الى مجلس الأمن، اذاً، ليتقرر مصير حرب يحتاج جورج بوش اليها بشدة. ومن شأن هذا المجلس وأعضائه الكبار أن يثبتوا ان مهمتهم ليست شكلية. فهم ليسوا غرباء على الملف العراقي، بل سبق أن استغرق منهم نقاشات طويلة، وسبق أن توصلوا فيه الى اقتناعات، وسبق أن عقدوا صفقات مجزية في كل مرحلة وأزمة مرّ بها. قال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان ان لا حرب من دون العودة الى مجلس الأمن، ورد عليه الرئيس جورج بوش بأن سلوك النظام العراقي يمثل تهديداً لسلطة الأممالمتحدة وللسلام. ولو كانت ثمة "ديموقراطية دولية" لأمكن لأي حوار فيها أن يستنتج بسهولة أن سياسات الولاياتالمتحدة لم تهدد سلطة الأممالمتحدة فحسب وانما أهلكتها ضعفاً وتفشيلاً وتهميشاً، لكن مثل هذا الحوار ممنوع دولياً حتى بين الكبار، وليس كوفي انان انتحارياً ليرد على رئيس الدولة العظمى. الصوت الوحيد الذي برز في هذا الفراغ الدولي كان لنيلسون مانديلا. ففي الوقت الذي وقف بوش على أعلى منبر دولي ليقول ان التهديد للسلام العالمي يأتي من العراق، كان عجوز افريقيا وحكيمها يقول رأيه الحرّ بلا أي عداء أو حقد أو غرض. قال ان السياسة الأميركية المتشددة هي ل"إسعاد شركات النفط والسلاح الأميركية"، مستخلصاً أن هذه السياسة تهدد السلام العالمي، وأن الحرب على العراق مخصصة لتحقيق مصالح الشركات. ليس مانديلا حليفاً لبغداد، ولم يسبق ان أعلن اعجابه بنظامها وبممارساته، كما انه لا يدافع عن امتلاكها أسلحة دمار شامل، لكنه لا يخشى التنبيه بأن "ما نعرفه ان اسرائيل تملك أسلحة دمار شامل، لكن أحداً لا يتكلم عن ذلك". هذه الالتفاتة من مانديلا لا تهجس بالأخلاقية السياسية فقط، وانما تدعو الى مقاربة حاولها كوفي انان في كلمته لكنه، مثل الأممالمتحدة، لا حول له ولا قوة، وليس في مستطاعه - مثل مانديلا - سوى القول لعل أحداً يسمع ويعمل. من هنا ان الاعتماد الآن هو على مجلس الأمن و"حكمته"، فهو ليس مسؤولاً أمام جورج بوش وحده، وانما تقع على عاتقه مسؤولية أعمّ وأشمل، ومن شأنه أن يكون على مستواها. لا يجهل اعضاء مجلس الأمن ما تحداه به الرئيس الأميركي، وهو أن ثمة قرارات لم ينجز العراق تنفيذها. لكنه لا يجهل خصوصاً أسباب اختلال التنفيذ، فبعضها عراقي من دون شك وبعضها الآخر أميركي من دون شك. لذلك فإن "التحدي" لا يعدو كونه لعبة ديبلوماسية مسلحة بأكثر من حجة، أبرزها أن مسرح الحرب يجهّز بسرعة، وأن الحرب حاجة اميركية. لقد خصص بوش تسعين في المئة من خطابه ليقول انه حسم موقفه بشأن الحرب على العراق، وبالتالي فإنه يعطي مجلس الأمن فرصة مجاراته لئلا يواجه إحراج تجاهله. ليس أمام مجلس الأمن، إذاً، سوى خيارات قليلة لايجاد "صياغات" لموافقته على الحرب. ولإرضاء أميركا، سيكون على المجلس ان يضع قوانينه خارج قاعة الاجتماعات، لأنها لن تفيده في مأزقه. فالمجلس لا يستطيع اعطاء "شرعية" لأي حرب ما لم تكن لديه أسباب أكثر إلحاحاً من مجرد "أدلة" على وجود أسلحة "جديدة". والمجلس لا يستطيع اعطاء "شرعية" لاطاحة نظام - حتى لو كان يستحق الاطاحة فعلاً كالنظام العراقي - إلا في ظروف بالغة الاستثنائية. لكن "المخارج" ليست معدومة، سواء بتوجيه انذار لبغداد، أو بتجاهل مسألة الاطاحة باعتبار انها تحصيل حاصل للحرب. كل ذلك يتعلق بمسألة وظيفية وتقنية يمكن مجلس الأمن ان يطبقها بشكل آلي، وهو ما سيفعله على الأرجح. ولكن، ماذا عن المسؤولية السياسية والاستراتيجية؟ وإذا كان مجلس الأمن محكوماً بأن يبارك الحرب المقبلة، أليس من شأنه أن يسأل عما وراء هذه الحرب، وفي أي منظور دولي ستخاض، وبأي ثمن، ولأي أهداف؟ لا شك بأن تنفيذ القرارات الدولية أمر لا بد منه لردع أي خطر عراقي محتمل، ولكن من يردع الخطر الأميركي المحقق ليس على العراق - البلد والشعب - والمنطقة فحسب، وانما على السلام العالمي؟ هذه مسؤولية مُنع مجلس الأمن دائماً من التصدي لها، واخفاقاته في القضية الفلسطينية مشهورة ومدوية.