمة على الابهار، على حساب الرقص والكوريغرافيا والرؤية الفنيّة والاشتغال على الامكانات التعبيريّة للجسد. ويأتي عرض "ألفا ليلة وليلة" تجسيداً كاريكاتورياً للتنازلات الجماليّة التي شابت مشروع كركلا منذ سنوات، حتّى لم يعد يشبه نفسه. ديكورات "موسولينية" ساحقة، نظرة استشراقيّة إلى الثقافة العربيّة، صورة أقرب إلى البطاقات البريدية، تكرار رتيب لتشكيلات حركية مستهلكة، اسراف في استعمال مفردات بديهيّة في الرقص، تصرّف غريب ب"شهرزاد" كورساكوف أعاد توزيعها بآلات شرقية هوشينغ كامار! مخلوطة ب"بوليرو" رافيل ومؤلفات توفيق الباشا وشربل روحانا... وصولاً إلى فخّ الفولكلوريّة القاتل. هل يجوز لنا هنا أن نتحدّث عن "فنّ انحطاط" كما نشير إلى "أدب الانحطاط" الذي كان يقتصر في القرن التاسع عشر على التنميق والزخرفة الأسلوبية الخالية من الرؤية؟ لماذا يبدو كركلا مصرّاً على احتقار فنّه، أو الاستخفاف بجمهوره؟ إذ يقدّم لنا المشهد مرّتين: يرويه من خلال العرّاف أنطوان كرباج ثم يقدّمه راقصاً... كأن هذا الفنّان الكبير لا يعرف أن الرقص وحده كفيل بنقل الحكاية من دون شرح زائد يغرق العمل في طفوليّة مملّة. والمؤلم أن الطاقات البشريّة التي وظّفت في هذا العمل، خصوصاً مجموعة الراقصات والراقصين الذين يبذلون جهوداً فنية لافتة، كان يمكن أن تثمر عملاً أقلّ ادعاء وثقلاً وديماغوجيّة، وأكثر ابداعاً... هذا الابداع الذي نلمس وميضه في بعض المشاهد الثنائيّة أو الجماعيّة التي تختزن شاعريّة مدرسة كركلا ومهارة مبدعيها. عمر راجح: المثل النقيض نفكّر براقصات كركلا وراقصيه اذ يختنقون تحت ثقل الملابس المزركشة التي تلجم أجسادهم وتلغي حيويّتها، وتحوّلهم امتداداً متحركاً للديكور ليس إلا... نفكّر بهم ونحن نكتشف بنشوة تلك الخفّة التي تميّز حركة ناتاشا ديفاليا ويلدا يونس في عرض "تنادي". هذه الحريّة التي تطلق لمخيلة جسديهما العنان، في علاقة تواشج وحوار بين مدرستي رقص مختلفتين كلياً: ال"فلامنكو" الاسباني وال"بهاراتا ناتيام" الهندي. هنا يأخذ الجسد مداه، فيقيم علاقة حميمة مع الصالة، وينقل لنا احساساً بالحريّة والرهافة والمتعة. وتلك الجمل الكوريغرافيّة المحدودة التي تتكرر عبر مشاهد "ألفا ليلة وليلة" وتستند إلى الحكاية، جاعلة منها ذريعتها المفتعلة، نستعيدها بأسى ونحن نلهث خلف عمر راجح الذي تتلمذ على يد كركلا! في عرضه المسرحي الراقص "حرب عَ البلكون". فنحن هنا أمام صور متفجّرة، وأجساد تنبض بالحياة، تحاول أن تنقل لنا وجعاً، أن تستدرجنا إلى مشاغلها الوجوديّة والسياسية بلغة صاخبة وخصبة وهاذية. من الابتكارات المشهديّة والبصريّة والسينوغرافيّة والدراميّة إلى الحوار واللعبة الاستعراضية والمفردات الكوريغرافية وكل الاكسسوارات والملابس، يبدو راجح ورفاقه خلود ياسين، هشام جابر، رائد ياسين، نديم دعيبس... منجرفين في دوّامة خلاقة تعطي المشهد هويّته المستقّلة، وتجعله يخاطبنا "الآن وهنا". إن "فرقة مقامات للرقص الحديث" تراهن على مشاركتنا في العمليّة الابداعيّة، وتقطع مع ترسبات الفولكلور، وتنتمي إلى زمنها، لذا يندرج عملها في سياق أجرأ ما يقدّم اليوم على مستوى الرقص المعاصر في العالم. يقدّم لنا الفنان الشاب نافذة مشرّعة على المستقبل، فمتى يعود إلينا المعلّم الكبير كما أحببناه دائماً: مجدداً ورائداً؟