يكاد يكون ثابتاً وأكيداً ان اللبنانيين يستقبلون وقتاً آتياً قد يمتد سنين، كثيرة أو قليلة، عليهم ألا يتوقعوا في أثنائه تغيراً حثيثاً أو ذا شأن في السياسات الإقليمية والدولية التي تعهدت، على هذا القدر أو ذاك، "استقرار" حالهم على النحو الذي استقرت عليه منذ نيف وعقد من الزمن. والحال "المستقرة" التي دخلها اللبنانيون، منذ ولادة اتفاق الطائف، رهن بالسياسة السورية، وبآلتها العسكرية والأمنية في المرتبة الأولى. وتصرف هذه الآلة أمور اللبنانيين التصريف الذي يخدم غاياتها في دور إقليمي وعربي يتوِّجه حق النقض الجزئي على بعض وجوه "قضية الشرق الأوسط" العربية والإسرائيلية، ويخدمها في استقرار داخلي تتهدده البطالة وضعف موارد النقد الأجنبي ويقظة الإسلام الاجتماعي وقوته. ويداوي لبنان من احتياط موارده الإنسانية والمادية، ومن تماسك هيئاته السياسية والاجتماعية والثقافية، الجروح والعاهات التي تنزلها في جسمه العليل الآلةُ التي أوكل إليها تصريف أموره على الطريقة التي يجري عليها هذا التصريف. وعلى رغم التعويل على الجلاء الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانيةالمحتلة في إضعاف الحجة الإقليمية العربية على "ضرورة" الموازنة العسكرية، لم يقنع الجلاءُ القوى الدولية والإقليمية بحمل السياسة الإقليمية الأخرى على تمهيد الطريق للجلاء عن لبنان ودولته ومجتمعه. واستبقت السياسة الأميركية الأمر بردها الفاتر، في 1996، على اقتراح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتانياهو "لبنان أولاً" أياً كان حظ الاقتراح من الجد. ودعا بعدها السفير الأميركي اللبنانيين الى الإجماع على مصيرهم شرطاً ممتنعاً لسياسة اميركية حازمة بإزاء السياسة العروبية. وأتم السيد ووكر، مساعد السيد باول، البنيان هذا بربطه جلاء القوات السورية بالسلام العربي الإسرائيلي. ونبه يفغيني بريماكوف، وزير الخارجية الروسية يومها، الى قدرة السياسة السورية على تجديد الاقتتال "الأهلي" بين الجماعات اللبنانية، إذا هي أرغمت على الجلاء قسراً. واضطلع وزير الخارجية الفرنسي، دوشاريت، بدور بارز في تقوية الرعاية الدولية والإقليمية "للحرب" الإسرائيلية والسورية، المتدنية العنف والقائمة مقام حرب مباشرة، على الأرض الاحتياطية اللبنانية، بذريعة حماية لبنان من الانحياز الأميركي. وتفتقت السياسة "اللبنانية" - السورية الرسمية - بعد التلويح بعواقب الانسحاب الإسرائيلي "الجزئي والمنفرد"، على ما سمي طوال سنة تامة، على لبنان أولاً وعلى الدولة العبرية ثانياً، وبعد الاحتفال بالانتصار "اللبناني - السوري" والإيراني منعطفاً في تاريخ العرب والمسلمين - تفتقت عن مزارع شبعا "السورية - اللبنانية" حقاً وقانوناً وسياسة، وعن الحق في "تحريرها بالقوة". وفهم أخيراً من عقلت الأعمال العسكرية الحزب اللهية، وعقل قبلها التورط المسيحي في السياسة الإسرائيلية الإقليمية عقولَهم وألسنتهم عن تسمية الاستتباع، وما يترتب عليه من طبع الدولة والمجتمع اللبنانيين بطبائع الاستبداد، استتباعاً صريحاً - هؤلاء فهموا أن لبننة النزاعات الداخلية الفعلية وتحويلها حروباً متداعية ومتناسلة كانا تمهيداً سائغاً للسيطرة الأمنية والعسكرية أولاً، ثم لوحدة المسار