بعد ثلاثة أعوام متتالية من الخسائر الحرِّية بإنهاك أكثر المستثمرين إستعداداً للمثابرة وتقبل المخاطر، يبدو من الطبيعي أن تنقسم آراء الإقتصاديين والمحللين بين التفاؤل بتحقيق حي المال في نيويورك شيئاً من المكاسب في العام الجديد، وبين حث المستثمرين، وربما بدافع من تأنيب الضمير، على التزام جانب الحذر، أقله إلى ان تتضح الرؤية في شأن أداء الإقتصاد وأرباح الشركات، والأهم من ذلك كله المخاطر الجيوسياسية. لكن الملفت أن قلة فقط تحمست للنظر في الكرة الزجاجية، إذ تكاد الغالبية تجمع على أن الحديث عن اتجاهات الاقتصاد وأسواق المال سيكون ضرباً من التنجيم قبل حلول الربيع أو بداية الصيف، على أبعد تقدير، معتبرةً أن الأبعاد الاقتصادية والاستثمارية للمخاطر الجيوسياسية، وباستثناء مسألة مستجدة لم تتفق الآراء بعد على مدى خطورتها، وهي البرنامج النووي لكوريا الشمالية، لن تنكشف إلا بعد إنطلاق الحرب التي تهدد أميركا بشنّها على العراق. وأعطى كاسبار واينبرغر، الذي شغل حقيبة الدفاع طوال فترة الحرب العراقية - الإيرانية، صوتاً للإجماع الصامت، عندما أعرب عن إعتقاده أن تغيير النظام العراقي سيعطي الإقتصاد الأميركي دفعة قوية إلى الأمام. وقال في جملة توقعاته لسنة 2003 إن "رحيل الرئيس العراقي صدام حسين سيزيل كل الغموض والمخاوف التي تُهبط الإقتصاد. وحري بهذا الرحيل وخطة الرئيس جورج بوش في شأن الضرائب والحوافز الأخرى أن يحلا كل القيود التي فرضها قطاع الأعمال الأميركي على نفسه". إلا أن آمال العام الجديد لا تبدو مختلفة كلياً عن آمال مشابهة سبق للاقتصاديين والمحللين أن تمنوها للمستثمرين سنة 2002 ولم يربطوها حينئذ بإنتصار الحرب الأميركية على الإرهاب وحسب، بل عززوها أيضا بتاريخ وول ستريت الذي لم يسجل ثلاثة أعوام متتالية من الخسائر منذ الهجوم الياباني على بيرل هاربر عام 1941 وكذلك الإنتعاش القوي الذي حققته المؤشرات الرئيسية بعد انهيارها الحاد في أسبوع أحداث أيلول سبتمبر 2001. وجاءت صدمة آمال 2002 مفاجئة. وفي سنة يبدو من المؤكد أن العالم سيودعها بحماس، لم تبتعد التوقعات، سيما تلك التي صدرت عن المؤسسات الدولية الأكثر انضباطاً من غيرها، عن ما حصل فعلياً، حيث خرج الإقتصاد الأميركي من ركود ضحل وحقق نسبتي نمو مرتفعتين في الفصلين الأول والثالث، ويحتمل أن ينهي العام بنسبة نمو لا تقل عن 3 في المئة، ووضعت الشركات الأميركية حداً لتدهور أرباحها وبدأت انتعاشاً ملموساً اعتباراً من الربع الثاني. كذلك لم تبخل مؤشرات أسواق المال على حملة أسهمها، إذ إحتفظ مؤشر "داو جونز" للعمالقة الصناعيين بمكاسب قوية طوال الأشهر الستة الأولى من العام، ولم يستعد ذكريات إنهيار أيلول 2001 إلا في نهاية الأسبوع الأول من شهر تموز يوليو وإن كان المؤشر العام "ستاندرد أند بورز 500" بدأ هذه العودة غير المحمودة ومعه مؤشر الاتصالات وتقنية المعلومات "ناسداك المجمع" قبل أسبوعين من ذلك التاريخ. إلا أن الإقتصاد الذي سبق أن قدّم أداءً هزيلاً في