يتابع عبدالحليم كركلا مسيرته الفنية الرائدة رقصاً وموسيقى. لكن كركلا لم يعد فرداً، بل أصبح ثلاثة، هو وابنه ايفان وابنته أليسار. بمعنى آخر، اسم "كركلا" العريق أصبح مرادفاً لمؤسسة فنية ضخمة. وقد تكرّست في الأعوام الفائتة فعلاً عبر تعاون ثلاثي عائلي، شكّلت فيه الفرقة امتداداً أساسياً واستمدت نجاحها من تفاعل الجمهور مع الأعمال الفنية. أعمال عدة وقّعها ثلاثي كركلا هي: "أليسار ملكة قرطاج" و"الأندلس الحلم الضائع" تليها "بليلة قمر" واليوم "ألفا ليلة وليلة". ايفان وأليسار هما سرّ والدهما ولا يقلان شأناً عنه في الخلق والموهبة، لكن كل بحسب موهبته. إيفان يهتم في الاخراج، وأليسار تصمم الرقصات. وعلى رغم تخصصهما وترعرعهما خارج لبنان، تأثرا بوالدهما الذي كان يحرص على اصطحابهما الى المسرح عندما يزوران البلد كل صيف، ولعل هذا التواصل الموسمي كان كافياً ليقررا أن يسيرا في هذا الحقل. ويقول ايفان: "عبدالحليم كركلا زرع وحصد في هذا الحقل، فلماذا لا نسير في هذا الاتجاه؟ نحن نستفيد من خبرته وهو يستفيد من حيويتنا وقد حوّلنا نهجه الى مؤسسة كبرت جداً وباتت لها قاعدة تتمثل بمدرسة تديرها اليسار. وفرقة كركلا ارتقت الى مستوى عالمي بعدما نشرت لغة رقص من صميم الشرق". وتضيف اليسار: "لقد ترعرعت في أجواء مسرح كركلا، لكنني لم أختر هذا المجال لأن والدي أرغمني عليه، بل كنت أشعر أن الرقص في دمي، شيء ما يحثني على الرقص، وقد شاركت في معظم الأعمال منذ عام 1995، ثم تدرجت تحت اشراف والدي كمصممة رقص، اضافة الى دراستي وموهبتي الفطرية". تتألف فرقة كركلا من 40 راقصاً وراقصة محترفين. ويوضح ايفان: "هم قاعدة المؤسسة والآلة الجسدية التي تنقل الفكرة من الخيال الى الواقع، بمعنى آخر، انها النتيجة البصرية لخيال كركلا. هم جنود محترفون يتمرنون طوال السنة ويقبضون أجوراً في شكل متواصل وتشكِّل المدرسة التي تديرها اليسار خزاناً كبيراً للفرقة. مؤسسة كركلا تتوزع فرقها هرمياً، فتبدأ بفرقة "أ" التي تعتبر النواة الأساسية وركيزة المسرحيات الراقصة وتتألف من 40 راقصاً وراقصة، تليها فرقة "ب" وهي تتألف من 30 عضواً، وتشارك كذلك في الأعمال الفنية عبر أدوار صغيرة. أما المدرسة فتضم نحو 250 طالباً، تختار منهم أليسار الموهوبين وتضمهم الى الفرقة "ب"". وتشير أليسار: "ان اعمار التلاميذ تبدأ بخمسة أعوام، لكن الطريق ليست سهلة وتحتاج الى استمرار والتزام. وبعض المواهب تبشِّر بالخير. مع ذلك، الوقوف على المسرح ليس سهلاً ويتطلب أكثر من الرقص، بل هو علم خاص يحتاج الى صقل لمدة عشرة أعوام". عن أسلوب العمل مع والده يقول إيفان: "لا أنكر ان والدي ديكتاتور. فهو صاحب فكر فني أو رسالة فنية ولا يمكن القاء اللوم عليه، ونحن مؤمنون بفكره وصوابية آرائه. لكن في الوقت عينه، هو يجيد الاستماع، ويأخذ منا الأفكار التي تخدم العمل. القرار يعود اليه في النهاية ولا