ثانياً، وفهموا أن وحدة المسار ليست إلا رحم وحدة المصير وبطنها المنجبة والمتمادية، ثالثاً. قناع "الدولة" فوسع بعض الزعامات السياسية الأهلية القول عالياً، في مناسبة انتخابات العام ألفين النيابية، ان الآلة الأمنية والعسكرية إنما تسعى في توكيل أتباعها وأنصارها وصنائعها النيابة عن الجماعات الأهلية والتاريخية اللبنانية. فهؤلاء، الأتباع والصنائع من حزبيين "أمنيين" و"مثقفين" استيقظوا على مصلحة المسيحيين "الحقيقية"، هؤلاء وحدهم تأمن الآلة الأمنية العسكرية جانبهم، ولا تخاف استقلالهم ولا نعرتهم المحلية والعصبية. وهذا على خلاف أهل العصبيات الأهلية والقديمة. ولبنان ائتلف، دولة ومجتمعاً، من جماعات أهلية. واشترطت هذه الجماعات بعضها على بعض، ضمناً أو علناً، حفظ اختلافها، ورعاية هذا الاختلاف أو بعض مقوماته القائمة منها مقام الأركان أحوالها الشخصية، اتصال بلادها، مرجع تمثيلها السياسي...، شرطاً لدخولها في دولة واحدة. ولم يكن هذا الشرط مفتعلاً ولا مختلقاً اختلاقاً، ولا كان نكوصاً عن متوسط حضاري ومدني قيمي أو معياري لازمٍ الى حال متأخرة وبدائية. فالجماعات الأهلية هذه، وهي أقليات دينية ومذهبية، أنزلتها حوادث التاريخ الديني والسياسي أطراف "دار" الممالك المتعاقبة أو أنزلتها ماكان الأطراف هذه الى حين الاستيلاء العثماني على عاصمة بيزنطية. وعصمت الصفةُ الأهلية، وأركانها المعتقد الديني وعلاقات القرابة والجوار المتصل ومراتب السلطة الداخلية، عصمت الجماعات من الاستيلاء والتصدع والدمار، ومنعتها منها. فكانت الصفة الأهلية والجماعة والجماعات واحداً. وخبرت هذه الجماعات، شأنها شأن مثيلاتها في "الديار" العربية والإسلامية، مراوغة أهل السلطان "المركزي"، ومطامع الجماعات - "الأمم" بعضها في بعض ولم يكن السلطان المركزي إلا سلطان واحدة من الجماعات هذه. فتمسكت الجماعات الأهلية بمقومات مُسكتها ولحمتها الداخليتين بإزاء السلطان الخاص هذا. وهو اختصر عمل الجمع والتوحيد، أو اختصر معظم العمل هذا في الضم والمجانسة أو التجنيس والإلحاق. فلا غرو إذا صدرت مقاومة "دولة" الجماعة المتسلطة عن الجماعات المغلوبة والمستتبعة أولاً، قلة أقلية كانت هذه الجماعات أو كثرة. ولا غرو كذلك اذا تقنّعت الجماعة، أو الجماعات المستولية على مقدرات السلطة ومواردها ومراتبها، والمستولية على قانونية الدولة، لا غرو إذا تقنّعت بقناع الدولة العامة والمتعالية عن العصبيات الأهلية و"طوائفها" ومذاهبها. وعلى هذا ينعت أهل الحكم اللبنانيون معارضيهم، والمشككين في شرعية حكمهم وتمثيلهم، ب"الطائفية" "البغيضة"، وينسبون أنفسهم الى "الدولة" الواحدة والجامعة. وهذا ما يصنعه نظراؤهم، وأولياء أمرهم الإقليميون حين يردون على بعض كتابهم وموظفيهم ومدرسيهم الذين رفعوا عقيرتهم باقتراح إجراءات ترخي قبضة "الحزب - الرهط" على الدولة والمجتمع، فيحملونهم على تغذية النزعات والنعرات التقسيمية، من صومالية ويوغوسلافية ولبنانية، ضمناً. ولا يشك الحكم العراقي، ويختصره رهط صدام حسين وعشيره، في أن المعارضة العراقية هي إما مذهبية جنوباً، أو قومية إثنية شمالاً. ووحده الرهط أو العشير يتربع في العمومية السياسية والاجتماعية العراقية، أي وحده يجسد الأمة أو