الربع الثاني، فقد أنفاسه في الربع الأخير، واضطرت المؤسسات الدولية لإحداث تعديلات مقلقة على تقديراتها. وتحولت نبرة التفاؤل لدى الاقتصاديين والمحللين وحتى بعض المسؤولين الأميركيين إلى إعترافات مباشرة وغير مباشرة بمتاعب جديدة راوحت بين إحتمال تدهور سوق العقار السكني الذي احتفظ حتى الآن بزخم قوي معززاً الإنفاق الاستهلاكي ذي الأهمية الإقتصادية، وبين خطر انتقال مشكلة تراجع الأسعار اليابانية إلى أميركا. ولا يبدو أن المشاكل الاقتصادية كانت بعيدة تماماً عن تصاعد حدة التهديدات الأميركية ضد العراق قبل بدء مهمة المفتشين الدوليين وبعدها، وهو عامل يؤكد الإقتصاديون صعوبة تحديد أثره سيما في أسواق المال التي واجهت كذلك عواصف الفضائح المحاسبية ولم ترتفع مؤشراتها طوال النصف الثاني من العام إلا لتنزلق من جديد وإستمرت في تذبذب حاد بلغ القاع في الأسبوعين الأولين من تشرين الأول اكتوبر وقدمت أفضل ما عندها من أداء، وإن لفترة قصيرة، في أواخر تشرين الثاني نوفمبر. وفي محصلة شبه نهائية، جاءت نتائج 2002 أشد قسوة حتى من سنة 2001 بكل ما شهدته من أحداث وتطورات. وحتى مؤشر أسهم الشركات الصناعية العملاقة التي اكتسبت الكثير من البريق الذي فقدته أسهم التكنولوجيا والإتصالات منذ إنفجار فقاعتها أوائل عام 2000، أنهى العام، أو كاد، بخسائر ثقيلة أفقدته قرابة 2000 نقطة من نقاطه وأقل قليلاً من 20 في المئة من قيمته الدولارية. وحسب المتوقع، واجه مؤشر الشركات الأميركية ال500 الكبرى مصيراً أسوأ قليلاً من "داو جونز الصناعي". ويبدو من شبه المؤكد أن خسائره من نقاطه قد تصل إلى 300 نقطة أو تتجاوزها لتنخفض قيمته الدولارية بما يقرب من 25 في المئة. وكذلك كما هو متوقع انفرد مؤشر "ناسداك المجمع" بالمصير الأسوأ على الإطلاق. وقد تنخفض قيمته بواقع 35 في المئة من خسائر في النقاط قد تتعدى 700 نقطة. وما يعنيه ذلك كله، وفي تقديرات ل"الحياة" اعتماداً على التغييرات المسجلة في مؤشر "وولشاير 5000" الذي يرصد حركة زهاء 7 آلاف شركة أميركية يتم تداول أسهمها في أسواق المال، يبدو أن سنة 2002 لم تكن أقل من كارثة بالنسبة لحملة الأسهم الأميركية، إذ بلغ إجمالي خسائر ثرواتهم السهمية 2.895 تريليون دولار، متجاوزاً بذلك الخسائر الثقيلة التي تكبدوها في عام 2000 وبلغت قيمتها آنذاك 2.588 تريليون دولار وكذلك خسائر عام 2001 التي بلغت قيمتها 1.760 تريليون دولار. وتبدو المحصلة الإجمالية لإستعادة أسواق المال الأميركية ذكريات الحرب العالمية الثانية وتكرار ثلاثية السنوات الخاسرة مروعة، بقدر ما لرقم فلكي مثل 7.243 تريليون دولار من قدرة على الترويع. وما يزيد الأمور سوءاً أن بعض المحللين لم يستبعد إحتمال تكرار حدث السنوات الأربع الخاسرة التي عاشتها أسواق المال في أزمتها التاريخية بين 1929 و1932. وفي حال تحقق ذلك، فلن يحصل على شيء من العزاء سوى القلة التي تملكت الأسهم الأميركية قبل الانطلاقة المذهلة التي بدأتها في مطلع التسعينات من القرن الماضي.