ينبغي ان يسترق قارئ المقالات السورية الأربع عشرة جمعها، وسبعة رسوم بريشة يوسف عبدلكي، ملحق صحيفة "النهار" اللبنانية، الأحد في 25 آب/ اغسطس 2002، الى ثلاث مقالات لبنانية في ملحق الأحد التالي، في الأول من ايلول/ سبتمبر ينبغي ان يسترق السمع استراقاً، أو سرقة، ليحدس فيها صدى "حوادث" جرت بسورية قبيل وفاة حافظ الأسد في حزيران يونيو 2000، ثم طوال الأشهر المتبقية من العام ومطالع العام التالي. ف"الحوادث" التي تُسرد أو تروى تسطر تسطيراً في مدونة التاريخ، على صخرة صماء من صخور "نهر الكلب" العربي السوري. وبين صفحتي المدونة التاريخية هاتين يلاحظ عبدالله حنا، عابراً، ان حضور الندوات المدنية كانت كثرتهم "ممن اعمارهم تتجاوز الخمسين"، وافتقر الى "عنصر الشباب". وينقل موفق نيربيه عن أمه انها "لم تصدق اخبار الربيع، وكانت تحتاج الى براهين من نوع آخر على مجيئه". ويصف عمر اميرالاي الوقت الذي خلفه العامان المنصرمان ب"حالة هلامية غير مسبوقة" اجتمعت سماتها وقسماتها من "طواحين حكم لا يحركها ريح"، و"مسؤولين ... يبقون افتراضيين قبل ان تتكشف لهم فجأة اسماء ومناصب وارتكابات"، ومن نوائب "نابت" السوريين "تشبههم الى حد بعيد" و"لا يستحقونها"، ف"تبخر هكذا، وفي ومضة عين حراك مجتمع برمته، وتلاشى بهزة عصا وبعض الاعتقالات جمعيات ومنتديات، ولاذ بالصمت بعدها مفكرون وقادة سياسيون وكأن شيئاً لم يكن". ومادة "الحال الهلامية" "خوف وشك وحذر وضعف ... حتى العجز" اصلان عبدالكريم، وحقل مفتوح على "نقيض الأمل"، على "الإحباط واليأس والاستقالة السياسية"، على قول أصلان عبدالكريم نفسه. وناس الحال السورية، أو بعض ناسها، هم شبان من غير "أبطال وقدوات حسنة تحرك خيالهم وتساعدهم في بلورة شخصياتهم المستقلة"، تحالفت عليهم، وعلى وأد مخيلاتهم و"مسح ذاكرتهم"، المصلوبة على "قيء" سنة 1980 عبدالرزاق عيد والحرب الأهلية، "دولةُ المنظمات الشعبية، وطفرة التلفزيون، والأزمة الاقتصادية" ياسين الحاج صالح. و"في ظل ابوية سياسية جديدة" ارتد المجتمع السوري "الى عصبياته" القديمة. وانقطع "مسار تمدينه" وخفي عليه جواز "ممكن آخر" غير الممكن الذي يولد في "احلام الهجرة" ياسين الحاج صالح نفسه. فدخل المجتمع عالم "السلطة الزيزونية" نسبة الى سد زيزون الذي انهار في اوائل حزيران 2002 وأزهق انهياره 27 نفساً وشرد آلاف المزارعين السوريين حيث "لا قضاء ولا قانون ولا تعليم ولا جامعات ولا طبابة ولا مشافٍ ولا سدود ولا عمران إلا والفساد ملاطها، والإعلام الكاذب واجهتها، والقمع الشرس حارسها" عبدالرزاق عيد. ويسأل رجال يوسف عبدلكي، المكتهلون والرماديون والصلع والحفاة والمحتشدون والمائلون جهة واحدة والناظرون من غير اعين، يسأل واحدهم الاخر: "بتعرف شي واحد عم بيقول: لأ"، ويأتيه الجواب: "لأ". وكأن ذريعة اللا الوحيدة في الخضم الهلامي والسديمي هذا، هي نفي وقوع النفي. فإذا ترجم الكتّاب السوريون ما يتصور بهذه الصور القاطعة والسوداء والخشنة افكاراً سياسية، وجردوا صورهم الحسية موازين وخططاً وتوقعات، حالت الألوان والكلمات وبارت، وانقلبت اشياء باردة ومن غير قوة على الوصف والتشخيص. وفوق ذلك تبددت