جزءها العراقي. فالمعارضات "السياسية" المختلفة، شأن "أنظمة" الحكم المستولية والمتسلطة و"الطبقات الحاكمة"، معارضات أهلية في المرتبة الأولى. وهي لا تتخطى دائرتها الأهلية والعصبية إلا من طريق الحلف بين جماعات متباعدة ومتنافرة تؤجج منافستُها فيما بينها، إذا ارتفع سيف السلطة المسلط على رقابها جميعاً، خلافاتِها واقتتالَها. واحتمال تأجيج المنافسة، إذا أخلت الجماعة المستولية وحلفاؤها السلطة "الواحدة"، حجة ثابتة وقوية يحتج بها أهل السلطة والمتربعون في سدتها لسلطتهم ولقبضتهم على الدولة والإدارة والجيش والمعاش، وعلى الجماعات وعلاقاتها فيما بينها. فإذا هم أخلوا السلطة، أو ارتخت قبضتهم عليها، اندلعت الحروب الأهلية والعصبية. فإما هم، واستيلاؤهم و"أمنهم"، وإما الحروب الأهلية والداخلية. وليس التخيير والتخويف المضمران هذان، أو المعلنان في أحيان كثيرة، اختلاقاً محضاً. ف"الدولة" تساس، على اختلاف مرافقها، على المثال الأهلي والعصبي. وقطبا المثال الأهلي والعصبي هما قطبا حرب أهلية دابَّة، اندلعت على شاكلة حملات عسكرية او انتفاضات مدن، أو لم تندلع على شاكلة انكفاء جماعات على نفسها أو هجرات كبيرة ونزيف أهلي. ولعل "استقرار" الأنظمة العربية المشرقية، وهي سميت "تقدمية" أو "راديكالية" في يوم غفلة من الأيام، عقوداً من الزمن، على رغم التصفيات والحملات والإضرابات والعصيان المسلح والاغتيالات الجمعية، لعل هذا "الاستقرار" قرينة على نجاعة المثال العملية. فعلى نحو ما كانت العامة في المدن العربية والإسلامية والبيزنطية تدعو للسلطان، ولو كان "عبداً أجدع"، بدوام العمر والحكم اتقاءً لشر خلافة غير مقيدة، ترضى "عامة" الشعوب العربية المشرقية دوامَ الاستيلاء على الدولة خوفاً من تجدد اقتتال الجماعات، المستولية والمعارضة، على السلطة والغلبة. واستوردت المنظمات الفلسطينية المسلحة الى لبنان المثالَ الأهلي والعصبي، وأمكنته من السيادة عليه. وكان المجتمع اللبناني نجح، جراء بعض الموازنة بين جماعاته وتصدر المسيحيين وهم قلة قليلة قياساً على مسلمي "الداخلية" هذه الجماعات، وجراء مقايضة الصدارة هذه بعوائد اجتماعية واقتصادية مجزية - كان نجح في تهذيب المثال الأهلي والعصبي العربي، وقيده بقيود سياسية الحريات والحقوق الفردية والجماعية، تثنية "رأس" السلطة التنفيذية و إضعافها، دور الجيش الثانوي، "فيديرالية" التمثيل النيابي... واجتماعية المنافسة الاقتصادية، انتشار التعليم، المساواة في دخول الطبقات الوسطى... كثيرة وملزمة. فكان احتمال نسخ التفاوت الملابِس السياسة والاجتماع اللبنانيين من داخلهما، وعلى مقتضى تطورهما وتغيرهما، كان هذا الاحتمال راجحاً، على خلاف ما شُهد ويشاهد من "تطور" المثال الأهلي والعصبي العربي و"دوله" المشرقية. وخَلَفت السياسة السورية المنظمات الفلسطينية المسلحة على توطين مثال "الدولة" الأهلي والعصبي في لبنان. وتمتعت السياسة السورية في هذا المضمار بآلات الدولة وطاقاتها. وهي لم تبخل بها على بلد جار زعم ساستها، على اختلاف عهودهم، أنه مسلوخ منها ومضموم إلى غيرها. فساست المنازعات اللبنانية - وهي لازمت التاريخ اللبناني منذ ضوي السياسة الفرنسية جماعاته في دولة "كبيرة" واحدة، ودار عليها جزء