تشهد رواية "تصحيحات" للكاتب الأميركي الشاب جوناثان فرانزن نجاحاً كبيراً في ترجماتها الاوروبية بعدما احدثت صخباً في الولاياتالمتحدة الاميركية والعالم الانغلوفوني. من هو هذا الكاتب وماذا عن روايته التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً؟ رواية "تصحيحات" ثمرة سنوات طويلة من الوحدة المريرة. كان جوناثان فرانزن يمضي وقته في غرفته المقيمة في حي هارلم شرقي نيويورك، شقَّ عليه احتمال الضوء الآتي من الشارع فعصب عينيه كرهينة وراح يضرب على ملامس الكومبيوتر وينهي فصولاً كاملة لا يلبث أن يرميها في سلة المهملات. ثمَّ يستسلم للشرب والتعب والأرق، يفتش عن نفسه ثم يمقت نفسه ويدور في حلقة مفرغة وكأن هذه العصابة التي يخفي بها عينيه انما يخفي بها حياته أيضاً. وأخيراً جهزت الرواية في ذهنه: قصة عائلة، عائلة لامبرت وأيضاً قصة بلاد، قصة أميركا الغارقة في الفراغ المطلق الذي ما زالت تعانيه منذ ويلات فيتنام وفضيحة ووترغيت واغتيال كيندي. ومع صدور الرواية وُلد روائي يُعتبر الآن من الأفذاذ: جوناثان فرانزن الخجول والجدي ينال national book award التي توازي في أهميتها جائزة غونكور الفرنسية وتتصدر لثمانية وعشرين أسبوعاً لائحة أفضل المبيعات في "نيويورك تايمز" وتبيع مليون نسخة. تبدأ الرواية مثل رواية "الانسان دون صفات" التي كتبها روبرت موزيل، بالحديث عن طقس توراتي ينذر بحدوث شيء ما خطير. ثم تقترب الكاميرا لتصوّر بيتاً في "سان جود" وهي مدينة في القريب الأوسط. يعيش في هذا البيت رجل وزوجته وهما متقدمان في السن، ألفرد وإينيد، لديهما ثلاثة أولاد هم: غاري ودنيز وشيب هجروا العش العائلي ليعيش كل منهم على الساحل الشرقي، ألفرد الأب عمل طوال حياته كمسؤول عن البنية التحتية في شركة سكك الحديد الى أن أصيب بداء باركنسون ولاذ الصمت. كان رجلاً صارماً طهورياً يزعق طوال الوقت ويعاقب أولاده ويكم أفواههم عن كل تعبير معلناً احتقاره الدائم للشرق "المخنَّث". الأولاد، على رغم هجرهم المنزل يجدون صعوبة في قطع حبل السرَّة ويحملون آثار هذه التربية القمعية الطهورية وجراحها. غاري أربعيني اقترن بامرأة من البورجوازية الكبيرة ويعيش في فيلادلفيا حياة ضجرة سئمة تشخر مثل سيارته ويعاني احباطاً نفسياً كبيراً يعالجه باستسلامه لشرب الفودكا. دنيز، الأخت الجميلة، هي الأكثر هامشية بينهم، تزوجت برجل في عمر أبيها وتستسلم لشهواتها فتضاجع الذكور والاناث على حد سواء. لكن مع بلوغها الثانية والثلاثين تجد نفسها على مفترق طرق... أما شيب، الذي أرادت أمه ان يصبح دكتوراً لكن ليس في الأدب يفشل في كل ما يقوم به، طُرد من الجامعة وكتب سيناريو فاشلاً عن رجل مهووس بأثداء النساء ثم عمل في مجلة شهرية للفنون الانتهاكية arts transgressifs، لكنه أوهم والديه بأنه يعمل في صحيفة "وول ستريت"، وغادر الى فيلنيوس ليخلق موقعاً على الانترنت بناءً على طلب من أحد النصابين من ليتوانيا الذي أراد بيع ذاكرة بلاده. يبدو شيب في تسكعاته الكثيرة الأبعد عن استقامة ألفرد العجوز، لكنه يفهم أكثر من أي كان الغرائز التي كبتها أبوه طوال حياته. يعود الثلاثة إذاً الى سان جود لقضاء عطلة الميلاد مع العائلة. وهنا يبدأ كل واحد منهم بتفنيد علاقته بوالديه، وتبدو هنا الإشكالية الأساسية التي تطرحها الرواية: هل يمكن تصحيح الأخطاء التي ارتكبها من سبقونا؟ كيف يمكننا ان ننجح في ان نكون مختلفين من دون أن نتنكر لما يجعلنا متشابهين؟ رواية "تصحيحات" رواية عائلية مشوّقة معقدة لكن سهلة القراءة، متطلبة لكن شفافة. يكتب فرانزن رواية "غائبين" المضادة مستعيداً اللاهوت البروتستانتي القديم الذي يحارب وهم "الطريق السهلة الجميلة"، وهم تصحيح الخطيئة الموروثة بامتياز، خطيئة آدم، الخطيئة الأصلية. وضمن هذا الفودفيل الطهراني الجديد، يحمل فرانزن على كل ما يعزلنا ويعدنا بإمكان الاستغناء عن التاريخ، لأن التصحيح حينئذٍ سيكون قاسياً وشاقاً جداً. رواية "تصحيحات" تتصل بالتقليد الأوروبي الكبير للرواية موزيل مثلاً كما بالروائيين الذين ينتمون الى ما بعد الحداثة أمثال روبير كوفر ووليم غاديس وتوماس بينشون ودون دوليلو. وُلد جوناثان فرانزن عام 1959 في وسترن سبرينغر بالقرب من شيكاغو في عائلة متوسطة الحال. لديه أخوان يكبرانه بسنوات عدة. تابع دروسه الجامعية في سوارتمور في فيلادلفيا متخصصاً في الفيزياء. ثم درس اللغة الألمانية وأمضى سنتين في المانيا، اقترن بزميلة له في الجامعة لكنه ما لبث أن افترق عنها. أمضى فرانزن طفولة "غريبة": "عشت حياة متوحدة جداً. كان لدي القليل من الأصدقاء. لم أكن أرى سوى والدي ومن سيراهم والداي، عشت حياة عجوز. كنت آخر ولد في العائلة وأخواي يكبرانني بسنوات عدة. كان الأمر كما لو أنني أعيش بين أربعة كبار عمالقة، الجميع يحبونني في العائلة لكنني كنت أشعر أنني بعيد عنهم بعداً لا يوصف، أرى ما لا يراه أحد وأخاف عليهم وكأنه يجدر بي أن أحميهم. حين بلغت العاشرة، شعرت أنني عجوز، أفوق والدي سناً وأتماهى معهما في أحزانهما المتبادلة أو على الأقل في انعدام سعادتهما. اليوم فقط بعد أن رحلا، أشعر أنه عليَّ، بدل أن أغفر لهما، يجدر بي أن أطرح هذا السؤال: "وأنا، أين كنت في كل هذه المعمعة"؟ لم يعش فرانزن الحياة، قرأ فقط: "أقمت مختبراً كيميائياً في القبو وهناك كنت أصطحب معي أكداساً من الكتب الموجودة في مكتبة الحي. في المدرسة كان الجميع يكرهونني ويعتبرونني أبله". قرأ فرانزن شكسبير وكافكا وريلكه ودوبلن وتوماس مان. "ان الأثر الذي تركه فيَّ كل هذا الوقت الذي أمضيته في القراءة كان أشبه بعدسة مكبّرة. عندما كنت آتي لرؤية عائلتي أثناء عطلة الميلاد مرة كل سنة، كنت أدرك فجأة كل شيء عن العلاقات التي تجمعنا، كما لو أنني على مدرجات الملعب وأرى من علِ كل ما يجري وأحيط به كاملاً". أما لماذا يحتل الأب الحيز الأكبر من العالم الروائي لجوناثان فرانزن، ففي هذا الأمر يقول: "أنتمي الى الجيل الأخير الذي كان لديه آباء على الطراز القديم قبل الدخول الى مرحلة الجنس الواحد" Unisex، حين كان الرجل يخرج الى عمله في الصباح ليكسب لقمة العيش والمرأة تبقى في المنزل لتهتم بالأولاد، أي حين كانت صورة الرجل نموذجاً عن الرجولة التي لا تُقهر، اليوم كل هذه الصفات أمحت وبات علينا نحن الرجال، ضمن هذه المرحلة من التحول، أن نعيد التفكير في أنفسنا خلال فترة التحول هذه، وأقصد هذه الحرية الأرحب وحق الرجل بأن تكون لديه انفعالات". بدأ فرانزن عمله الأدبي بالكتابة المسرحية لكنه سرعان ما تخلى عنها لأن مثل هذه الكتابة تستلزم العمل ضمن فريق وهي بالتالي مرهقة له خصوصاً أن أباه أنشأه على فكرة ان العمل مع الآخرين يجعل المرء مجنوناً، لكنه احتفظ من حبه للمسرح بميله الى الحوار لأنه يهوى أن يتلبس أصواتاً أخرى ويخاطب جمهوراً متعدداً من دون ان يلغي أحداً، جلّ ما يرغبه هو أن يحبه قراؤه وأن تصبح القراءة شبيهة بالعيش في مدينة كبيرة حيث الأشياء على اختلافها تتجاور. ماري طوق