منذ بدأت حركة اليقظة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى يومنا هذا، مرت محاولات الانفكاك من أسر الماضي، وعناصر الانحطاط التي شابته، بحقب ثلاث، تصدرت فيها عناوين: الإصلاح فالنهضة، وأخيرا الحداثة. كان دعاة الإصلاح، قد اختزلوا كل الأسئلة، في سؤال مركزي واحد: لماذا تقدم غيرنا وتأخرنا نحن؟. وحول هذا السؤال، تبارى مفكرو الإصلاح في تقديم الأجوبة، محكومين فيها، بمواقعهم السياسية، والاجتماعية، وبمواقفهم الفكرية انقسمت النخب العربية، في انتماءاتها الفكرية إلى فريقين: فريق رأى أن الخلل يكمن في ثبات ثقافة الماضي، وعدم الانفتاح على الفكر الحديث. وطالب بقطيعة فكرية شاملة مع الماضي. وقد تصدر مفكرون من أمثال بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق وشبلي شميل وفرح أنطون وأديب إسحق، وفي مرحلة لاحقة، أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين، هذا الفريق. بينما رأى مفكرون آخرون، في العصر الذهبي للإسلام، بوصلة للتقدم، وتجاوز الركود. ولعل أبرر هؤلاء حسن العطار، ورفاعة رافع الطهطاوي وعبدالرحمن الكواكبي، ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وخير الدين باشا، وجمال الدين الأفغاني. ولهؤلاء يرجع الفضل في ترسيخ فكرة الأصالة، وإحياء التراث. ومن هنا تصنف هذه النخبة، بدعاة الأصالة، وبالإحيائيين في أحيان أخرى. جوهر فكرة الأصالة، مدافعة الهوية والأنا الحضارية الثقافية، والدينية في مواجهة نقائضها. وليست نقائضها سوى ما لا يدخل في حوزة كينونتها كوعي ذاتي مطلق. ومن هذا الآخر، الغرب وثقافته ومدنيته، ونظمه المعيارية. لقد بدت الاستمرارية التاريخية، أقرب إلى العقيدة في خطاب الأصاليين، ولم يتزعزع الإيمان بها، معاينة الفارق الحضاري بين أحوال المسلمين، وبين ما هي عليه مدنية الأوروبيين. فقد نظر إلى هذا الفارق، باعتباره نتاجا لانحراف المسلمين عن جادة العقيدة، التي صنعت لهم في التاريخ حضارة مركزية، في ماضيهم التليد. انتهى فكر الأصالة، من الدفاع عن الهوية، في وجه الأجنبي، إلى الهجوم عليه باسم الجهاد. لتتحول لاحقا، ومنذ السبعينيات من القرن الماضي، من حالة دفاعية، لأمة مغلوبة في مواجهة الزحف الثقافي الغربي، إلى حالة هجوم في مواجهة بناء الدولة الحديثة، على أسس معاصرة. انهت الحرب الكونية الأولى، الحلم المشرقي بالاستقلال، وبالدولة القومية الحديثة، التي بشرت بها حركة اليقظة العربية منذ عام 1913. لقد سقطت بلاد الشام، والعراق تحت سنابك القوات الغربية الغازية، وقسم الوطن العربي حصصا بين المنتصرين في الحرب. وكان وعد بلفور، الذي هيأ لحيازة الصهاينة لأرض فلسطين، قد بدأ وضعه قيد التنفيذ، بعد الحرب مباشرة، من خلال تسريع الهجرة اليهودية لأرض السلام. وكانت تلك هي النكسة الأولى لمشروع النهضة. وفي ظل هذه المناخات، بدت أوروبا للنخب العربية، ناكثة لرسالتها الحضارية الإنسانية، رسالة الأنوار والعقل والحرية والتقدم. فمن وجهة نطرها، لم يكن الصراع مع العثمانيين، صراعا من أجل التحرر من هيمنتها فحسب، بل صراع بين التقدم والتخلف، صراع بين العصور الوسطى ومتطلبات الحداثة، حيث الهدف بناء الدولة الوطنية الحديثة. لقد ولد مشروع الحداثة، من قبول لفكرة الصراع بين الحديث والقديم، ومن استلهام المثال العقلاني الأوروبي. ولم يكن صدفة أن يطلق الاصلاحيون والحداثيون المبكرون على مشروعهم تسمية عصر التنوير، اقترابا من مسمى عصر الأنوار الأوروبي. وقد انحازت النخب الحداثية، لفكرة العروبة، التي لم تكن ترى أي مستقبل للأمة إلا في وحدتها. وحين تصدرت هذه النخب معارك الاستقلال