إنّها أجواء "ألف ليلة وليلة" ينقلها عبدالحليم كركلا من ذلك الكتاب الضخم، ويرسّخها على المسرح حكايات وشخصيات ولوحات راقصة وغناء وموسيقى... عالم شبه خيالي وشبه واقعيّ في آن، شاءه كركلا صاخباً بالألوان والأزياء والحركات التعبيريّة والمشاهد التي تمرّ مرّ الأحلام. لم تكن مجرّد مصادفة أن يسمّي عبدالحليم كركلا عرضه الراقص "ألفا ليلة وليلة" جاعلاً الليالي الشهيرة ألفين. فالحسناء الفاتنة شهرزاد التي تجيد سرد الحكايات تغدو هنا أكثر من شهرزاد، وكذلك الحكايات التي تتحوّل لوحات ترسمها الأجساد المتفلّتة من أسر خوف كثيراً ما خامر الفتيات العذراوات اللواتي كان يقتلهنّ شهريار، كما أخبر كتاب "ألف ليلة وليلة". كل الفتيات أو الراقصات هنّ شهرزاد، لكنّ الانتقام الذي مارسه العاشق الذي غدرت به زوجته وخانته مع عبيد القصر استحال هنا إلى مواجهة بالرقص. قد لا يعني مشاهد عرض "ألفا ليلة وليلة" في مدينة دبي للإعلام أن يبحث عن الحكايات وتفاصيلها وعن الشخصيات الكثيرة، فالرقص استطاع أن يصوغ القصص بصرياً، جاعلاً المادّة السرديّة جمالية ترسّخها الكوريغرافيا الجديدة التي اعتمدها كركلا ولم تحلْ ضخامة الديكور وفخامة الأزياء دون بروزها. رقصات يشعر المشاهد أنّ كركلا سعى من خلالها إلى تطوير لغته عبر ابتداع أبجدية جديدة تذكّر بهويّته التي باتت معروفة بمقدار ما تختلف عنها أو تتخطّاها. بنى عبدالحليم كركلا ما يشبه القصر وأقام حوله سوراً تعيد إلى الذاكرة صوراً من التاريخ العبّاسي وسواه. وراح القصر يتحوّل بحسب السرد البصري - الراقص إلى ساحة من ساحات القاهرة أو بغداد أو سمرقند أو الهند. فالأقمشة التي انتقاها كركلا من أسواق طهران وسواها، والسينوغرافيا التي نفّذها فنّانون محترفون إيطاليا تجسّد بجمالها سحر ذلك العالم الخيالي والتاريخي، عالم "ألف ليلة وليلة" القائم على تخوم الخرافة والواقع. لم تطلّ شهرزاد كشخصية درامية إلا في بضعة مشاهد، وكذلك شهريار وشاه زمان ملك سمرقند و"أنس الوجود" و"نور زمان" والأمير المجهول والعرَّاف والساحر... المسرح احتلّته الراقصات أولاً بأجسادهن وحركاتهن التعبيرية التي كانت كافية لتسرد حكايات العشق والخوف والرغبة والقتل... واحتلّه ايضاً الراقصون ممثلين حيناً أدوار العبيد وحيناً أطياف شهريار المتعدّدة وشخصيات تحفل بها القصص التي يتوالد بعضها من بعض. واعتمد كركلا بنية مشابهة لبنية كتاب "ألف ليلة وليلة" عبر تقنية الحبك المشهديّ - الراقص التي جعلته ينسج اللوحات على وقع الأجساد وايقاع الموسيقى وقد تعدّدت ألوانها ومناخاتها. ولعلّ المشهد الراقص الذي بناه على موسيقى "بوليرو" للموسيقي الشهير رافيل بدا ساحراً سواء بجوّه المميّز ونزعته الشرقية أم في بنيته التصاعدية المتفجّرة. وكان كركلا عهد الى الموسيقيّ الايراني هوشنغ كامكار أن يصوغ موسيقى "بوليرو" أو يوزّعها في صيغة شرقية فارسية وعربية. وبدا عمله الموسيقيّ باهراً سواء في هذه المقطوعة أم في المقطوعات الأخرى التي سطعت فيها الآلات الشرقية العود والقانون وسواهما... وبعض الآلات الفارسية السنتور وسواه. واستطاعت الموسيقى الفارسية - العربية أن ترسّخ الطابع الشرقي والعربي للعرض الراقص. واعتمد كركلا في لوحة أخرى موسيقى "شهرزاد" التي وضعها ريمسكي كورساكوف وتخللها بعض الأنغام أو الفواصل الايرانية. وقد لا يعني وصف العرض بأنه "ضخم" للتعبير عن ضخامته وضخامة ديكوراته التي نفّذت في إيطاليا وأزيائه المشغولة بجمالية وإتقان وإضاءته والسينوغرافيا المعتمدة والكوريغرافيا والموسيقى... مدينة دبي للإعلام التي أنتجت العمل وفّرت للفنان كركلا وفرقته كلّ ما يحتاجان إليه للوصول إلى مثل هذا العرض. وكعادته استعان كركلا ببعض المطربين والممثلين المعروفين. المطربة هدى حداد أدّت دور "أنس الوجود" وفاجأت الجمهور بأدائها حوارية غنائية مع المطرب القدير سيمون عبيد. وبدا صوتها كأنه يكتسب هويّة جديدة عبر الموسيقى التي وضعها توفيق الباشا. وأطلّ انطوان كرباج ببراعته إطلالات مختلفة، منها إطلالة الراوي الذي يرافق اللوحات ويروي بعض التفاصيل. وحضر ايلي شويري وجوزف عازار ورفعت طربيه وداني عطوي أدّت بعض الأغنيات الجميلة ونبيل كرم وطوني عاد... وجميعهم أشرف على أدائهم المسرحي المخرج الطليعي ريمون جباره. واستعان كركلا بإبنته أليسار في تصميم الرقصات وبإبنه ريفان في إخراج العرض ككلّ. والعرض المسرحي الذي افتتح أمس يستمرّ حتى 24 الشهر الجاري، ضمن البرنامج الفنّي لمهرجان دبي للتسوّق.