انشغل الكاتب الاميركي جوناثان فرانزن طوال سبع سنوات بصوغ كتابه "التصحيحيات"، وهاجسه الأول اعادة احياء الرواية الاجتماعية مع اعادة الشخصيات الى الصفوف الامامية بعدما اغرقت الرواية الاميركية والعالمية في النزعة الشيئية والتداعيات والتخييل. ومع صدور الكتاب مطلع الشهر الجاري، بدا واضحاً ان فرانزن كسب الرهان، إذ لم يتردد الناشر دار فرار ستراوس جيرو في وصف الرواية بأنها عمل رائع. وشاركته الانطباع نفسه دار "بابلبشر ويكلي". وسارعت دور النشر الاجنبية الى تخاطف حقوق الترجمة عارضة مبالغ كبيرة، ووقع الكاتب عقداً من هوليوود. وهذا كله حقق له أكثر من مليون دولار. ولم يفاجئ هذا النجاح الذي لقيه الكاتب الكثر من قرائه وقادريه إذ ان فرانزن هو في نظرهم أشبه بشخصية روائية. فمنذ تخرجه عام 1981، دأب على الكتابة ثماني ساعات يومياً. وعام 1988 صدر كتابه الأول "المدينة السابعة والعشرون" وتفاوتت ردود الفعل في شأنه. ولم تكن الأصداء التي أحدثها كتابه الثاني "الحركة القوية" الصادر عام 1992 أفضل ولكنها لم تحبط عزيمته على المضي في الكتابة حتى سطع نجمه للمرة الأولى عام 1996 من خلال رواية عنوانها "أسباب للكتابة في عمر الصورة" نشرت في مجلة "هاربرز" وفيها يرثي "فجاجة" الرواية الاجتماعية، وإن يكن تطوع صراحة لمعالجة هذا الواقع باقتراحه جمع العناصر الاجتماعية والشخصية في رواية من نوع جديد. ولا يخفى ان كثراً اعتبروه في حينه مدعياً ومحرضاً، لكن فرانزن تمكن أخيراً في الثانية والأربعين من تبوّؤ المعترك الأدبي بكتابه الضخم "تصحيح" 568 صفحة. تمكن فرانزن من الارتفاع بعمله الى مصاف الكتّاب الكبار، إذ ان روايته لا تقل في حبكتها عن روايات ما بعد الحداثة وان تكن أسهل منالاً. فعلى غرار جون دو ليلو ووليم غاديس، تبهر تعابيره اللاذعة والجريئة عن الحياة المعاصرة القارئ، وهي تغوص في أدق تفاصيل الحياة من الأدوية المهدئة والتي تلطف المزاج الى ازدواجية الجنس و"ثقافة" السفر. وسعى الكاتب ايضاً الى النأي بلغته عن الزخارف اللفظية والحبكات الملتبسة مستعيضاً عن ذلك ببعث الحياة في شخصيات مؤثرة. ومن الواضح ان فرانزن انطلق من اقتناع راسخ بأن الرواية الاجتماعية المعاصرة تفتقر الى الشخصيات معتبراً ان بردمه هذه الثغرة ينتشلها من النسيان. وإذا أمعنا النظر في روايات ما بعد الحداثة، نرى أن كتَّابها ركزوا على الشكل وحولوا رواياتهم الاجتماعية نوعاً من "الذكورية" الفكرية بإبعادهم الشخصيات من أعمالهم وخصوصاً الروائيين الذكور الذين راحوا يهملون شيئاً فشيئاً الروايات التحليلية لحساب البلاغات تاركين مهمة ايجاد الشخصيات البطولية للنسوة الروائيات. وعلى هذه الخلفية حاول فرانزن التوفيق بين التقليديين. وعلى رغم سعيه الى ان يُقرأ في العالم كله، لم يلجأ الى حشو روايته بالشخصيات بل اكتفى بنسجها حول عائلة واحدة مؤلفة من انيد لامبير وهي ربة منزل من ميدويست وزوجها العصبي الذي يعاني مرض الباركنسون ويقاوم الجنون وأولادها الثلاثة المشتتين على شواطئ است وهم غاري المصرفي البائس من الضواحي الغنية، وشيب كاتب سيناريوات ودنيز. ويعتبر المزاج العصبي العامل المشترك بين شخصيات الرواية التي تحاول كل منها معالجة قلقها الداخلي على طريقتها الخاصة. فالأم مثلاً تتهرب من عذاباتها بالاستسلام الى دواء مثير للنشوة بناء على وصفة من طبيبة التقتها خلال احدى رحلاتها. اما غاري فيؤثر الخروج وحيداً بعدما قرر الامتناع عن تناول المهدئات والتردد على الأطباء النفسيين. ومع ان رواية "التصحيحيات" تسبر أغوار مجتمع مهووس بالألم ومدمن على المنشطات، يحرص الكاتب على قول رأيه بصراحة، ويكتب: "تخفيف الألم أمر جيد جداً، ولكن على حساب ما أسميه الوعي السردي للحياة. لم تبق في حاجة الى بناء الحكاية. حياتك تختصر في مركبات كيميائية. يكفي أن تعيد التوازن الكيميائي الى دماغي مع منتجات اخرى. من وجهة انسانية، انه عمل عظيم، لكن النتيجة تسهم في جعل العالم أقل أهمية". وحتى عندما يتناول مواضيع عميقة لا يتردد في وصف عيد ميلاد عائلي مثلاً. ففي رأيه ان القارئ ينتظر رواية تمزج بين ذكاء دوليلو ومشاعر اليس مونرو. وبات هذا الشعور بوجوب انجاز مهمة ما وهذه الكبرياء اللامتناهية بمثابة الشغل الشاغل لفرانزن الذي يسعى على حد قوله الى أن يجعل "القارئ يعيش التجربة الأكثر سحراً على الاطلاق". ففي رأيه "عشرون سنة من الروايات المملة كفيلة بالقضاء على الأدب".