هناك مثل شعبي موجود في غير بلد عربي بلهجات مختلفة هو "عندما تقع البقرة تكثر السكاكين"، وأبو عمار وقع الآن، وقد كثر الجزارون، وطعنتهم المفضلة ان الرئيس الفلسطيني "ضيّع الفرصة"، بل انني سمعت هذه التهمة على هامش استقالة الحكومة الفلسطينية، مع ان بعض الأعضاء هو الذي فاوض ووقّع. هذه تهمة حقيرة اسرائيلية الأصل، ولا اساس لها من الصحة، وإذا كان من العرب من يريد ان يضيع القدس، لا ان يضيع الفرصة، فليتفضل ويوقّع، لأن هذا كان المعروض على ياسر عرفات، والمعروض اقل منه اليوم. عندي معلومات ثابتة لن أسجل منها سوى انه على رغم القتل اليومي والتدمير والتشريد، فإن حكومة السفاح آرييل شارون عرضت على الفلسطينيين عبر قناة اعرفها "مساحة" الأرض التي يطالبون بها، ولكن ليس الأراضي التي احتلت سنة 1967، وهذا يعني اجراء مقايضة على بعض الأراضي، والتخلي عن السيادة على القدسالشرقية، مع وجود في ضواحيها، والتخلي ايضاً عن حق العودة. هذا العرض قائم، إلا انني لست في حل من الدخول في تفاصيله، فأريد ان أنهي اليوم أسطورة الفرصة التي ضيعها أبو عمار، لأن الرجل لا يستحق هذه المعاملة، والغضب العربي يجب ان ينصبّ على المجرمين النازيين في اسرائيل الذين دمروا عملية السلام. في المقابلة السفيهة التي اجراها المؤرخ الإسرائيلي بني موريس مع رئيس الوزراء السابق ايهود باراك قرأنا انه خلال مؤتمر كامب ديفيد الذي استغرق اسبوعين في تموز يوليو السنة ألفين، وفي 18 من ذلك الشهر، أو حوالى منتصف المفاوضات، عرض الرئيس كلينتون على ياسر عرفات وثيقة وافق عليها باراك سلفاً تحدد النقاط الرئيسة في التسوية المقبلة وهي: - دولة فلسطينية مجردة من السلاح في 92 في المئة من الضفة الغربية ومئة في المئة من قطاع غزة. - تفكيك معظم المستوطنات وجمعها في ثمانية في المئة من الضفة، وضمها الى إسرائيل. - عاصمة فلسطينية في القدسالشرقية، مع ضواحٍ تحت السيادة الفلسطينية، وأخرى ذات استقلال ذاتي عملي أو إداري. - سيادة فلسطينية على نصف القدسالشرقية، اي على الحيين الإسلامي والمسيحي، و"وصاية" على الحرم الشريف، ولكن لا سيادة. - عودة اللاجئين الى الأراضي الفلسطينية، ولكن لا حق عودة الى إسرائيل. - تنظيم الأسرة الدولية برنامج مساعدات هائلاً لتسهيل اعادة تأهيل اللاجئين، أو توطينهم في غير اسرائيل. أتوقف هنا لأقول انني مدين بالرد على ما سبق لحسين آغا وروبرت مالي، فهما فنّدا زعم باراك ان الفلسطينيين يريدون كل فلسطين أو لا شيء، وقالا ان الفلسطينيين منذ 1988 وبعدها اعلنوا قبولهم دولة في حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 الى جانب إسرائيل. الفلسطينيون قبلوا ضم اسرائيل المستوطنات، وطالبوا بأرض في مقابل أرض هذه المستوطنات، فعرض كلينتون واحداً في المئة، في مقابل تسعة في المئة من الضفة تقوم عليها المستوطنات. وطلب الفلسطينيون ان تكون ارضهم متواصلة، فلا تقطعها المستوطنات، وقبلوا سيادة اسرائيل على حائط المبكى، بل قبلوا سيادة اسرائيل على احياء إسرائيلية مجاورة لم تكن تسيطر عليها قبل 1967. وفي حين ان الفلسطينيين لم يجزموا بموقف من حق العودة، فإنهم طالبوا باعتراف إسرائيل به من دون طلب تنفيذه، خشية ان تفشل المفاوضات، فيصبح التخلي عن حوق العودة مكسباً اسرائيلياً. اهم من كل ما سبق ان الفلسطينيين لم يرفضوا، وإنما طلبوا زيادة على المعروض، وثبت صواب موقفهم لأن الرئيس كلينتون عاد فعرض عليهم في 23 كانون الأول ديسمبر من تلك السنة صفقة افضل، وهو ما عرف بأطر السلام. وتفاوض الفلسطينيون والإسرائيليون في الشهر التالي في طابا، وأصدروا في النهاية بياناً قال: "ان الجانبين يعلنان انهما لم يكونا يوماً أقرب الى السلام مما هما الآن، ورأينا المشترك ان الفجوات المتبقية يمكن تجاوزها عندما تستأنف المفاوضات بعد الانتخابات الإسرائيلية". غير ان الإسرائيليين انتخبوا شارون ليدمر العملية السلمية بعد ان مهد له باراك طريق الوصول الى الحكم. باراك عارض اتفاقات اوسلو منذ البداية، وعارض سنة 1996 قبول حزب العمل في برنامجه السياسي قيام دولة فلسطينية. وهو اعاد التفاوض على اتفاقات وافق عليها سلفه بنيامين نتانياهو، ثم لم ينفذ المرحلة الثالثة من الانسحابات المنصوص عليها في الاتفاقات، كما رفض تسليم ثلاث قرى قرب القدس الى الفلسطينيين. في غضون ذلك زاد باراك كثيراً بناء المستوطنات، ثم اضاع الوقت بالتركيز على المسار السوري، وهو يقدم عرضاً يعرف ان الرئيس حافظ الأسد سيرفضه. ومع هذا وذاك، فقد امتنع عن اطلاق سجناء فلسطينيين في قضايا سبقت 1993. وربما زدت انه في كل ما سبق من مفاوضات لم يقدم الأميركيون او الإسرائيليون ورقة واحدة مكتوبة عن اي عرض للسلام يمكن الفلسطينيين الانطلاق منها في اي جلسة سلام تالية. ومرة اخرى، فإسرائيل لم تعرض ابداً سيادة فلسطينية على الحرم الشريف، وقبلت سيادة على أجزاء من القدسالشرقية، وتحدثت عن الحائط الغربي وطوله اكثر من 600 متر في مقابل حائط المبكى وطوله 58 متراً، ورفضت الاعتراف بحق العودة، ومع ذلك فالفلسطينيون لم يتوقفوا عن التفاوض وإنما توقف الإسرائيليون. وإذا كان بين العرب اليوم من يقبل العرض القديم، او العرض الجديد، فليتقدم ويوقع، أو يكف عن اتهام ابو عمار بتضييع فرصة لم تأت يوماً.