عندما ظهرت نذر انقلاب الموقف الدولي، وخصوصاً الأوروبي، من "السياسات" الفلسطينية، وشطر منها هو أعمال القتل والاغتيال الملقبة تارة استشهادية وتارة ثانية انتحارية وثالثة فدائية، أسرعت المنظمات الأهلية المسلحة والأمنية التي تتولى الأعمال هذه، وإعداد أهلها وأصحابها لها، الى التلويح بالحرب الأهلية. فهذه، على زعمها، نتيجة حتمية لقبول السلطة الفلسطينية أخيراً تعطيل "البنيتين الارهابيتين" الفلسطينيتين، على ما وصف ميغيل أنخيل موراتينوس الموفد الأوروبي لعملية السلام والمقتصد في النعوت عادة، منظمتي "حماس" و"الجهاد". والتلويح بترتب الحرب الأهلية على ضبط المنظمات الأهلية المسلحة والأمنية هو لازمة يومية في القول السياسي العروبي والاسلامي، في كل مرة يدور كلام، محلي أو دولي ونادراً اقليمي، على نزع سلاح "حزب الله" اللبناني وقصر أعماله وأنشطته على الميدان السياسي والميدان الاجتماعي. ويتزيا التحذير من اندلاع الحرب الأهلية، والتخويف منها في بلدان مثل لبنانوفلسطين على وجه التخصيص وفي هذا من السخرية اللطيفة ما فيه، بالدعوة الملحة والمؤكدة الى حماية الوحدة الوطنية وتحصينها ورعايتها والتشديد عليها "خطاً أحمر" لا يجوز انتهاكه. وعلى هذا، على سبيل المثال، نيَّة مشروع بيان أوصى به الوفد السوري في الاجتماع غير العادي لمجلس الجامعة العربية في 20 كانون الأول/ ديسمبر من "الشرك الاسرائيلي الهادف الى ضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية". وليس "الشرك الاسرائيلي"، وهو اللائحة "الصادرة عن الولاياتالمتحدة في خصوص المقاومة الفلسطينية والمقاومة الوطنية أي الاسلامية اللبنانية"، إلا حمل المنظمات المسلحة والأمنية وأعمال القتل والاغتيال في غير ميدان الحرب المعلنة على الإرهاب. ف"الوحدة الوطنية" لا تقوم لها قائمة، في فلسطينولبنان خصوصاً، إلا بركوب منظمات عسكرية وأمنية و"إيديولوجية" غالية ومتطرفة، الأعمال التي ترتأيها. فتبعث العدوَّ من طريقها على رد مدمر وباهظ الثمن. ولما كان من المحال على الدولة، أو على السلطات الحاكمة التي تتولى أمور الدولة، كبح جماح الرد المدمر، وميزان القوى هو على ما هو عليه، حُمِّلت السلطات المسؤولية عن ضعف حيلتها بإزاء الرد العسكري. وعادت الأعمال "العسكرية"، أي الاغتيالات في المطاعم وحافلات النقل والمراقص وغيرها من ميادين الحرب "الجهادية" و"النوعية"، عادت على أصحابها بعلو الشأن والمبايعة الشعبية، وعلى السلطات المقيدة بالعلنية والمعرفة على نقيض النكرة بالوضاعة والخسارة والارفضاض عنها. وإناطة صون "الوحدة الوطنية" بالسلطات الحاكمة وحدها، من دون مشاطرة المنظمات والجماعات الأهلية المسؤولية عن الوحدة هذه، هي من بديع الصنع الدعاوي والسياسي الأمني العروبي والاسلامي. وتنقلب الآية انقلاباً تاماً في البلدان التي تتسلط عليها، بالقوة والاستيلاء، أنظمة حاكمة قومية أو اسلامية. فتتحمل الحركات السياسية والمنظمات الاجتماعية وتيارات الرأي وحدها التبعة عن "الوحدة الوطنية". ففي وسع الطبقة الحاكمة في ايران أو سورية أو ليبيا أو العراق