الصور نفسها، ولم تخلف في الأفكار، وفي تدبر الحوادث وتعقب سياقتها وثمراتها، أثراً. وتكرار تشخيص الحال السياسية السورية العامة ب"الأمني"، التقني إذا جازت الصفة او النسبة، قريب من العذر، عذر الحكم وأهله ونظامه، ومن الاعتذار له ولسياساته وما يترتب عليها من قحط وانكماش وجمود. فالأعوام الأربعة، 1979 الى 1982، ومشاهد الحرب الأهلية "الإسلامية" "البعثية"، المتنقلة التي تخللتها وبلغت ذروتها في حماه، ويدعو عبدالرزاق عيد الى نصبها "سنة حداد وطني، لكي تتقيأها الذاكرة الوطنية"، وتحسم "تكرارها"، هذه الأعوام تلقي بثقلها الساحق على الأعوام العشرين الماضية. ومن رحمها، على الأرجح، خرجت تقنيات "السلاطة" ابن الأخوة، أو شراسة التسلط والتعسف على انواعها. فتوجت تدمير الأبنية الحقوقية والاجتماعية والسياسية والثقافية الذي ابتدأته الناصرية المصرية والسورية قبل نيف وأربعة عقود. وقد تكون استعادة انطون مقدسي صرخة الشيخ خالد محمد خالد "مواطنون لا رعايا" اليوم بسورية، في اعقاب نصف قرن على إطلاقها بمصر، قرينة على انهيار الأبنية التي يقتضي ان تتوسط العلاقة بين السلطان وبين المحكومين لتخرج من البربرية الى المدنية. ومن رحم هذه السنوات "الجزائرية"، وهي سبقت الجزائر بعشر سنين تامة، تخرج اليوم "ذهنية اخرى ]غير الذهنية الأمنية السائدة[ تقول بأولوية المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... الخ" ميشال كيلو، على "المشكلة الأمنية". وتزعم "ذهنية الديموقراطيين" لنفسها إجماعاً "يضم من هم خارج السلطة والنظام"، وتدعو الى "مصالحة وطنية عامة"، وإلى "اعتراف الجميع بالجميع"، على قول رياض الترك الذي يهيمن ظله على مقالات الكتّاب السوريين في "ملحقهم". وفي هذا القول، ونازعه الى الكلية والجمع والعموم، ما فيه من تجاوز حد الوصف والتقرير الى حد التأويل من طرف خفي وغير معلن. فالذهنية لا تتحصل من مرة او اثنتين او ثلاث. فلا يجوز الكلام عليها، وتقريرها واقعاً فاعلاً إلا بعد اختبار طويل وحقيقي. وهذا، اي مدة الاختبار وحقيقته لم يتح لأصحاب الذهنية المفترضين. وزعم توحيد "كل من هم خارج السلطة والنظام" في باب سياسي واجتماعي واحد، ثم في باب رأي مشترك، يفتئت على امور كثيرة. وليس اقل هذه الأمور تعريف "خارج" السلطة والنظام، وإحصاء اجزائه، ورسم حدوده، وتقدير قوة "خارجيته" واستقلاله بأركان ومبان تختلف عن اركان اهل السلطة ومبانيهم. ولا يفي بيان "الإخوان المسلمين" السوريين، او "ميثاق الشرف الوطني" الذي أذاعوه في شتاء 2001، بجزء يسير من التعريف والإحصاء والتقدير المفترضة. ف"السلطة"، اجتماعياً، سلسلة من المراتب المتصلة وهرم من الامتيازات والمنافع التي تضيق اكثر فأكثر ما بين قمة الهرم حيث تصادر 54 سيارة "وظيفية" على سبيل المثال وبين قاعدته، من غير ان تنقطع، ولو اقتصرت على الارتزاق من نصب "كشة" على باب مدرسة في قرية نائية. وهي، اي السلطة، سياسياً، قوة على الأمر تستظهر بالتمثيل على ما يدين له "المجتمع" أو الجماعة، او القوم بدَيْن عظيم هو وجوده على النحو الذي يوجد عليه، هوية وترتيباً وأمناً ورخاءً. ويسدد المجتمع دَيْنه هذا طاعة وانقياداً وعملاً