من التاريخ اللبناني - ساستها على مثال حربي وقطبي. فاشترطت الولاء الشخصي والشكلي الكامل لسياستها وساستها، وملَّكت "الدولة" مواليها ونفت معارضيها وخصومها وأعداءها من "الدولة" ومن السياسة" وشقت الكتل والأحزاب والجمعيات التي تخاف استقلالها، ومنعت عليها كلها بما فيها كتل مواليها وأحزابهم مزاولة العمل السياسي والحزبي على المعايير السائرة والمعروفة. وسعت في اصطناع دولة ومجتمع "لبنانيين"، بهيئاتهما ومؤسساتهما، محل الدولة والمجتمع اللبنانيين التلقائيين والفعليين. فملأت الهيئات والمرافق والإدارات والمنظمات والمجالس بمن يقومون مقام أهلها، ويحلون محلهم. فأبقت على رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي، وعلى النظام النيابي البرلماني، وعلى قيادة الجيش، والنيابة العامة التمييزية، إلخ. ولم تلغِ التوزيع الطائفي للمناصب الأولى والنافذة، ولا ألغت التنظيم النقابي ولا المجلس الشرعي الإسلامي... ولكنها جعلت من هذا كله، من طريق الموالي ومعارضة المراتب بعضها ببعض، بنياناً صورياً لا حقيقة ولا قوام له. وأسبغت عليه صفات الكمال من وحدة ووطنية وأصالة. وأُرسي هذا الاصطناع، وأرسي إحلال دولة ومجتمع مختلقين ومنتحلين محل الدولة والمجتمع الحقيقيين والناقصين على مضمون سياسي جديد، وغاية سياسية جديدة هما "خوض المعركة القومية" صفاً واحداً مرصوصاً، قيادة أو "دولة" وشعباً، جبهة أمامية وخطوطاً خلفية، حزباً قائداً وأحزاباً متحالفة، إلى غيرها من الاستعارات والكنايات المناسبة حال الحرب ووظائف الحرب المفترضة. وتؤول هذه اللغة، والأفعال والهيئات التي تترجم عنها، إلى إلغاء المجتمع وعوامله وقواه من السياسة. وتُختصر هذه في السلطة والاستيلاء عليها وحمايتها من المجتمع المقيَّد هذا. وإلغاء المجتمع وإلغاء فعله في السياسة، انقلاب على التقاليد اللبنانية، وعلى نتاج التاريخ اللبناني المعاصر. ولا يقع هذا الإلغاء على الجماعات المسيحية وحدها بل يصيب الجماعات الأخرى، والأفراد من مختلف الجماعات، في صلبها وصلبهم. فتعتل إواليات إنشاء الهويات والعلاقات الجمعية والفردية على حد مشترك. طبقة الهذيان والموالي وإذا ألغي المجتمع، أو كُفَّ معظم فعله، جاز استنتاج السياسة، قوى وأفعالاً ومقالات، النتائجَ المرغوبة على مثال منطقي وذهني أو ذُهاني مجرد. وكان تعيين النواب وكبار الموظفين ورؤساء الهيئات الشرعية وقادة الأحزاب تعسفاً، وتحويل الإعلام إلى دعاوة، من نتائج المثال الذُهاني هذا. وكان "حزب الله" من هذه النتائج: العدوان يؤدي الى مقاومة، العدوان المطلق يؤدي الى مقاومة مطلقة، الرد على الحرب الشاملة إنما يكون بمجتمع حرب، مجتمع الحرب هو مجتمع الشهداء الأحياء وحملة الأكفان، حب الشهادة نظير التمسك الجبان بالحياة، إلخ. أما التشيع الإمامي، والمجتمع النقيض، وصناعة الهذيان، والطاعة، وغلبة الأمن وأجهزته، والإعالة، وازدواج السياسة والولاء - فأمور تُخرج من الوصف ومن الانتباه، ليقتصر الانتباه على إحصاء القتلى، وعدد الكاتيوشا، وعدد من يبيتون في الملاجئ، وما أشبه ذلك. وكسي المجتمع اللبناني بطبقة كثيفة من الموالي والهيئات والمقالات أوكل بها الإحاطةُ به، والحؤولُ دون تفاعل أجزائه وجماعاته بعضها مع بعض، وكلها