يجوز ان يكون الأمر غير ذلك، لأن العمل الفني الناجح يحتاج الى ديكتاتورية أحياناً. بالنسبة إليّ، يعتمد والدي عليّ في ما يخص الديكور والاضاءة، ما هو موجود طوّرته وحدّثته وما هو غير موجود سأوجده وسيلاحظ الجمهور هذا الأمر في العمل المقبل". أما أليسار فتوافق على رأي شقيقها بأن والدها ديكتاتور في العمل، "لكنني أعترف انني اكتسبت منه خبرة كبيرة. عندما نعمل على الخشبة لا أعود ابنته ولا يعود والدي، ويصبح تركيزنا على العمل بمنأى عن العاطفة والحب. لكن ثمة أموراً تغيّرت، فهو لم يعد ينفِّذ كل شيء بيده، وأصبح يملك ثقة كبيرة بنا، لذا أصمِّم الرقصات واللوحات وهو يشرف عليّ، اضافة الى أنه ينسّق دخول الراقصين وخروجهم وهذا عنصر مهم جداً تميّز به كركلا". تضيف: "يتسم والدي بالدقة وقد تمكن بفضل تصميمه وارادته القوية ان يستمر في تقديم المسرحيات خلال الحرب، وهو صارم في تعامله مع الفرقة، وأنا صارمة أيضاً، لكن أقل منه نسبياً لأنني فتاة. معظم أعضاء الفرقة تقبلوني مع مرور الزمن". ونسأل ايفان، هل تعتبر انك بلغت مرحلة النضج في عالم الاخراج؟ يجيب: "انني أسير في هذا الطريق بخطى واثقة، واحترم المخرجين الذين يستعينون بفنون عدة لتكوين رؤيتهم. وعلى المخرج أن يكون ملماً في شتى الفنون من رقص الى موسيقى الى رسم الى تمثيل. وعملي في الفرقة يندرج في هذا الاطار، لقد ادخلت المسرح الأوروبي المعاصر الى الفرقة، ومزجته بأسلوب كركلا الشرقي، وهذا تطوّر مهم". كثر ينتقدون كركلا لاستخدامه المؤثرات المسرحية والملابس والألوان لإبهار المشاهد، ترد أليسار: "عرفت فرقة كركلا في البداية بالفولكلور وقد تطوّرت تدريجاً حى أصبحت مزيجاً من أساليب ومدارس رقص عدة. لقد ابتكرنا لغة رقص معاصرة من دون أن نتخلى عن الكلاسيك، درس كركلا في أبرز مدرسة رقص عالمية مع مرتا غراهام ومزج التقنية الغربية والالتزام بالروح الشرقية. وقد لاقى اسلوب كركلا اصداء في كل أنحاء العالم. وتلعب الأزياء دوراً اساساً، ويتولى تصميمها عادة والدي آخذاً في الاعتبار الحركة الراقصة". وثمة انتقادات أخرى طاولت كركلا حين خاض تجربة المسرح الغنائي عبر "بليلة قمر"، فأجاب إيفان: "أرى ان الفنان الذي يختبئ وراء انجازاته لا يتقدّم بتاتاً. يجب أن يكون الفنان شجاعاً، فلا يتردد من الدخول في المجهول. صحيح ان جزءاً من الجمهور والنقاد اعتادوا على الرقص في مسرح كركلا. لكن في مسرحية "بليلة قمر" خرجنا عن المألوف وكان الاتفاق مع لجنة مهرجانات بعلبك يقضي بتقديم مسرحية غنائية في اطار "ليالي لبنانية" وهذا ما حصل". "ألفا ليلة وليلة" عمل جديد لعبدالحليم كركلا وولديه، هو الشغل الشاغل لهذا الثلاثي الفني الذي اختار قصة شهرزاد وشهريار بكل ما فيها من خيال رومانسي وألوان وأفكار منوعة، ليبني عليها رقصاته وأزيائه وابداعه، ويوضح ايفان: "هذه الاسطورة التي يعرفها الصغار والكبار مشتقة من حضارة