وتوزيعاً. ويقسم الأمر والطاعة المجتمع قسمين عريضين، وجماعتين او أهلين: أهل الأمر، أو "أهل القوة" على قول بعض الإخباريين والكتّاب، وأهل الطاعة أو "أهل الضعف"، على قولهم كذلك. ولكن هذه القسمة تتخلل طبقات المجتمع وجماعاته وهيئاته كلها، من اعلاها الى أدناها. فيتصل، من طريق الأمر والطاعة، اصحاب المرتبة الأدنى بأصحاب المرتبة الأعلى، ويتواطأون على دوام القسمة هذه، وعلى تثبيت رسمها او تجديدها. وعلى المثال المتعرج هذا نفسه تنتشر في ثنايا المجتمع الكثيرة والمتفرقة منازعات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، بعضها صريح، وبعضها الآخر مقنع، يتصل بعضها ببعضها الآخر أو ينقطع بعضها من بعض. وفي مقالات الكتّاب السوريين اشارات الى بعض هذه المنازعات، وكنايات عنها قلما تبلغ مبلغ التصريح. ومن هذا القبيل إلماح حسان عباس الى بيان العاملين في السينما، وبيان التضامن معهم من غير ان يدري القارئ علامَ دار البيان الأول وعلام تضامن المتضامنون، وإلى "الموقف الذي اتخذه طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية" وهو كذلك يبقى سراً مطوياً. ويميز عبدالله حنا في طاقم السلطة "جناحاً" نافذاً حاز "المصالح والامتيازات والنفوذ"، وتلقى "الرشاوى والعمولات والأموال" بمنأى من "نقد" يتطاول الى "كشف الأخطاء"، يميز هذا الجناح جناح ثان لم يحز إلا "امتيازات محدودة أو ... اي امتياز". فمال بعض الميل الى "حركة ربيع دمشق"، وتوجه إليها ب"كثير من الأسئلة والاستفسارات التي لم ترق للفريق الأول"، على ما يجزم حنا. ولعل موفق نيربيه يشير الى خلاف يشبه الفرق الذي يتناوله عبدالله حنا تناولاً رفيقاً حين يفصل "جناحاً محافظاً، خائفاً في الأصل"، من الإصلاح، من "جناح آخر يقبل بالإصلاح الاقتصادي من دون المخاطرة بالسياسي إلا أقله". وقد يكون ميشال كيلو اراد بعبارة كتبها، وينوه هو نفسه بها، وذهب فيها الى ان ما شهدته سورية في العامين المنصرمين قبل العام 2000 هو "حل صيني لأزمة سوفياتية"، قد يكون أراد بها ما يقوله اليوم زميلاه. ولكن هذا، وغيره مثله، يقال تورية، ويبقى أقرب الى الإضمار منه الى البيان والعلانية. فالكتّاب السوريون لا يؤرخون للحوادث الكبيرة التي ولدت المجتمع السوري المعاصر على الهيئة والسمت اللذين ولدته عليهما. فيقتصرون على الغمز من "الحرب الأهلية" برهان غليون او من "اللحظة التي كفّر بها الإخوان المسلمون السلطة فردت السلطة على الإخوان بتكفير المجتمع" عبدالرزاق عيد. ويترحمون على يوم كانت فيه سورية "الدولة العربية الأولى التي يقتحم اليسار الشيوعي برلمانها اقتحاماً" عيد، ترحمهم على "بورجوازية" منتجة ذات نزعات نهضوية حنا. فتكاد مقالاتهم تخلو خلواً مخيفاً من أعيان الوقائع التي تقود النظر والفهم الى بلورة الصور الجامعة وحفظها واستنطاق معانيها. وعلى خلاف غشاوة الوصف والتأريخ، وعلى الضد من اضطراب البناء على أعيان الوقائع، يتمتع الاستنتاج المرحلي والبانورامي العريض، على مثال لينيني عريق، بثقة وجزم قويين وقاطعين. فليس بين كتاب الملحق الموقوف على دبيب المعارضة في الجسم السوري النائم والراكد من لا يمدح "حكمة" الدبيب