مع الخارج، باسم الوحدة الوطنية والسلم الأهلي. واستكمل المثال العروبي للعلاقة السياسية بتولية "الدولة"، أي جهاز التوظيف وتوزيع الرواتب، إعالة أهل الضعف من "سواقط" الجماعات العصبية، على قول أبي جعفر الطبري، ومن ناخبي لوائح الحلفاء الاستراتيجيين. فصنعت، في الأثناء، قاعدة اجتماعية عريضة وثابتة لسياسة نفي المجتمع من السياسة، وإخراج المجتمع منها، وقصر السياسة على المستولين وعلى مواليهم وعمالهم. والهجرة الواسعة وجه من الوجوه المترتبة على هذه السياسة. وتكاد هجرة السوريين الدائمة الى المهاجر، وتبلغ ثلاثة ملايين ونصف المليون، تساوي الهجرة اللبنانية عدداً واحداً من أربعة وموارد يملك المهاجرون السوريون نحو 70 مليون دولار. ولكن توطين مثال "الدولة" العصبية والأهلية في لبنان، من طريق إلغاء المجتمع من السياسة واطراحه منها، يبدو عسيراً على رغم كل ما أتيح من فرص للسياسة المستولية في أثناء نيف وربع قرن. فلا اصطناع طاقم سياسي وإداري وعسكري وأمني وإعلامي على أنقاض النخب التي التهمتها الحروب الملبننة، قتلاً واغتيالاً أو إخراجاً، وأسكتتها وأحبطتها وصرفتها عن وطنها، ولا النجاح في حبس قوات الاحتلال الإسرائيلية في سياسة حائرة قبل إجلائها، ولا التواطؤ العربي والدولي الفاضح - حالت دون إخفاق التوطين هذا. ولعل البطريرك نصر الله صفير القرينة الأخيرة اليوم في سلسلة القرائن المتعاقبة على هذا الإخفاق. وليس معنى الإخفاق السوري نجاحَ اللبنانيين في استعادة مثالهم السياسي والاجتماعي المركب، ولا معناه انبعاث الحياة تلقائياً في تقاليدهم وفي ثقافتهم السياسية. فالمقالات السياسية الاستقلالية الجديدة، ومنها مقالات البطريرك الماروني في جولته الأميركية شباط/ فبراير - آذار/ مارس، تنأى بنفسها عن تناول التاريخ السياسي والاجتماعي اللبناني على وجهه المركب والمعقد، وتتعثر تعثراً واضحاً في تناوله على وجهه هذا. فهي تستظهر بحال لبنانية ثابتة، لا تتحول ولا تتغير، قوامها كثرة مصادر اللبنانيين الأهلية والقومية، وصدارة مصدر "لبناني" خالص، على ما ذهب إليه أسلاف الكاهن اليسوعي سليم عبو، ويذهب هو إليه. فتعرِّف الكثرةُ هذه الهويةَ اللبنانية تعريفاً تاماً وناجزاً، وتطَّرِح من التعريف الهيئة السياسية والاجتماعية التي انعقدت عليها هذه الكثرة، وتطّرح منه مراحلَ الانعقاد المختلفة والمتنازعة والمضطربة التي لابست انعقادها. فيُغفل هذا المذهب التاريخَ الفعلي للوطنية اللبنانية، ويهمل كثرة روافده وتفاوت هذه الروافد وعلاقاتها المتوترة بالهوية الوطنية. فكأن المذهب "القومي" هذا، وهو يكاد يكون نظير العروبة "القومية - الاجتماعية"، والشعبوية التي تتحكم في المقالات السياسية السورية السائدة، هو ندُّ المذهب الذي يتصدى له، غلواً قومياً وتحجراً على هوية أصلية، وإنكاراً للتاريخ. وينتهي المطاف بالقومية اللبنانية، أي بمقالاتها و"سياستها"، الى استمداد مادتها ومعانيها الجوهرية من عدوها ونقيضها. وهذا النحو من تعريف النفس الوطنية والاجتماعية تعريفاً سالباً وعدائياً هو ذروة التعريف "القومي - الاجتماعي" العروبي وهو بعض إرث الأمم المتأخرة التبلور شأن ألمانيا وإيطاليا وبعض الأمم السلافية. ولا عجب إذا استغرق المقالات