Nazik Saba Yared. Secularism and the Arab World. العلمانية والعالم العربي. Saqi Books, London-Beirut. 2002. 251 pages. ربما كان التذكير بثقافة "النهضة العربية" أحد أفعل الأدوات في مواجهة "صراع الحضارات". فهو برهان على أن العرب ينشقّون في داخلهم، كما يخوضون في ما بينهم - وليس فقط مع "حضارة" أخرى - صراعات محكومة بطلب الحداثة. لا بل يمكن أن تنحاز فيهم الفئات الأكثر ديناميكية وصعوداً ولو بتفاوت ديني ومذهبي ومناطقي الى الحداثة هذه. لكن التذكير نفسه ربما كان أداة فاعلة في مواجهة كارهي الغرب. يصحّ هذا أيضاً على من تقتصر كراهيتهم على سياسته، الا أن مبالغتهم في التكريه بالمعلّم تجعل التعلّم منه مستحيلاً: إذ هل يتعلّم المرء من معلّم "عدو"؟ في هذا الكتاب، تستأنف الباحثة والأديبة اللبنانية نازك سابا يارد إشتغالها على النهضة ومسائلها، مُلاحظةً أن مصر ولبنان وسورية كانت مهدها التاريخي. فالمغرب تعرّف إلى العلمانية من خلال الإطّلاع على كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم". أما في تونس فلم يصل الأمر بخير الدين إلى قطيعة مع المنظور الإسلامي، فيما انتسب الطاهر حدّاد إلى فترة أحدث عهداً. وبينما حال الاحتلال الفرنسي للجزائر دون ارتفاع أصوات كهذه، جاء تأثير الغرب على العراق متأخراً ومحصوراً في نطاق نخبوي بالغ الضيق. لكن نقطة الانطلاق، في مصر، تبقى عهد إسماعيل، وفي لبنان وسورية،الإرساليات والتدخل الأجنبي إثر حرب الستين، ثم هجرة المثقفين إلى مصر البريطانية مع حلول الاستبداد الحميدي. في هذا السياق المديد والمتداخل بدت المسألة الأولى للقرن التاسع عشر فصل الروحي ورموزه عن الزمني. ولئن برز ، هنا، بعض التمايُز بين المسيحيين والمسلمين، لم يسع الأولون إلى الفصل كمجرد ردّ على الأخيرين، بل أيضاً "لتحرير أنفسهم من الضيق الاجتماعي والثقافي للحياة داخل طوائفهم المسيحية"، بحسب ما رأى توماس فيليب. وشهد الربع الأول من القرن العشرين العاصفة الأعنف مع صدور "الإسلام وأصول الحكم"، ما كلّف صاحبه الطرد من سلك العلماء ومحاكم الشريعة حيث عمل قاضياً، فضلاً عن محاكمته وحرق الكتاب. وتصّدى المسيحيون بين هؤلاء للطرق الحَرفية في تفسير الدين، وتبنى جرجي زيدان وفرح أنطون وشبلي الشميّل موقفاً خالص العلمانية منه. وإليهم، وكلهم هاجر إلى مصر، تولى مهاجر آخر هو يعقوب صرّوف التعريف بالعلوم والتفكير العلمي فتعرض، ومعه زميله في "المقتطف" فارس نمر، لهجمات صحيفة "البشير" اليسوعية. بيد أن الشميّل وحده، وهو طبيب، كان من عبر إلى ضفة الإلحاد فنشر، في وقت يرقى إلى 1884، كراساً عنونه "فلسفة النشوء والارتقاء". غير أن أفكاره لم تمنعه من الدفاع عن الإسلام حين اتهمه اللورد كرومر بأنه السبب في تأخر المسلمين. وتميّز طه حسين، ليس فقط لأنه واجه النظرة اللاتاريخية إلى الدين، بل أيضاً لأنه نظر إليه تاريخياً وثقافياً. ومن هنا كانت محنته مشابهةً لمحنة عبدالرازق مع صدور كتابه "في الشعر الجاهلي" 1925. والحال ان الإلحاد لم يكن الهمّ المركزي لأيّهم. فقضيتهم، بحسب هشام شرابي، "تحويل انتباه البشر عن الدين والميتافيزيقيات وشدّه إلى قضايا العالم الفعلي". ذاك أنهم كانوا، في النهاية، حداثيين