الخجول هذا، وانحيازه الى المسالمة والمحاورة. وليس بين المقالات مقالة لا تهوّن من قوة التململ أو من خطره على "خدش" السلطة حسان عباس، على رغم بعض الأصوات المنتصرة، والمرجئة انتصارها الى آن ومستقبل مرسلين أصبح "التحول حركة حتمية... مستمرة، ولو تحت الأرض"، بحسب برهان غليون. فيتنازع رأي الكتّاب في نظامهم الحاكم نازعان: نازع اول الى إثبات منعته وقوته وتعظيمهما - ولو من طريق عزوهما ونسبتهما الى "الأمن"، أو الى "التسلطة واحتكار النشاط السياسي" أكرم البني، وإلى "الإبستيم الانقلابي العنفي" و"زمن 1980 الأسطوري" عبدالرزاق عيد راطناً بفوكوية إليادية هجينة-، ونازع آخر الى إثبات حاجته الى غيره وخلافه و"آخره" "الرأي الآخر". والآخر هذا هو "نواب" "المجتمع" أي هم، في خضم ظروف داهمة يجمع الكتّاب السوريون، وكأنهم يكتبون بقلم واحد، على تصويرها بألوان اميركية وإسرائيلية، امبريالية قاتمة ومظلمة. والنازعان لا يدفع واحدهما الآخر. فالنظام المنيع والقوي لا يُدعى إلا الى زيادة المنعة والقوة. وسبيل ذلك هو "إصلاح" نفسه طوعاً، وتركه إجراءات عرفية واستثنائية تحول بينه وبين توسيع شرعيته، وضمه الى قاعدته قوى تشترك معه في مناهضة العولمة الأميركية "وشارونيتها المنفلتة من كل عقال" محمد نجاتي طيارة، شريطة صدقه فيها، ومقاومة "شارون وبوش على الأبواب" عبدالرزاق عيد، وشريطة حمل هذه المقاومة على محمل الاستراتيجية على خلاف "الالتصاق المتزايد بالاستراتيجيا الأميركية" وإلغائه "التميز الوطني"، على ما يكتب برهان غليون متماسكاً. وعلى مثال شيوعي وسوفياتي سابق، لا يأنس الكتّاب السوريون "التقدميون" و"المدنيون" الى غيره على ما يبدو، ينيط اصحاب المقالات اصلاح السلطة الحزبية الحاكمة نفسها بنفسها، ومن تلقائها، بغلبة جناحها "الإصلاحي" و"الشاب" على جناح محافظ وهرم مفترض. وهم يقترحون على الجناح الأول "تفاعلاً - تكاملاً" أو "عقداً وطنياً - اجتماعياً شديداً" ميشال كيلو يلغى بموجبه "نفي... قوى السياسة والمجتمع" بعضها بعضاً و"استنزافها" بعضها بعضها الآخر. وجل ما يرجوه اصحاب المقالات "التقدميون" هو ان يخرج على رأس حركة الإصلاح "أمين عام"، أو سيد "لجنة مركزية"، أو قائد قادة الأجهزة، ويرفع لواء "مصالح الدولة العليا" كيلو نفسه، أو لواء "خير الجميع وقبل كل شيء خير الوطن" حسان عباس، فيمشون، هم و"المجتمع"، في ركابه وبين يديه. ويتعهدون، منذ اليوم وإلى أبعد الأجلين، التخلي من غير رجعة عن "دافع السلطة" عباس نفسه، اي اشتهائها وطلبها، وقصر شهواتهم على "دافع الوطن" وخيره. فيسقط من المثال الشيوعي السوفياتي انتهاءُ اختباراته المعروفة كلها، المجرية والبولندية والتشيكوسلوفاكية والصينية، الى قمع دموي، أو "تطبيع" بوليسي، او احتلال "أخوي"، أو نعرة قومية. ويُطرح من السابقة نفسها مباينتها الكبيرة والقوية المبنى السوري، ومباني "الدولة" العربية المتسلطة عموماً. فلا يصح وصف هذه بالدولة - الحزب، على المثال الشيوعي السوفياتي، إلا مجازاً وتشبيهاً. وهذا يقتضي إغفال تربع "العصبية المستولية" في رأس "مجتمع" عصبيات. ويقتضي كذلك مقارنة متعسفة بين جهاز حزبي ايديوقراطي ايديولوجي