القومية اللبنانية، شأن نظيرها العروبي، نازعٌُ بطولي متوهَّم. فهذه المقالات تستعجل على الدوام تجسيد الهوية اللبنانية في بطل واحد، تنفخ فيه روحَ شعب واحد أحد. فلا يُدرى كيف اجتُرح هذا القوم، وعلى هذه الصورة من أقوامٍ بعضها تركي، وبعضها تركماني، وبعضها الآخر مغربي، الى الفينيقيين والكنعانيين والرومان واليونان والعرب سليم عبو نفسه. ولا يدرى في عتمة أي ليل، وأي بطن، اشتُمل به وحبل. وأصحاب المقالات القومية اللبنانية الذين يقصرون الجماعات اللبنانية على الجماعات الطائفية يلحمون بينها، ويربطون بعضها ببعض بفيض من عبارات التآخي والتعايش والتفاهم والتآصر والمودة، على ما يذهب إليه البطريرك الماروني اليوم، وينسبون الحروب والمنازعات والخلافات الى "آخرين"، عندما لا ينسبونها الى "الآخرين". وقد يكون هذا، أي المقالات القومية ومقالات الهوية والبطولة والوحدة والعداوة، من عدة المقاومة الوطنية المشروعة، ومن لوازمها، حين تتهدد الوطن مخاطر الاستيلاء والتصديع المدمرة. ولا ريب في اننا، نحن اللبنانيين، في عين العاصفة. ومقامنا بهذا الموضع لا يؤذن بالانصرام في وقت قريب، على ما خلص إليه البطريرك صفير من رحلته الأميركية، وعلى ما كان جلياً منذ مؤتمر الطائف والاتفاق الذي خلص إليه المؤتمرون، وقبله ربما. ولعل طولَ اللَّبثِ والمقام المتوقع هو ما ينبغي ان يحمل اللبنانيين على صوغ ثقافتهم السياسية في ضوء تاريخهم السياسي والاجتماعي، وحوادثه الكثيرة والمتنازعة" وهو ما ينبغي ان يحملهم على الاعتصام بهذه الثقافة السياسية وبالتزامها الحقائق والوقائع رداً على بؤس المقالات "القومية - الاجتماعية" وصلفها وبوليسيتها واجترارها صوراً خرافية بائدة ومنقطعة من العصر وأحواله. فالشجاعة المعنوية والخلقية والسياسية، وهي شرط الإجماع المرجو على "الحقيقة اللبنانية" على قول عمر فاخوري وعلى ثقافتها، تدعو الى الإقرار إقراراً واضحاً وجهورياً بتبعات اللبنانيين، جماعات وأفراداً، عن حوادث تاريخهم القريب والبعيد. ولا تقتصر الحوادث التاريخية على مآسي الحروب الملبننة، وهي حروب قَبِل اللبنانيون، ولاسيما جماعاتهم، لبننتَها، وأقبلوا على لبننتها مضطرين أو فرحين على ما يُرى اليوم من أحزاب وحركات كثيرة. فهذه الحوادث تشمل وقائع العقود الستة التي سبقت انفجار هذه الحروب منذ الحرب العالمية الأولى. وتشمل وقائع أخرى لابست تبلور الجماعات هذه على صورة كيانات. فالعقدان والقرن هذه هي محور التاريخ اللبناني الحديث. وعلى هذا المحور مبنى الثقافة السياسية اللبنانية والوطنية الدستورية اللبنانية. وفي هذا الميزان لا صدارة معنوية مطلقة لجماعة من الجماعات، ولا قوّامية لها على الجماعات الأخرى، أو على الوطنية اللبنانية الجامعة" وإن كانت لا تُنكر أرجحية مسيحية تستمد حجتها الأقوى من إدخالها الجماعات الأخرى في معاييرِ سَبَقِها، وتستمدها من رعايتها عموم هذه المعايير الجماعات الأخرى كلها على بعض المضض. فعلى خلاف النازع العروبي، والسياسة العروبية في اقطارها المشرقية، لم تسع الأرجحية اللبنانية في تحجير "الدولة" على جماعة، أو على فئة من جماعة، ولم تفصل بين السيطرة السياسية وبين المقومات الاجتماعية المتغيرة. فأدخلت التفاوتَ ركناً من