تتراقص ماكينة الخياطة في كواليس قصر بيت الدين، على أنغام مقطوعة «شهرزاد» للموسيقي الروسي ريمسكي كورساكوف، التي تجري عليها «بروفه» الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية بقيادة هاروت فازليان في الباحة الخارجية للقصر الشهابي. تمرّ الإبرة الرفيعة الممشوقة كأجساد الراقصات على صدور الأقمشة الملونة من حرير وتفتا هندي وأورغانزا ودانتيل، وهي التي صمّمها «المعلم» عبدالحليم كركلا لعرض «كان يا ما كان» الذي تُفتتح به مهرجانات بيت الدين الدولية مساء اليوم. الإبرة الراكضة للحاق بليالي ألف ليلة وليلة وأسواق بغداد وسحر الشرق وحكايات المستشرقين التي استوحى منها إيفان كركلا وأخته أليسار العرض، إيقاعها سريع يتناقض وإيقاع نوتات كورساكوف الحالمة الهادئة، فتتحول النغمات المتناقضة نوعاً غريباً وتجريبياً من «الجاز»... أصوات الراقصين الأوكرانيين من أوبرا كييف، ومهندسي الإضاءة والصوت، المتحدثين بالإيطالية والفرنسية، والعمّال البعلبكيين، ونجوم التمثيل اللبنانيين مثل رفعت طربيه وهدى حداد وإيلي شويري، تتحوّل «حواراً للحضارات» الموجودة هنا على مسرح كركلا. كواليس القصر الذي يستقبل مؤسسة كركلا بعد غياب طويل، أي منذ عام 1990 و «حلم ليلة شرق»، تبدو فعلاً كسوق عكاظ أو «سوق الجَمال» الذي يأخذنا إليه «كان يا ما كان» في قِسمه الثاني. وفيما يُلاحق «زعيم» الدبكة البعلبكية عمر كركلا قطع الديكور الضخم وتفاصيلها، تصدر «الملكة» أليسار تعليماتها النهائية للراقصين والراقصات، ويتابع إيفان تحركات الراقصين والإضاءة والصوت على المسرح، وتُصفّق الأم حنينة للمشاهد المؤثرة، فيما تنسّق الراقصة السابقة في كركلا اعتدال حيدر مواعيد العائلة مع الصحافيين وإدارة المهرجان. المدينة الكامنة وراء المسرح تبدو أليفة وعائلية، على رغم تسابق العاملين فيها مع الزمن. فالقهوة العربية حاضرة، و «اللحم بعجين» وصل من بعلبك «طازجاً» لإطعام أكثر من 250 شخصاً يشاركون في العرض، والكرز والمشمش والخوخ البقاعي هنا أيضاً... يبدو أن بعلبك كلها في ضيافة بيت الدين خلال الأيام الثلاثة المقبلة، كأن كركلا لم تهجر بلاد الشمس ومهرجاناتها! يقول إيفان الذي وضع رؤية العرض ويتولى إخراجه بنفسه للمرة الأولى من دون «المعلّم» عبدالحليم، إن كركلا من بعلبك ولها وهي تمثّل الإرث البعلبكي اللبناني الذي ستحمله معها أين ما حلّت، من أميركا إلى الصين إلى أوروبا. ويضيف: «كركلا لم تهجر مهرجانات بعلبك، بل لبّت دعوة عمرها نحو 4 سنوات اقترحتها رئيسة مهرجانات بيت الدين نورا جنبلاط التي وفّرت للمؤسسة كل الإمكانات والدعم لتقدم عملاً استثنائياً وحصرياً للقصر الشهابي الذي أردناه جزءاً من «كان يا ما كان» وليس مكاناً للعرض فحسب، سواء لناحية السينوغرافيا أو لناحية السيناريو». التجربة الأولى ولماذا يقول «استثنائياً»؟ يجيب إيفان: «لأنها المرّة الأولى التي نخرج فيها عملاً أنا وأليسار من دون أستاذنا ووالدنا، وهذا يشكل تحدياً لنا ولجمهورنا. كما أنها المرة الأولى التي يؤدي فيها حوالى 200 راقص وراقصة خليطاً من الباليه والفولكلور اللبناني على أنغام الاوركسترا اللبنانية الفلهارمونية في شكلّ حي... «كان يا ما كان» هو مثال سيُحتذى به في السنوات المقبلة. سيُحتّم علينا من اليوم ألا نقبل بمسرحيات وأعمال راقصة على أنغام موسيقية مسجّلة». ويتساءل: «لدينا موسيقيون لبنانيون جديرون وقائد أوركسترا مثل هاروت فازليان، فلماذا لا نستثمر مواهبنا؟». لكن، لماذا تستعين كركلا بالراقصين الأجانب، وليس باللبنانيين، خصوصاً أن أسلوب الفرقة الذي يمزج بين الرقص الحديث والفولكلور يحتاج إلى فنانين يحملون هذا الإرث الفولكلوري في عروقهم وفي لاوعيهم وليس في أجسادهم فقط؟ يجيب إيفان: «اليوم فتحت حدود الدول بعضها على بعض وبالتالي تداخلت الثقافات والحضارات ولا يمكن بالتالي حصر الفن في جنسية واحدة. الفن ليس له مكان ولا زمان». ويضيف: «نحن كمؤسسة محترفة نبحث عن الراقصين المحترفين الذين تحاكي أجسادهم كل أنواع الرقص وتتمايل معها، مهما كانت جنسياتهم. المعيار هو بنية الجسد القوية والمطواعة وقدرته على التكيّف مع أسلوبنا الكركللي». ويوضح: «نحن في لبنان نفتقر إلى الراقصين المحترفين لذا، تلجأ كركلا إلى أوبرا كييف أو موسكو أو أي بلد آخر... ما زلنا نحتاج إلى سنوات وسنوات من الخبرة والتمرين والمدارس المختصة، لنُنشئ جيلاً من الراقصين. فغالبية الراقصين المحترفين، على قلّتها، تخرّجت في كركلا وأنشأت فرقها الخاصة». لكن ما الذي ينقصنا كي نخرّج راقصين محترفين؟ يقول إيفان: «تنقصنا جهات داعمة مثل بيت الدين ونورا جنبلاط، فالفن يحتاج إلى داعمين رسميين أولهم الدولة، إضافة الى أهمية إنشاء مدارس وجامعات، وتربية الأطفال على تذوّق الفن». لكن أين كركلا من الحراك السياسي في المنطقة وثورات الربيع العربي خصوصاً أن هناك مدارس تعتبر الفن موقفاً سياسياً؟ يؤكد إيفان: «كركلا لا تحمل قضية ثورية أو تؤيد حركة سياسية معينة، ولم تكرّس مسرحاً في خدمة زعيم أو فكر أو تيار سياسي معين. ومنذ بدأت كركلا كان أسلوبها الذي كسر رتابة العمل المسرح التقليدي ودمج بين الباليه والدبكة، بمثابة ثورة. الثورة تكمن في المستوى الفني والجمالي للمسرح الراقص الذي نقدمه. الفن قريب جداً من السياسة ويتأثر بها، وكل الأنظمة السياسية عبر التاريخ تتقلّب وتنتهي لكن الفن هو الذي يبقى». ويرى إيفان أن الفن التشكيلي والتصوير والغناء قد تكون من الفنون الأقرب إلى الفن السياسي من الرقص. أجزاء متصلة منفصلة يقسم العمل المستوحى من حكايات ألف ليلة وليلة إلى ثلاثة أجزاء. الأول مبني على مقطوعة «شهرزاد» للموسيقي الروسي نيكولاي كورساكوف التي «لا مكان لها ولا زمان، كالفن». أما الجزء الثاني فهو مستوحى من البازار الشرقي وأسواق بغداد والشام حيث يباع الجَمال وترقص الفرقة على مقطوعة «بوليرو» للموسيقي الفرنسي موريس رافيل الذي ولد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وفي الجزء الأخير يُبحر إيفان وأليسار بالجمهور من الأسواق القديمة إلى لوحة فولكلورية غنائية راقصة مع الفنانين هدى حداد وإيلي شويري وجوزف عازار وسيمون عبيد، إضافة إلى الممثل رفعت طربيه وبيرج فازليان.