أو... لبنان العبث بمصائر المجتمعات التي تتسلط عليها، وانتهاج السياسات المفضية الى إفقار معظم المجتمع وإضعاف الدولة وتمزيق الروابط الوطنية من غير جواز محاسبة الطبقة الحاكمة أو مراقبتها، لو اقتصرت هاتان، المحاسبة والمراقبة، على الموقف المعنوي. فالحاكم في "دول" الشرعية القومية أو الدينية لا يُسأل عن وحدة وطنية يزعم تجسيدها في نفسه، ووحده، من غير شراكة جهات وقوى سياسية واجتماعية وطنية أخرى، ولا مداولة. ويخوله هذا الموقع الذي يزعمه لنفسه عنوة، ويقوم من الهيئة السياسية للدولة مقام ركنها وحجر زاويتها، الفصلَ في ما يخدم الوحدة الوطنية وفي ما يخرج عنها ويضعفها ويخونها، من وجه، ويخوله، من وجه آخر، شق التماسك الوطني وتصديعه في البلدان الشقيقة، العربية أو المسلمة، باسم ولايته على وحدة وطنية، قومية أو اسلامية عليا، يتعهدها الحاكم وحده، ولا يشاطره أحد وضع معاييرها أو ايجاب هذه المعايير. في ضوء هذه السياسة تتجلى الوحدة الوطنية الفلسطينية، على مثال الوحدة الوطنية اللبنانية من قبل يوم تولتها المنظمات المسلحة الفلسطينية ومنذ انفراد السياسة السورية بأمرها، على أبهى صورها في الحرب الأهلية الفلسطينية، وفي لبننة الحياة السياسية الفلسطينية. ف"الاجماع" على قتال الدولة العبرية المحتلة "بكل الوسائل المتاحة"، ولا سيما تلك التي تجر على الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي غزة القتل الأعمى والعقوبة الجماعية، لا ينفي الشرذمة والاقتتال الفلسطينيين بل يبعثهما ويؤججهما وينفخ في نارهما. فهو، أي الإجماع هذا، يطلق يد الجماعات المختلفة في خوض المعارك التي تريدها، وترغب فيها، أو تقدر عليها، من غير احتساب النتائج التي تترتب على معاركها. والتسابق على القتل والاغتيال، ونصبهما نظيراً للفاعلية السياسية والانتصار السياسي بذريعة اصابة مقتل في الأمن الاسرائيلي على زعم بعض آيات الله" وبعض الدعاة من المعلقين والكتّاب الاسلاميين، يطلق العنان للنزعات الانتحارية الفردية والجماعية على حد سواء. فالتوسل بأعمال الحرب، من قتل وتدمير لا تخلو حرب منهما، تترتب عليه تبعة احتمال الرد على هذه الأعمال، وتوقع مستوى الرد والقدرة على لجمه بواسطة أعمال الحرب أو السياسة والديبلوماسية. واغتيال المدنيين في غير مسارح الحرب ولا ميادينها، على ما صنعت "حماس" و"الجهاد" و"الجبهة الشعبية"، يدعو الدولة العدوة الى كبح أعمال الاغتيال من غير قيد على ردها. وتسوغ مثل هذه الأعمال، في الأعراف والقوانين الدولية، استباق تجددها وإطفاء بؤرها من غير جدال تقريباً، على ما حصل ويحصل. فما هي ملامح أو قسمات السياسة التي تتوسل بحرب الاغتيالات الحماسية والجهادية و"التنظيمية" الى غاياتها؟ وما هي هذه السياسة التي تقوم بها حرب الاغتيالات من مقام استمرارها وتمامها "بوسائل أخرى" غير سياسية؟ لا ريب في أنها "سياسة" الحروب الأهلية. وهي نقيض السياسة وضدها وخلافها. فلا تنفجر الحروب الأهلية، ويغلب نازعها الى الإبادة والإجهاز على "العدو" الأهلي جملة، إلا عندما تنهار الدولة وهيئاتها، وتبطل الوساطة والتحكيم والتأليف والمساومة مع بطلان سلطة الدولة القوّامة على الوساطة والتحكيم. ولعل التلازم بين الدول أو السلطات الغالبة بالقهر على مجتمعات منقسمة ومتحاربة وبين انتهاج هذه الدول سياسة تؤجج الحروب الداخلية في جوارها القريب أو البعيد، لعله قرينة على استحالة الجمع بين التمزق الداخلي ولو مكبوتاً وأخرس والسياسة الخارجية أو الاقليمية المتحفظة عن التدخل في شؤون الدول الأخرى والممسكة عنه. وعلى مثال تعهد الحروب الملبننة بديلاً عن المنازعة الاقليمية العسكرية والسياسية، تصبو بعض القوى الاقليمية العربية والاسلامية الى تعهد الحروب الفلسطينية على اسرائيل، مهما غلا الثمن وغلت التكلفة. واستتباع الثمن تقويض نواة الدولة الفلسطينية، وقيام الجماعات الفلسطينية بعضها على بعض وتمزيقها بعضها بعضاً، ورزوح المجتمع الفلسطيني تحت ثقل لا طاقة له به، وارفضاض القوى الدولية الفاعلة من حول فلسطين، والانحطاط بالحركة الاستقلالية الى وضاعة القتل المجاني والثأر المرضي - لا يدعو ما يستتبعه تعهد الحروب هذه السياسات الاقليمية العربية الى الاحجام عن تعهدها. فعلى مثال السابقة اللبنانية كذلك تحسب بعض السياسات الاقليمية العربية أن الثمن الباهظ وحده يدعو القوى الدولية الى لجم الرد الاسرائيلي، ويدعو الدول العربية الى رص صفها تحت لواء الدولة النافخة في نفير الحرب الداخلية، ويقيم حاجزاً صفيقاً بين "الأمة" الواحدة، و"شارعها" و"حلمها" المحمومين، وبين "خارج" تستوي أطرافه في العداء والعدوان. وعلى مثال السابقة اللبنانية، أخيراً، يسع السياسات الاقليمية الداعية الى "حماية أبطال الانتفاضة" على زعم صحيفة السيد رفيق الحريري المراهنة على خلو مجتمع الحرب الفلسطيني، اذا استمرت هذه الحرب بعض الوقت، من قوى سياسية أهلية ووطنية قادرة على الاضطلاع بمهمات الدولة والتدبير والقيادة. فيصح القول آنذاك ان فلسطين ليست إلا جزءاً من "شعب واحد" في ثلاث دول. وينعم الفلسطينيون ب"قيادة" كتلك التي ينعم اللبنانيون بها. والحق ان السلطة الفلسطينية، وعلى رأسها السيد ياسر عرفات، لا تسوس الفلسطينيين وأحزابهم وجماعاتهم بسياسة مختلفة عن السياسات الاقليمية المنتصبة للقيادة والتصدر. فهي ماشت النزعات التدميرية التي تعتمل في صفوف الفلسطينيين، وأوهمت الجماعات التي تعمل على هدي أو ضلال هذه النزعات بعظمة إسهامها في إنشاء الدولة الفلسطينية والكيان السياسي الفلسطيني. فمزجت، على المثال الاقليمي العروبي والاسلامي، التنصل الظاهر بالتواطؤ المضمر. وعوَّلت على حصاد أعمال الاغتيال والتمثيل والانتحار، فاحتسبت منه إضعاف العدوين، الوطني اسرائيل والأهلي المنظمات الاسلامية. ففرطت عمداً بمئات الضحايا الذين فرطت بهم، وبالخسائر المعنوية والمادية الجسيمة التي أنزلتها القوات الاسرائيلية بالفلسطينيين ومجتمعهم. لم تتستر على ازدواج سياسي مريع. فرضيت الاضطلاع بدورين متناقضين ومتدافعين. وحين أدركت ان الازدواج لم يبق مجزياً ولغت في دم الفلسطينيين، ونددت بالسياستين الايرانية والسورية، وسجنت أعضاء في أجهزتها الأمنية. فحققت