أركان الثقافة السياسية اللبنانية، ولم تُلغها في الهوية القومية الأبدية. وأدرجت المنازعة قانوناً، وأقرت بالانقسام على مختلف وجوهه. وعالجت بهما، أي بالمنازعة والانقسام، النازع القومي المستبد الى توحيد المجتمع قسراً بآلات المراقبة والكبت والإنكار والإخراج والإلغاء. وإذا لغت الثقافة السياسية اللبنانية لغو "القومية - الاجتماعية"، من غير ان يتملكها هذا اللغو أو يسكنها، فهي لم تفعل فعلها. والتزمت، من غير قناعة عميقة، معظمَ مترتبات الكثرة من تفاوت ومنازعة وانقسام الى ان غلبتها الثقافة "القومية - الاجتماعية" العروبية بواسطة المنظمات المسلحة، وأجهزتها الأمنية،وحروبها المنقلبة الجبهات. ولكن هذا لا يدعو الى وأد الوقائع والحقائق والحوادث، أليمها وفَرِحها، في خطابة "توينية" أو "فرنجية" على حساب مقالات مؤرخين من أمثال ايليا حريق وجان شرف فهذان، على اختلافهما، غريبان في الحومة اليسوعية التي "يناقش" خطباؤها بلغة وزارية متعارَفة وواحدة "المصائر" اللبنانية. ولا يدعو هذا البطريرك صفير، على ما يفترضه فيه بعض اللبنانيين من قوة معنوية وخلقية، إلى السكوت عن التبعة التي تتحملها جماعات مسيحية عن حوادث التاريخ اللبناني القريبة، على رغم تحمل جماعات إسلامية وعروبية أضعافاً مضاعفة من هذه التبعة، ولا إلى انتظار تصدي الجماعات الأخرى إلى الإقرار بحصتها من التبعة والمسؤولية عن هذه الحوادث. والأغلب على الظن ان الإقرار المعلل بالتبعة عما ينبغي تحمل تبعته، والدعوة الى مناقشته ومناقشة علله، قادران وحدهما على تحرير اللغة السياسية اللبنانية من رتابتها المعمِّية ومن كذبها المضلل، مهما كانت النيات صادقة والطويات طاهرة وهذا ما يفتقر إلى أوائل دليل. فإذا لم يبادر إلى مثل هذا الإقرار أكثرُ الجماعات اللبنانية تحرراً من قيود الهوية "القومية - الاجتماعية" العروبية وأهومتها وسراباتها، وأقواها مصلحة في جلاء هوية تاريخية فاعلة ومعاصرة، فالجماعات الأخرى لن تبادر الى هذا الفحص القاسي. وإذا أراد بعضها المبادرة إليه فهو قاصر، تجربة ولغة، عن تعبير إرادته وفحصه هذين. وتفترض المبادرة إلى الفحص عن حوادث التاريخ اللبناني، تمهيداً لصوغ ثقافة سياسية مشتركة، اطراح البدائه التي لا ينفك يلوح بها اللبنانيون الاستقلاليون الجدد ويعتصمون. فالعدوان الإقليمي السافر على لبنان، واختبار الاستتباع واللبننة خبرة أليمة وواسعة، وجهر الأوصياء بالوصاية الصلفة والمدمرة وبحقوقها المزعومة، كل هذا لا يرسي السيادة والاستقلال اللبنانيين على وقائع وحقائق سياسية إيجابية ومتماسكة. فالحروب وقعت حقاً، وهي لم تنته فصولاً بعد. وصناعتها الإقليمية لم تعدم لا ذرائع صناعتها، ولا التواطؤ على استمرارها. وفي أعقاب نيف وربع قرن على انفجار الحروب الملبننة رست هذه الحروب على قاعدة اجتماعية و نخب من ضرب خاص، وعلى مصالح تسوغها ثقافة سياسية "قومية" ومعايير عمل "سياسي" أولها الإذعان وثانيها المراوغة وثالثها الاختيال.... وهذه العوامل كلها إذا تبددت مسوغاتها جراء مصادفات مؤاتية فلن تلد، بين شهر وآخر أو بين سنة وأخرى، جماعات لبنانيين وأفراداً بددوا محنة تاريخ كان شديد القسوة عليهم، وأعدوا العدة ليكونوا هم ورشدهم على موعد. * كاتب لبناني.