الوطني، زاوجت بين معركة التحرر وتحقيق الوحدة. حقق المشروع النهضوي، في ظل تخلخل النظام العالمي بعد الحرب الكونية الثانية، جزءا من أهدافه، وفقا لسياقاته النظرية في تلك الحقبة. وحصلت البلدان العربية على استقلالها السياسي. مثلت نكسة يونيو 1967م، نهاية مرحلة الصعود في مشروع النهضة، وبدأ العد التنازلي للإمبراطورية السوفييتية. ومنذ مطالع السبعينيات، تم انتقال استراتيجي، في طبيعة الصراع العربي مع الصهاينة. تحول الصراع من طابعه الحضاري، كصراع وجود إلى صراع حدود ومناطق متنازع عليها. وغيبت السياسات الجديدة، التلازم الجدلي بين اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، باعتبار الأولى هي التكريس العملي للتجزئة وغياب التنمية، والآخر، من خلال اغتصابه فلسطين فإنه وضع إسفينا في مشروع الوحدة. لكن تلك الحقبة لم تخل من ممانعة مثلتها مقاومة هنا وهناك، أبرزها انتفاضة أطفال الحجارة. وإذا ما قمنا بمراجعة نقدية للمشروع النهضوي العربي، منذ انطلاقته، فإن أول ما يواجهنا، انه كان انعكاسا لما جرى حوله من تفاعلات وتجاذبات. ولم يقف بعيدا عن التيارات الفكرية والسياسية الوافدة، بل تلاقح معها وأخذ منها الكثير. لقد كان المشروع، أحد التعابير عن تفاعل منطقتنا مع عصر القوميات الأوروبي، ونشوء الأمم الحديثة على مرتكزات قومية. لكنه أيضا كان رد فعل غاضب على النهج العنصري، الذي مارسه الأتراك بحق العرب، وخاصة إصلاحات التنظيمات الإدارية عام 1839م، وتوجهات حركة تركيا الفتاة التجديدية، والتي كان من نتائجها خلق نزوع شوفيني تركي معاد للتقاليد الدينية الإسلامية. يلاحظ هنا، أن القوميين، ركزوا في البداية على استقلال البلدان العربية من الحكم العثماني، وأكدوا على أهمية الوقفة العربية، في مواجهة الذوبان والاضطهاد العنصريين. والتركيز على بعث التراث العربي، دون وضع برنامج عملي لوضع هذه الشعارات موضع التنفيذ. وحين اتضحت حقيقة اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور لزعماء النهضة، ترك الحدثان بصمات ثقيلة، ليس فقط على مسار «العروبة»، كحركة سياسية، ولكن أيضا على طريقة تفكيرها وتفسيرها للواقع العربي. فمقص التجزئة الذي لعب دورا مأساويا في تقسيم المشرق العربي، وبشكل خاص في بلاد الشام، أدى إلى أن يكون الموقف العروبي من الدولة الوطنية، موقفا عدائيا. أصبح العداء العروبي موجها للدولة الوطنية، وغدت التجزئة في أدبيات النهضة، سببا لكل الأمراض التي تحيق بالواقع العربي، بما في ذلك النزعات الطائفية والقبلية والعشائرية والجهوية... مع أن مقص التجزئة لم يشمل، بشكل واضح سوى المشرق العربي. كان بإمكان العروبيين أن ينطلقوا، في مشروعهم الحضاري من الدولة الوطنية إلى الحالة الأعلى، بدلا من القفز على الواقع الموضوعي. وهم بهذا الطرح قد أعفوا أنفسهم، من معالجة القضايا المحلية، وخلق الجسد الصحيح، الذي هو الشرط اللازم للتفاعل والتكامل والتنسيق بين هذه البلدان، كمقدمة لازمة لقيام وحدة عربية بين أجزاء صحيحة. وكانت النظرة السلبية للدولة الوطنية، من أهم المعضلات التي عاني منها الفكر العروبي. المعضلة الأخرى، التي واجهها هذا الفكر، يمكن أن نعبر عنها بالافتراق في النظرة إلى الأمة بين مشرق الوطن العربي ومغربه. وتعود هذه المعضلة إلى تنوع طبيعة المواجهة التي حكمت مفهوم الهوية بالبلدان العربية. ففي المشرق، انبثقت العربية، لغة وثقافة من هذه البيئة، حيث سبقت انفجار حضارة الإسلام بوقت طويل. وقد أدى بروز الدين الحنيف، ونزول القرآن على العرب وبلغتهم إلى تعزيز دور اللغة العربية. وببلوغ الفتح العربي بلاد الشام ومصر، اعتنق