ونسبيين جمعت بينهم معاداة التعصب، وبالتالي رجال الدين كأداة إنتاج وتوزيع له. لهذا لاحت لهم الأكليركية مساوية للجهل ومُسببة للظلم والتأخر. ومع هؤلاء بدأ التلمس الأولي للفرد ككيان، فظهرت كتابات عن أهميته بذاته وعن إنجازيته ومسؤوليته. ورأى طه حسين، مثلاً، ان لوم الاستعمار لا يلغي المسؤولية الأولى للمصريين عن تخلفهم. وإذ طال التداول فكرة حق الفرد في أن يكون حراً تفكيراً واعتقاداً، ترتب عليها التطرق الى موضوعات التسامح وحرية البحث العلمي وتأويل الدين. وحضرت قضية المرأة، خصوصاً مع رفض "العلماء" ما قررته "لجنة الاتحاد والترقي" في 1908 من مساواة بين المواطنين جميعاً. فمكانتها وتعليمها و"مساواتها" شغلت قاسم أمين وزينب فواز ونظيرة زين الدين، وكان اهتم بها البستاني والشدياق رجوعاً إلى الطهطاوي. وإذا قادت هذه المواقف إلى الحق في العمل السياسي وحيال الحجاب وتعدد الزيجات، فإنها بقيت عموماً منضبطة بالتوافق مع النص الديني، من غير أن يحميها انضباطها من الهجمات الضارية. ودوماً طغى الاعجاب ب"بمعارف الغرب" وأوُلي تنزيه التعليم عن الطائفية والأديان دوراً بارزاً حتى ان الكواكبي، رجل الدين، لم يعارض التعليم الزمني. وفي السياق هذا أنشأ لطفي السيد الجامعة المصرية، كما هاجم الشدياق طرق التعليم التقليدية، وتصدى كرد علي للخرافات. وفي ملاحظة سوسيولوجية مبكرة، رأى أنطون والشميّل أن الذين يجمعون المعلومات ويقارنون لا يكونون متعصّبين. وكان لطفي السيّد وطه حسين أشد المركّزين على اصلاح التعليم وتحديثه، حتى دعا أولهما إلى تحريره من سلطة الدولة. فحين طُرد من الجامعة تضامن معه أستاذه، السيّد، واستقال من رئاستها. ولئن ردّ حسين سوء التعليم إلى الطرق السائدة في فهم الدين، طالب بأورَبة المناهج وتدريس الفلسفة اليونانية والوثنية، وكان أبطاله في كتابه "قادة الفكر" هوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو واسكندر الكبير ويوليوس قيصر. لكن إذ ذهبت قلّة إلى أن المعرفة تُقصد بذاتها ولذاتها، ظل ربطها بأغراض عملية ومادية هو الطاغي. وإذ أجمع النهضويون على التنديد بالتعويل على القدر، ذهب المسيحيون منهم في اتجاه نقدي لتمجيد الماضي وأمْثَلته لأن العلم، ومصدره أوروبا دوماً، طريق الصناعة والحضارة. وربما كان الشميّل وانطون أكثر من فكّر في تشذيب التفاوت الاجتماعي لهذه الحضارة الأوروبية التي يجري التطابق معها والسعي إليها، حتى اعتبر شرابي أن على يدهما "يظهر للمرة الأولى في الفكر العربي التنبّه الى... الشريحة المُفقرة العريضة في المجتمع العربي". وكان الطغيان، أتقاطع مع احتلال أجنبي أم لا، من محاور النهضة. لكن كان لا بد للمثقفين العرب، بمن فيهم الكواكبي وأمين، أن يبحثوا في الفكر الغربي عن مُستَندهم لمحاربة الحكم المطلق. بيد ان مكافحة الطغيان لم تخلق للعنف صورة وردية الا جزئياً جداً عند أديب اسحق. فقد شاع التوكيد، مرةً أخرى، على التعليم وسيلة تغيير. وإذا راجت الديموقراطية كمثال أبعد، إلا أن الغموض انتاب معناها فتداخلت مع الدين والشورى وإن نحا البعض الى ربطها بفصل السلطات. واستوقفت "القوانين" أفراد تلك النخبة، اذ المطلوب تغييرها بما يستجيب عصراً من الانحلال، ومن