شعب وأحلامه العاجزة عن تحقيق أمنياته. انه السر الذي شدّ انسان الغرب الى الشرق وخياله الرومانسي، وثمة غموض كستار لمغامرات وألوان وأسرار في هذه القصة، ترغم المشاهد على التفتيش عن ثقب في هذا الستار لكشف مؤثرات الحكاية". ويشرح ايفان بإسهاب: "اضافة الى القراءة العربية الكلاسيكية ل"ألف ليلة وليلة" لجأنا الى الكتّاب الأوروبيين للاطلاع على أساليبهم في ترجمة هذه التحفة الأدبية الخارقة، وتأثرنا بالنسق الذي استخدمه الفرنسي انطوان غالان في لغة أدبية راقية. ابتعدنا عن سرد حكايات "ألف ليلة وليلة" من سندباد الى علي بابا والست بدور وقمر الزمان وسواهم، بل مضينا الى عمق الاسطورة التي تجسدها شهرزاد، هي قربان بشري قبلت أن تكون الضحيّة لملك غاضب وظالم هدد جنس النساء. وقد أبرزت أهمية المرأة، وتمكنت من تعليم الانسان كيف يحب وأنقذت المجتمع من القتل وربحت رجلاً بكل معنى الكلمة". ويتابع: "بدأنا التحضيرات منذ عام ونصف، وينفَّذ الديكور في أكبر مصنع في ايطاليا وهو متخصص في تصميم وتنفيذ ديكورات واكسسوارات كبريات المسارح الأوروبية. أما الملابس فيتولى تصميمها والدي وينفذها بدقة في مشغله الخاص وهو لطالما اشتهر في مسرحياته السابقة بسخاء أقمشته وندرتها وجمال تصميمها، متناسقة مع حركة الرقص وخفة الراقصات والراقصين". من جهتها، تتولى اليسار تصميم رقصات المسرحية وتستشير والدها في الشاردة والواردة، وعندما يقرران اللوحة، تبدأ التمارين مع الفرقة ثماني ساعات يومياً. وتعتني أليسار بالتفاصيل مع مجموعة كبيرة لا تقل عن 80 راقصاً وراقصة، وتقول: "كل شيء في هذا العمل مدروس، أنا أصمم ووالدي يراقبني. قد تكون رؤيتي مختلفة عن والدي إلا اننا نتناقش دائماً ثم نقرر الحركة الأكثر تعبيراً عن الحكاية. تجربة والدي الطويلة سند أكيد لي. اليوم، أنا متشربة من كركلا الوالد ومن رسالته". أليسار وايفان كركلا هما جزء لا يتجزأ من عبدالحليم كركلا، لا يقبلان إلا بعمل متكامل لا ثغرة فيه ولا نواقص. هو رجل صامت يفكر في تأن ويطرح آراءه في وعي وثبات. اسلوبي واقي في اشتمال الفنون من موسيقى وملابس وديكور وجمعها في رؤيا واحدة. وها هو بات جاهزاً في "ألفا ليلة وليلة" ليركب قصة شهرزاد على خشبة تستوعب مؤثرات الأسطورة بألوانها وأحلامها والسحر الكلاسيكي. أما هي فتعيش أجواء الشرق وخياله وتمتص منه نسغاً لتصبح قادرة على أن تضع راقصاً بميزات الغرب وشفافية الشرق. وها هي تدخل على انسان خيالي يرقص على قصة خيالية "ألفا ليلة وليلة"، مدركة ان عليها تلبيته بتعابير جسدية سريعة يلتقطها قبل أن تهرب منه على هذا العامل الماورائي. ولا تسمح للجسد بأن يخطئ فتجرّب على حالها قاسية، ملحاحة، حتى اذا ارادت أن تنقل الى الفرقة اختبارها تريده جاهزاً لاستيعابه من دون أي التباس. فعلاً انهما سرّ ابيهما، والحكاية الجديدة من المتوقع أن تبدأ في مطلع السنة الجديدة 2002.