وبيروقراطي لابس معظم الطبقات الاجتماعية، وائتلف من استقطاب بعض نخبها ومن تدمير مقومات استقلالها واستقلال دولها - في إطار احتلال الجيش الأحمر شرق اوروبا وبعض وسطها وجنوبها -، وبين استيلاء عصبي وعسكري توج حرباً اهلية دابة قطعت اواصر الدولة والسياسة بالقوى الاجتماعية، وبمصالحها ومنازعاتها. والتشبيه المتعسف يهرب، أو يحاول الهرب من الانقسام والمنازعة السياسيين والاجتماعيين. فكارثة "1980"، أي سنوات الحرب الأهلية والعصبية الدامية وذيولها، لا تزال ماثلة في القوانين والهيئات والمؤسسات واللغة، الى اليوم. وترتب على مثولها هذا نازع الى محو فكرة الانقسام أو المنازعة من العلاقة السياسية، والعلاقة الاجتماعية عموماً. ولا يدعو احد، وينبغي ألا يدعو احد السوريين، ولا غيرهم، الى معالجة انقساماتهم الاجتماعية والسياسية بواسطة "الثورة" والوسائل "غير السلمية"، على ما كان يقال ويكتب الى وقت قريب. فاختبار الواسطة والوسائل هذه أدى، في سورية وغيرها، الى تحجر الحكم على سلطان ساحق. وهذا السلطان استمد بعض قوته وتماسكه من دوام تعبئته استعداداً لحرب "اهلية" عامة وكلية. وتخوض هذه الحرب، على زعم السلطان المستولي، قوى عصبية "طائفية" وقومية وسياسية الأحزاب والمنظمات واجتماعية "الإقطاع" والتجار و"الطبقات الوسطى" وإقليمية ودولية "الاستعمار" و"الاستعمار الجديد". وتخاض هذه الحرب، على الزعم نفسه، على الجبهات كلها، من غير استثناء، وفي وقت واحد. وليست "الدولة" إلا أركان هذه الحرب المستمرة والمقيمة، وليس "الشعب" إلا جيشها. وتناسل وجوه "العدو"، وتكاثرها تحت الأقنعة المزعومة، مسوغ لا غنى عنه لانتصاب "الدولة" قيادة حربية وعرفية حصينة. و"فبركة" الأعداء، وهم ينتظمهم في اول المطاف وفي نهايته، عدو واحد، صناعة ثورية وقومية لا تنفك مزدهرة في عهد انظمة الحروب الأهلية الاجتماعية او القومية. وعليه، نزل نفي الانقسام والمنازعة من كل وجوه العلاقات الاجتماعية ومسارحها منزلة القلب والمركز من إواليات الأنظمة وإيظافها اي عملها. وتمثل "الانتخابات" الرئاسية، وهي حقيقة شعيرةُ مبايعة وولاء غير مقيدة، على النفي هذا تمثيلاً قوياً وقاطعاً على خلاف توسل الأنظمة الشيوعية بالمؤتمرات الحزبية الدورية الى التمثيل. ويلفي الكتّاب السوريون انفسهم بإزاء مسألة الانقسام والمنازعة، اليوم، في حيرة حادة. فهم على بيّنة ويقين من ان إلقاء نظرة خجولة على "الدولة" من خارج، مهما اجتهدوا في تلطيف خارجية النظرة واحتجوا لانتسابهم هم الى الداخل "الوطني المتميز" وارتضوا منطقه، قمين بنفيهم من الوحدة الملساء التي لا تقبل "القيادة" موطناً غيره. ولم تعتد غيره، منذ ربع قرن على أقرب تقدير، رسماً للحكم والسلطة. فيترجح ألسنة الاعتراض بين إثبات الانقسام والمنازعة وجوازهما، ولولا هذا الإثبات لما كانوا هم ولا ساغ وجودهم، وبين الإسراع الى إعلان القبول بالمقدمات التي يرسي عليها النظام انفراده بالسلطان، ويترتب عليها تشخيص حال حرب اهلية عامة تتهدد سورية في "وجودها"، على ما يرى النظام. فهم يريدون امرين متدافعين ومتقابلين معاً: يريدون تطمين أهل السلطان الى مسالمتهم، ودخولهم في الإجماع