بدأ الأسبوع وأبو عمار يحزم حقائبه في كامب ديفيد ويستعد للعودة الى غزة، ولم يمض يوم آخر حتى كان رئيس الوزراء ايهود باراك يحزم حقائبه بدوره ليعود الى اسرائيل. وبعد يوم آخر حزم الرئيس كلينتون حقائبه ليذهب الى قمة الدول السبع وروسيا في طوكيو. الا ان الاسبوع انتهى، كما بات معروفاً، والفلسطينيون والاسرائيليون يتفاوضون بحضور وزيرة الخارجية الأميركية السيدة مادلين اولبرايت، وينتظرون عودة الرئيس الأميركي من طوكيو. بعد تسعة ايام من المفاوضات بحضور كلينتون، وبعد اكمال اربعة ايام مع السيدة أولبرايت، هل يمكن ان يكون بقي شيء لم يطرحه الجانبان للبحث مرة بعد مرة بعد مرة؟ سألت صديقاً من المفاوضين الفلسطينيين على الهاتف سؤالاً فلسطينياً تقليدياً: قمحة أو زوانة؟ ورد: "زمحة"، فقمة كامب ديفيد حتى كتابة هذه السطور يمكن ان تنتهي باتفاق، أو تفشل بالكامل، أو تنتهي باتفاق جزئي. هل الاتفاق قمحة، أي خير، أو شيء ايجابي، وهل الفشل زوانة، أي شر، أو شيء سلبي؟ الجواب ليس سهلاً، ومع ذلك احاول، فالاتفاق اذا حقق اماني الفلسطينيين ونصّ على سيادتهم على القدسالشرقية، أو أكثرها، فهو خير ينتفع به الفلسطينيون. والاتفاق اذا شمل تنازلاً، عن السيادة الفلسطينية على القدس، فهو شر أو كارثة حقيقية. من ناحية اخرى، فشل قمة كامب ديفيد يصب في مصلحة الفلسطينيين، فالجانب الاسرائيلي قبل حتى الآن ان يعيد اليهم 95 في المئة من أرضهم، وقبل عودة بعض اللاجئين تحت شعار لم شمل العائلات، وقبل حدود الدولة الفلسطينية في وادي الأردن. وأهم من هذا كله انه قبل التفاوض على القدس، بعد ان التزم منذ 1967 موقفاً واحداً وحيداً هو ان القدس الموحدة عاصمة اسرائيل الى الأبد وتحت السيادة الاسرائيلية الكاملة. هذا التطور في الموقف الاسرائيلي مهم للغاية سواء انتهت قمة كامب ديفيد باتفاق أو فشلت. وباراك عرض على الرئيس الفلسطيني سيطرة كاملة على منطقتين من أربع مناطق في القدس، وممراً آمناً خالياً من اي جندي اسرائيلي الى المقدسات الاسلامية والمسيحية، مع بقاء الحي اليهودي والحي الأرمني المعطل عليه تحت السيطرة الاسرائيلية. وشمل العرض الاسرائيلي سيادة فلسطينية كاملة، على قرى أبو ديس والرام والعيزرية وبيت حنانيا وشعفاط والسواحرة الشرقية. ابو عمار رفض العرض الاسرائيلي لأنه لا يزال يصر على استرداد مئة في المئة من الأرض المحتلة، وهو موقف لا بد من ان يكون قابلاً للتعديل، فالاسرائيليون لن يتنازلوا عن الحي اليهودي وحائط المبكى في القدس، ولا يوجد رئيس وزراء اسرائيلي يستطيع ان يجد غالبية اسرائيلية تؤيد ذلك في استفتاء، أو تؤيد ازالة جميع المستوطنات من الضفة الغربية هناك اتفاق على ازالتها كافة من قطاع غزة. والاسرائيليون عرضوا تبادل اراضٍ، فيعطى الفلسطينيون أرضاً في النقب في مقابل مساحة أراضي المستوطنات في الضفة. الرئيس كلينتون مارس السياسة بالطريقة الأميركية المعروفة، فهو حاول ان يرشو ابو عمار، وعرض 40 بليون دولار للسلطة الوطنية و40 بليون دولار لاسرائيل، وعشرة بلايين دولار لاعادة توطين اللاجئين، بعد عودة جزء بسيط منهم الى اسرائيل. ورفض ابو عمار العرض الاسرائيلي والاغراءات الأميركية، والأرجح ان يستمر في الرفض فهو لن يقبل ان يصبح في نظر الفلسطينيين والعرب والمسلمين الرجل الذي تنازل عن حقوقهم في القدس. وعلى رغم كل ايام المفاوضات في كامب ديفيد، وألوف ساعات المفاوضات السابقة لها، يبدو ان الاسرائيليين والاميركيين لم يفهموا بعد ان ابو عمار لن يسلمهم القدس، مهما أعطي في المقابل واذا كان لهم من عذر في عدم الفهم، فهو ان بعض العرب اعتقد ان ابو عمار سيتنازل عن القدس. والحقيقة الوحيدة في كامب ديفيد، هي ان ابو عمار لم يقدم شيئاً، وحصل حتى الآن على 95 في المئة من الأرض، وبعض السيادة أو نصفها على القدس... واذا حسّن الاسرائيليون عرضهم، كأن يقبلوا سيادة مشتركة على القدس، فالقمة ستنتهي باتفاق، واذا بقوا عند موقفهم فالقمة ستفشل. الا ان كل مفاوضات مقبلة ستبدأ من نقطة تسليم الفلسطينيين 95 في المئة من الأرض وبعض السيادة على القدس، وأي اتفاق مقبل سيكون متضمناً هذا العرض الاسرائيلي، مع اضافات يحصل عليها مفاوضو المستقبل. المستقبل لا يزال غامضاً، والمطروح قد ينتهي بقمحة أو زوانة، أو "زمحة" كما قال المفاوض الفلسطيني. وما ليس غامضاً هو ان كامب ديفيد ليست نهاية المطاف، فآخر يوم للاتفاق ليس الأسبوع المقبل. وانما 13 أيلول سبتمبر عندما يعلن ابو عمار دولته المستقلة، اذا لم يسبق ذلك اتفاق كامل، أو اتفاق جزئي يترك مستقبل القدس لمفاوضات لاحقة. اليوم يجب ان يؤيد العرب كلهم ابو عمار، كما تفعل مصر والمملكة العربية السعودية، وان كان لطرف عربي شكوى على الرئيس الفلسطيني، وما أكثر الشكاوى، فهي تستطيع ان تنتظر الى ما بعد انتهاء المفاوضات، فالمطروح ليس مستقبل ابو عمار، وانما مستقبل القدس، وهذه لا يختلف عليها عرب أو مسلمون.