ثم الانهيار، العثماني. وإذا لاحت الشريعة إشكالاً لدى المسلمين السوريين كرد علي، الكواكبي فإنها لم تكن كذلك في مصر السيد، حسين حيث الدولة والمؤسسات على درجة أبعد من الرسوخ والتوطّد. وكان المسيحيون بالغي التوكيد على أولوية الوطنية، ومن بعدها القومية، على الدين. ولئن ظهر من هاجم العثمانيين ثم القوى الاوروبية، دافع اسحق عن "قومية شرقية" تشمل السلطنة، وقد حُدّثت، ضد الاستعمار الغربي. الا أن التمييز بين الاسلام والعروبة ظل حاداً عند المسيحيين حدّة الافتخار باللغة العربية والتفكير في تحديثها. فزيدان أنفق عمره يبسّط التاريخ والثقافة العربيين لا الاسلاميين، وحاول البستاني تسهيل الاسلوب التقليدي، واندفع الشدياق الى تطوير اللغة واضافة مصطلحات تواكب تغيرات الزمن. أما في مصر، فمال أمين الى اختزال بعض القواعد، كما انشغل لطفي السيد وحسين بتجديد اللغة والأدب. وفي هذه الحقبة، ولدت هواجس ثقافية جديدة كتحرير تعليم العربية من احتكار الأزهر، والتعاطي مع الفنون الجميلة، وتقصير المسافة بين المكتوب والمنطوق. وبدوره ذهب الكواكبي مذهب وطنية عربية مشوبة بالغموض وانعطف كرد علي، بعد الحرب الأولى، عن ولائه العثماني الى العروبة، فيما دعا جورج سمنة الى قومية سورية. وفي مقابل ارتباك سوري - لبناني لجهة الانتماء، ظلت الوطنية المصرية العلمانية قاطعة لا يرقى اليها شك المثقفين المصريين. لكن القومية لدى السيد وحسين لم تصبح ابداً شوفينية، كما لم تصبح وطنية زيدان والشميّل قوميةً أصلاً لكرههما القومية وافتراضها توأماً للحروب. وعموماً رأى هؤلاء الى التبلور الوطني كعمل تدرّجي يحصل بالتعاون مع الاستعمار الذي كنّوا اعجاباً كبيراً بمنجزاته. لقد رصدت سابا يارد معظم اتجاهات "النهضة" ومحرّكاتها، لا سيما بنيتها التحتية، اذا صح التعبير، أي أساسها الأهلي والديني، والطائفي في حالة لبنان. وفي هذا الحيّز أظهرت براعة في الربط والتمييز فاقت اهتمامها بمحددات أخرى كانعكاس الأوضاع الاقليمية والدولية. وكان يمكن القول، في معرض نقد "النهضة"، أنها انحازت الى الصيغ الحداثية الأكثر تعويلاً على التقدم التقني والأضعف تنبيهاً الى الانساني والقانوني. فالاهتمام بداروين، وبدوركهايم بدرجة أقل، لم يرافقه تطوير مناعات ضد الداروينية الاجتماعية، أو التأويل الآلي والحتمي للاجتماع. كذلك فقومية عازوري العنصرية، وبعض الأحكام المتفرّقة عند النهضويين في خصوص "كسل" الشرقيين و"بلادتهم"، أو انقياد جرجي زيدان الى رفض المساواة بين الجنسين تأثراً منه، ومن شبلي الشميّل، ب"البقاء للأصلح" الداروينية، كلها نوازع مُقلقة لا يعادلها كماً ونوعاً الاشارات التقدمية التي ربما كان فرح أنطون الأكثر تميزاً في حملها. على أننا لم نتجاوز "النهضة" أصلاً، ولا غدت جوانب قصورها الكثيرة من مواضيعنا المُلحّة. فنحن، مع الهجمة الأصولية التي مهّدت لها الموجة الراديكالية القومية والعسكرية، بتنا لا نفعل غير تذكّر "النهضة" كحدث وُئد في طفولته، ولم يعد مطروحاً الا على التذكّر، من دون أية دينامية أو حيوية يمكن أن تردّه الى الراهن. و"العلمانية والعالم العربي"، ككتاب "نظيف" وكمرجع تعليمي مشغول، يساعدنا على أن نتذكّر بصورة جيدة ودقيقة.