على السياسة "القومية" على مبالغة يسارية في مناهضة "الامبريالية" الأميركية والعولمة، وفي التضامن مع منظمات الفلسطينيين" ويريدون، من وجه آخر، الفوز بتمثيل قوى ومصالح لا يستقيم تمثيلها عن جدارة إلا بالإقرار بجواز الانقسام والمنازعة، وإدخالهما في صلب مؤسسات الدولة وهيئاتها، وفي قلب العلاقات الاجتماعية وعملها. فتميل مقالات الكتاب السوريين، في انتظار ظهور القوى والمصالح المعارضة، وفي انتظار ظهور انشقاق الطبقة الحاكمة على نفسها جناحين أو أكثر، تميل الى مماشاة مذهب النظام ورأيه في نفسه وسياساته. فتدعو المقالات النظام الى تحصين نفسه من طريق القبول بها، وبأصحابها، والعمل بما تشير به عليه من إلغاء حال الطوارئ، وتشريع حرية الأحزاب السياسية وحرية الرأي واستقلال القضاء، وغيرها من الأركان الديموقراطية. ولقاء هذه "التفاصيل"، وهي تارة اخرى "إصلاح اكبر من ثورة" وهذا ضرب من الخطابة يقيم مراسم الحداد والعزاء على التخلي عن "الثورة" ويدغدغ المخيلات "الثورية" في طور شيخوختها، يعد الكتّاب السوريون النظام بالمحافظة على أسسه، وبتعاظم قوته على أداء دوره من غير وهن ولا اضطرار الى حلول وسط. فيكتب أكرم البني، غير مكذّب لا يكذبه احد من زملائه: "فالسلطة، ومن زاوية مصالحها الخاصة قبل مصلحة المجتمع، معنية اكثر من غيرها بإعادة تأهيل نفسها لعلاقة جديدة مع المجتمع تنسجم مع المتغيرات العالمية ومع الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية المستجدة...". ويكتب حسان عباس: "وتعطيل الحريات لا يبني دولة متماسكة منيعة في صمودها امام الأخطار الداهمة، ومؤثرة في مشاركتها في ما اختارته من استحقاقات وعلاقات دولية". وهذه اللازمة تكاد تكون الخيط الناظم آراء وحجج المقالات "التقدمية" على اختلاف مشاربها. وهي تنطوي على إقرار بركن السياسة السورية في العقود الأربعة الأخيرة ونصف العقد منذ الانقلاب الناصري في منتصف الخمسينات. ويقضي هذا الركن برص الوحدة الداخلية، واستنتاجها استنتاجاً منطقياً، على الضد من "عدو" خارجي يشتمل على وجوه العداوة كلها: السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والأمنية. فهو عدو وجودي، ويناصب "الوجود القومي" حرباً مطلقة ومدمرة. ولا يجوز ألا يرد عليه إلا بحرب من الطراز نفسه، وعلى الصفة الكلية نفسها. وعلى هذا ف"هل هناك بد من ان تكون سورية لكل ابنائها، تقوى بهم، على اختلافهم وتعددهم، ويقوون بها، بخاصة امام امركة العولمة، وشارونيتها المنفلتة من كل عقال؟"، على ما يسأل ويجيب محمد نجاتي طيارة. وهذا تناول "ديني" متشدد، على مثال الديانات السياسية الفاشية او الشيوعية التي شهدها القرن العشرين الأوروبي، من جهة بنيته ومنطقه. فهو ينيط العروة الاجتماعية، اي رابطة المجتمع الداخلية والجامعة، بخارج مفارق وسالب، شأن الشر الشيطاني والإبليسي اللاهوتي. ويخلص من هذا الى قصر الاختلاف والتباين، اي الانقسام والمنازعة ومصدرهما، على الفرق بين الداخل والخارج. فإذا لم تُحمل الانقسامات على جذور وأسباب داخلية، تترجح بين المراتب والعصبيات والثروة وبين السن والجنس والعادات والأذواق، حُملت على قسمة الداخل والخارج، وعلى