معظم السكان الدين الجديد. لكن نسبة كبيرة منهم أبقت على دياناتها الأصلية. في هذا الواقع، بقيت العربية، عاملا توحيديا، وتجسيدا للوحدة الوطنية. بالمشرق العربي، وبقي هذا الوضع قائما، حتى أبان الحروب الصليبية، وبعد سقوط الدولة العثمانية، ومواجهة العرب للاستعمار الأوروبي التقليدي. وكان رفع المصريين لشعار «يحيا الهلال مع الصليب»، تجسيدا عمليا لبقاء العربية، عاملا توحيديا وطنيا أصيلا لهذا الشعب. يضاف إلى ذلك، أن تعرض الثقافة العربية، دون الدين الإسلامي، في الجزء المشرقي من الأمة، أثناء الهيمنة العثمانية، للتخريب والتدمير، لم يوجه النضال الوطني ضد المستعمر وجهة دينية. فكانت النتيجة اتحاد المشارقة بجميع طوائفهم ومعتقداتهم الدينية في مواجهة العثمانيين. ولذلك لم يكن مستغربا أن يكون معظم زعماء النهضة، شهداء مايو (أيار) من معتنقي الديانة المسيحية، كونهم ضحية نوعين من الاضطهاد العثماني: دينيا وقوميا. في المغرب العربي، تداخلت المعاني القومية والدينية. ذلك أن بلدان المغرب، حتى بعد احتلال العثمانيين لها، تمتعت بحكم سياسي شبه مستقل، بعيدا عن تأثير السلطان العثماني. وتجسدت معاناتها، وبشكل خاص الجزائر في خضوعها فيما بعد، لاستعمار فرنسي استيطاني عسكري مباشر، قل أن يوجد له نظير في وحشيته وشراسته. وقد تعرض لمقاومات الشعب وتخريب ثقافته، وفي المقدمة منها معتقداته الدينية، فكان أن تداخلت المعاني الدينية والوطنية، في الكفاح من أجل الاستقلال. هذا الموقف لم يكن وليدا للتحدي، وطبيعة الاستجابة له فحسب، بل يجد جذوره التاريخية في الطريقة التي جرى بها تعريب بلدان المغرب العربي. ففي حين اكتسبت بلدان المشرق، العربية لغة لها قبل الإسلام، فإن انتشار العربية بأقطار المغرب ارتبط بالإسلام، الذي جرى اعتناقه أولا، ثم لحقت ذلك بعد عقود طويلة عملية التعريب. بمعنى آخر، العروبة بالمغرب العربي، جاءت ملحقة بالإسلام، الذي احتل مكانة رئيسية في بناء التجربة التاريخية المغاربية، وارتبطت به ثقافة المجتمع وطقوسه اليومية. وكانت عملية الصهر بالمجتمع المغاربي، إسلامية بالدرجة الأولى، وعربية في مراحل لاحقة. ونتيجة لذلك، لم يرق شعور هذا المجتمع بالعروبة إلى مصاف الشعور بالإسلام. بل نشأ في الوعي أنه لا يمكن إدراك العروبة إلا من خلال الإسلام، وليس بمعزل عنه. إلى جانب ذلك، خلق التنوع القومي بالمجتمع المغاربي، حاجة ملحة لأيديولوجيا توحيدية، تجمع العرب والأمازيع. فحركة التعريب رغم نجاحها بشكل واسع، إلا أن الازدواجية العرقية والثقافية استمرت قائمة في البلاد. ونظرا لغياب عناصر التوحيد الأخرى، بقي الإسلام وحده القادر على ردم الهوة القائمة بين المتكلمين بالعربية والناطقين بالأمازيعية. يضاف إلى ذلك، غياب التنوع الديني في بلدان المغرب العربي، باستثناء اليهود الذين نأوا بأنفسهم، بسبب مواريث دينية وتاريخية، عن الاندفاع لرابطة العروبة، وظلوا حذرين من الاندماج مع الأغلبية الإسلامية، وأصبحوا في انتمائهم الى المغرب، أقرب إلى الولاء القطري منه إلى الولاء القومي. لقد أدى ذلك لخلق علاقة خاصة بين الإسلام والعروبة، اتسمت بالتداخل والتحاور والتعايش. هذا التمايز في الرؤية للعروبة، بين المشرق والمغرب، إضافة إلى معضلات أخرى، خلق معضلة: نظرية وإستراتيجية في الفكر القومي العربي لا يزال يعاني منها حتى يومنا هذا، رغم جهود أكاديمية بذلتها بعض المراكز العلمية، لصياغة رؤية نظرية عن العلاقة بين الإسلام والعروبة. الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس اللذان قادت المفاوضات بينهما لإنهاء أحلام المشرق العربي بالاستقلال