معظم المزاعم الاسرائيلية... وقد يكون هذا ثمرة سياسية اسرائيلية خيرت القيادة الفلسطينية بين الظهور بمظهر "المتعاون" وبين مساندة "حماس" و"الجهاد" في أعمال الاغتيال والانتحار. ولكن ما يغفل عنه أصحاب تعليل "الانتفاضة" الثانية بالسياسة والنهج الاسرائيليين، ونسبتها اليهما، هو ازدراء هذا التعليل الفلسطيني. فهم، في مرآته، لا يملكون من أمرهم شيئاً، وليسوا إلا رد فعل سالباً وأعمى. ويتعمد التعليل المتأخر هذا نسيان المدائح التي كالها أصحابه ل"الانتفاضة" في فصولها الأولى. فمنهم من رأى فيها تباشير الاستقلال الفلسطيني الناجز، ولم يرعه لا ارتكاسها الى صور "الفداء" ولا بعثها المعاني العصبية والعنصرية القديمة. فمدح هؤلاء "الثمن الباهظ" الذي تفرضه معركة الاستقلال الأخيرة فريضة على الشعب الفلسطيني وبعض هؤلاء، اليوم، ينفي نفسه من "القومية" وينسبها في مقالات "تاريخية" مدبلجة بالفرنسية الى الوطنية المعتدلة، وثمنوا عالياً مهارة القيادة الفلسطينية "التوحيدية"، وتوظيفها كل ألوان "الطيف" الشعبي. ومنهم من تذرع بالانتفاضة، وبقيادة السلطة لها، الى تسويغ المراحل السابقة من سياسة السيد عرفات، والمرحلة التي آلت الى اتفاق أوسلو في صدارتها. أما الحجة التي احتجوا بها فهي أن اتفاق أوسلو يتيح اليوم ملاذاً آمناً للمناضلين الفلسطينيين. فلما قوض تواتر أعمال الاغتيال أمن الملاذ المزعوم وأباحه لرد مدمِّر نسي المسوغون مديحهم القريب، وانصرفوا الى ملاحظة انقلاب الأدوار بين ياسر عرفات وآرييل شارون. وهي صنعة المعلق السياسي المجرب والخبير الاستراتيجي الحصيف. وأقام أهل "المقاومة المتميزة عن الارهاب" ومحترفوها على مديحهم أعمال القتل والاغتيال، وعلى تسويغها باشتراك كل الاسرائيليين، الرضع والأولاد والنساء والشيوخ، "في الجريمة" على قول الزعيم الحزب اللهي والشيخ العجمي أحد دعاة بن لادن التلفزيونيين، شأنهم شأن الذين قضوا والذين لم يولدوا بعد ولم يتصوروا نطفاً في أرحام أمهاتهم. وهؤلاء يشتركون حقيقة في "ثقافة" سياسية عربية شعبية، تزن الحوادث بميزان الالتحام الداخلي والعصبي وحده، وتحسب السياسة تَبَعاً لهذا الالتحام وتقصر عملها على نشدانه والسعي فيه. فتمضي هذه الثقافة على انقطاعها من مجتمع الأمم والدول، وتصور انقطاعها في صورة إحياء القيم الأصيلة و"عودة الروح" اليها. فتفوِّت على أهلها وأصحابها، أي على المجتمعات والشعوب العربية والاسلامية، ربح الكثرة والفردية اللتين لا تقوم للسياسة قيامة، في عالم اليوم، إلا بهما. فعوض التصفيق لحمى الانتفاضة، والارتماء في أحضان الكارثة وهاويتها، على ما دعا داعي العصبية واستجاب "نبض الشارع العربي" وساسته وكتّابه وشاشاته الدعوة، كان في وسع الكثرة والفردية تقييد الأهواء الانتحارية بالحساب السياسي الصارم، ومكاشفة الشقاء الفلسطيني المزمن بإكراه الممكنات و"ملتقطها" على حد قول ابن خلدون. فيقيد الرأيُ الرأيَ، والهوى الهوى، والمصلحةُ المصلحةَ. فلا يسوغ الإجماع الجموح الى أقاصي العنف والحمى، حيث دمار النفس الجائزة اللائقة الوحيدة. * كاتب لبناني.