تضادهما و"تناقضهما". ويقف التناولُ الديني "السياسةَ"، وهي غير السياسة التي يُزعم الكلام عليها ومباشرتها، على طرد الخارج، والحؤول بينه وبين ملابسة الداخل، من طريق التعاويذ والرقى. والاعتقال و"الاستئصال" والإسكات هي النظير السياسي و"الأمني" والحقوقي المؤسسي للتعاويذ والرقى وشعائر طرد الخارج المتلبس الداخل والحالّ فيه. ولعل "فلسطينية" الكتّاب السوريين، أي "الفلسطينية القومية الاجتماعية" على غرار بعض اللبنانيين "السوريين القوميين الاجتماعيين"، ومناهضتهم "الامبريالية" الأميركية، على زعمهم، هما باعثاهم القويان والمستمران على قبولهم المبنى الديني القومي، اي الأسطوري، للسياسات التي يعارضونها من وجه آخر، ويدعون الى تقييدها. فهم يرثون من غير مراجعة، إرث الحركات السياسية العربية، "التقدمية" والعروبية والإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين، واشتراكها في حمل الانقسام الاجتماعي على خارج مفارق وسالب. ويترتب على ارتضاء هذا الإرث السكوت المطبق والصارم عن السياسة السورية، وعن السياسة الفلسطينية، قبلها، في لبنان. فعلى حين يشهد اصحاب المقالات شأن عامة الناس، إعمال السياسة السورية آلاتها التي اختبرتها في سورية نفسها، في لبنان، يتمسكون علناً بسكوتهم عن الأمر وحيادهم بإزائه. وليس الحذر وحده هو السبب في التمسك بالصمت. فبعضهم لم يمسك عن كلام "ممنوع". وكان السجنَ جزاؤه. ولم يحجم. وعليه، فالإحجام، في ضوء العصبية الفلسطينية القومية الاجتماعية، وعلى رغم ارتكاب المنظمات الفلسطينية ما خلف الدوائر عليها وعلى الفلسطينيين، إنما هو إقرار موارب ب"استحقاق" الدولة والمجتمع اللبنانيين ما لحق فيهما عن يد السياستين الفلسطينية والسورية، وما يلحق. ويتفق هذا مع وقف الانقسام والمنازعة على الداخل والخارج. فلبنان، على هذا الوجه، متواطئ تواطؤاً "معيباً" مع الخارج، سياسة واقتصاداً واجتماعاً وثقافة و"أمناً". وانقساماته مغروسة في تربته. وهو، طوال تاريخه القريب، لم ينكر هذه الانقسامات، ولم يرَ جواز نفيها وإنكارها و"تخطيها" في "دولة" قومية فولاذية. وهو لم "يشيطن" الخارج، بل أقر بدَيْنه له. وهذا كله لا يتفق وركن التدين السياسي الذي يدين به اصحاب المقالات السوريون، ويتشاركون فيه مع اصحاب الأمر وساسته وعصبيته. فيبقى سراً مكنوناً ومصوناً، على قارئ العربية وعلى "الشعب" السوري ربما، من اين يحتسب الكتّاب السوريون التغيير "الربيعي"، ومصادره ودواعيه. فإذا كانت العولمة متأمركة وشارونية، والرأسمالية تبعية، والسلام العربي والإسرائيلي ظلماً وشراً، والشراكة الأوروبية والمتوسطية ما خلا حسان عباس لم تشر مقالة واحدة الى المسألة خديعة، والإرهاب دعوى تسلط، والانقسام الداخلي نذير عنف مستطير - فمن اين تهب الريح، نسيماً عليلاً أم سموماً؟ من "سنة الله في خلقه"، يجيب عبدالرزاق عيد: "... التحول الذي حدث في سورية لم يكن نتاج فعل داخلي ومجتمعي أو خارجي سياسي عالمي، بل هو فعل قدري يدخل في اطار سيرورة الطبيعة لا صيرورة التاريخ، حيث رحل السلف وحل الخلف ومن البيت الواحد...". فإلى الموعد القادم، بعد عمر طويل، وأنتم بألف خير. * كاتب لبناني.