"عامل الآلات أقدر من خبير العلوم السياسية والاقتصادية على اصلاح الأوضاع المتدهورة في البرازيل"، و"تعيين طبيب وزيراً للاقتصاد خيار أمثل لمعالجة اقتصاد البلاد الذي يرقد في العناية المركزة". "رؤية" مبسطة ربما بدت مجنونة لماسح الأحذية السابق لويز ايناسيو "لولا" دا سيلفا 57 عاماً الذي يتبوأ اليوم سدة الرئاسة في البرازيل، والذي يسعى الى "تلميع" صورة بلاده و"مسح" البؤس عنها واخراجها من الأزمة الاقتصادية التي تطحنها تحت عبء تاسع أكبر دين في العالم يبلغ حجمه 260 بليون دولار. لكن البساطة لدى "لولا" الذي أوصل اليسار الى السلطة في البرازيل للمرة الأولى منذ 40 عاماً والذي شكّل فوزه بنسبة 61 في المئة من أصوات الناخبين حدثاً في تاريخ البلاد، ليست بالضرورة مرادفاً للسذاجة. فالرجل الذي تعلم مبادئ القراءة بعد بلوغه العاشرة، "يقرأ" جيداً مشكلة ال60 في المئة من البرازيليين ال170 مليوناً التي تعيش تحت خط الفقر، لذا انسحبت البساطة نفسها على وعوده الانتخابية، فتعهد "ان يكون في مقدور كل برازيلي الحصول على ثلاث وجبات يومياً عند انتهاء ولايتي". وفي الواقع ليس هناك أفضل من هذا العصامي من يمكنه ادراك معاناة هؤلاء مع البطالة والجريمة والفقر، اذ أن رحلته الى قمة السلطة بدأت من القاع، فهو افتتح حياته العملية في سن ال12 بائعاً لجوز الهند ثم ماسحاً للأحذية في شوارع ساو باولو، قبل أن يعمل في مصنع للصلب في احدى المدن الصناعية في الضواحي المعدمة للعاصمة البرازيلية، حيث فقد احدى اصابع يده بين أسنان احدى الآلات عام 1960. ويمثل وصول الرئيس الجديد الى سدة الرئاسة منعطفاً ثورياً في تاريخ البرازيل، اذ انه أول رئيس من الطبقة العاملة في تاريخ أكبر بلدان أميركا اللاتينية، محطماً تقليداً كان يحصر الحكم في نخبة من سكان الجنوب والقادة العسكريين منذ نزول البرتغاليين في أرض البرازيل قبل أكثر من 500 عام. لم يعرف عن "لولا" اهتمامه بالسياسة، لكن العمل النقابي استهواه عام 1969 بعد وفاة زوجته الأولى بالتهاب الكبد الفيروسي. وفي عام 1975 انتخب رئيساً لنقابة عمال الصلب التي تضم أكثر من 100 ألف منتسب، وتمكن في فترة قياسية من اخراجها من تحت جناح الحكومة وتحويلها الى تنظيم مستقل له كلمته المسموعة. وفي 1980 نجح لولا في جمع خليط من النقابيين والمثقفين والتروتسكيين وناشطين كنسيين ليؤسس "حزب العمال"، أحد أهم الأحزاب اليسارية في تاريخ البلاد. لكنه أدرك باكراً خطورة الطروحات المتطرفة، فعمل على اضفاء توجه براغماتي يعتمد الاشتراكية الاجتماعية محل الدعوة الى التغيير الجذري في تركيبة السلطة، منتقلاً بالحزب من أقصى اليسار الى يسار الوسط، أو ما أصبح يصطلح على تسميته ب"اليسار الجديد". وفي حملته الانتخابية الأخيرة التي سبقتها ثلاثة سباقات خاسرة، عدّل من خطابه السياسي، فخفف من خطبه الاشتراكية النارية لاستمالة المحافظين ورجال الأعمال وهما الفئتان اللتان اعتاد ناخبو البرازيل اختيار رئيس منهما، وتحالف مع حزب يميني صغير، وأدخل تغييرات على مظهره الخارجي ليصبح أكثر قبولاً لدى الناخبين، معتمداً في الوقت نفسه على شخصيته الكاريزمية للاحتفاظ بمؤيديه التقليديين. "العالم والبرازيل تغيرا وكذلك الحزب وأنا". أكد "لولا" ذلك مراراً. ولعل الدلالة الأبلغ على هذا التغير ان يصف مدير صندوق النقد الدولي، الذي طالما زادت وصفاته الاقتصادية فقراء العالم الثالث فقراً، الرئيس الجديد صاحب الأمجاد في محاربة "الرأسمالية الجشعة"، بأنه "أعظم قادة القرن ال21"