احتج منسق الأممالمتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط السيد تيري رود لارسن لجدوى سياسة اسرائيلية قائمة على المرونة والليونة، عوض إغلاق أراضي السلطة الفلسطينية وحصارها والامتناع من تسديد عائدات الضرائب والرسوم للإدارة وموظفيها وعامليها، احتج لدعوته بالربط بين انهيار السلطة الفلسطينية، جراء حصار أراضي الحكم الذاتي وأزمة الموازنة الحادة، وبين "انتشار الفوضى... وتفشي أعمال العنف" في فلسطين وفي اسرائيل على حد سواء. وحذر المنسق من "زحف" العنف وعمومه ومن الميل المتنامي الى تأييد "المنظمات الفلسطينية المتطرفة التي تسعى في حل الأزمة القائمة من طريق العنف". ويتوجه الديبلوماسي النروجي بتحذيره هذا الى الدولة العبرية، والى الاسرائيليين، سياسيين ومجتمعاً. فهو يناشدهم ألا يرهنوا المعالجة الاقتصادية والاجتماعية بما يسميه "الأزمة الأمنية" وأعمال العنف، وألا يقدموا تالياً المعالجة الأمنية على المعالجة السياسية والمعالجة الاقتصادية جزء منها. ويذهب لارسن الى أن معالجة الأزمة الاقتصادية، الناجمة عن سياسة الحصار وعن تعليق نقل المستحقات الفلسطينية الى الادارة الذاتية، "يجب أن تكون جزءاً من الأزمة الأمنية، وألا تكون رهناً بانتهاء أعمال العنف". وهذا على خلاف ما كرر رئيس وزراء اسرائيل المنتخب، السيد آرييل شارون، منذ انتخابه وقبل انتخابه. ولم يذهب السيد خافيير سولانا، رأس السياسة الخارجية والأمن الأوروبيين الاتحاديين، مذهباً آخر. وكان نائب وزير الدفاع الاسرائيلي، السيد أفراييم سنيه، تخوف غداة قرار الطوق الأمني على الأراضي الفلسطينية، رداً على سقوط قتلى الحافلة بضاحية تل أبيب، من "إغراق الفلسطينيين في اليأس وتعزيز تصميمهم على ارتكاب أعمال العدوان والقتل". فهؤلاء كلهم وكثر غيرهم، على تباين مواقعهم واختلافها، يرون في تماسك سلطة فلسطينية، وفي قيام إدارة فلسطينية بأعبائها الاجتماعية والاقتصادية، عاملاً من عوامل لجم العنف، ومصلحة للدولة اليهودية تالياً. ولا يغفل هؤلاء، وخصوصاً نائب الوزير الاسرائيلي، عن أن السلطة الفلسطينية التي يدعون الى حمايتها من الانحلال والسقوط أسهمت بسهم غير ضئيل في الاعداد لأعمال الانتفاضة، وتشارك شرطتها ويشارك ناشطو "فتح" منظمة رئيس السلطة الفلسطينية في تغذيتها والنفخ فيها. وعلى هذا فدعوة بعض أقطاب الديبلوماسية الدولية الدولة، الاسرائيلية الى لجم قوتها العسكرية بإزاء عدوها، دولة وناساً، إنما هي دعوة الى الحؤول بين الرد على الأعمال الحربية الفلسطينية وبين التسبب في انهيار السلطة الفلسطينية وانفلات العنف الأهلي و"الشعبي" من عقاله. فبعض التبعة عن تماسك الجسم الأهلي والسياسي الفلسطيني، ولو كان جسم العدو على نحو ما اسرائيل هي عدو هذا العدو، يقع على اسرائيل وعلى جيشها وقوتها العسكرية. ولا مناص، والحال هذه، من حربه، طبعاً، ولكن على حربه أن تكون "معتدلة". وميزان اعتدالها هي دوام قيام سلطة، أي سلطة، بأعبائها اليومية والعادية مثل تسديد الرواتب وتيسير الانتقال الى سوق العمل، ومثل تمثيل إرادة مجتمعة. والأرجح أن تحميل العدو الاسرائيلي بعض التبعة الحاسم في هذا الوقت عن تماسك عدوه الفلسطيني لا يصح في هذه السلطة الفلسطينية وحدها. ولا يصدق في السيد ياسر عرفات دون غيره. فتصدع الأبنية السياسية والادارية والاقتصادية الفلسطينية ينقل العنف، والمبادرة اليه، الى المراتب الدنيا من هذه الأبنية، ويُعمِل دواعيَ مثل الثارات للأهل وأبناء العمومة والأصحاب، ويخلي بين الشلل الصغيرة والأفراد وبين التخطيط للأعمال العسكرية التي يرتأونها وتسنح لهم، من غير ضابط ولا معيار. ومثل هذا العنف المنفلت من عقال السياسة، ومقاصدها العامة وغاياتها المشتركة والمقدَّرة، يرتد على أصحابه، وعلى مجتمعهم، ويعمل فيه تمزيقاً. فتنفصل غزة من الضفة الغربية، وتقتصر السلطة على بعض غزة من دون الضفة، وعلى الذين تسدد رواتبهم ومخصصاتهم من دون غيرهم. وتستولي هذه المنظمة على هذه الحارة من طريق "حلف" بين عائلة الحارة وبين المنظمة التي يتمتع فيها ابن العائلة ببعض المكانة والنفوذ. فتنتسب العائلة أو العائلات الخصم الى منظمة أخرى بينها وبين الأولى خصومة أو خلاف. وتتوسل العائلات و"العشائر" بالمنظمات الى قضاء بعض احتياجاتها، والى تثبيت مكانتها. ويتولى المراتبَ الأعلى في الحارة أو في "العشيرة" من لا تؤهلهم لا سنهم، ولا خبرتهم، ولا إقرار أقاربهم بهم لتوليها. فتضعف ضوابط الخلاف وكوابح الجموح الى أقاصي العنف. ويقع للأبنية الأهلية ما يقع للعصابات حين يدب الوهن في قياداتها التقليدية، وتتصدى لخلافتها قيادات فنية، لا قيد عليها من تقاليد التحكم والاقتصاد في العنف، فتعصف فيها أعمال القتل من غير تمييز ولا تخصيص. ويؤدي انفراط عقد الأبنية الاجتماعية على هذا النحو الى حروب من غير جبهات، أو الى حروب "منقلبة الجبهات"، على ما قيل في الحروب الملبننة وفي ضوئها. وما يقال اليوم في الحرب الفلسطينية والاسرائيلية قيل مثله من قبل في الحرب الحزب اللهية والاسرائيلية. فالرادع عن رد اسرائيلي قاصم على الأعمال العسكرية "اللبنانية"، على ما أجمع الأوروبيون والأميركيون على القول وهم يخاطبون السياسة الاسرائيلية وأصحابها، هو إفضاء الرد القوي الى إضعاف الدولة اللبنانية، على هزالها وقلة تمكنها والتحاقها بسياسات لا حول لها عليها، والى ترجيح كفة الجماعات الأهلية ونزعاتها الفئوية على كفة الدولة المحتملة. فدولة على الحدود المتنازعة، ولو متخاذلة ومتواطئة مع المنظمات التي تشن الأعمال العسكرية وتجهر عداءها، خير من "لا دولة" متروكة نهباً للجماعات العصبية. وما صح في لبنان، ويصح فيه الى اليوم، يصح مثله في الدولة السورية. والخوف على الحكم السوري، القوي، غلب دوماً الخوف منه. فالمقارنة، في مثل هذه الأحوال فلسطين وسورية والعراقولبنان...، هي بين عائد العنف في كنف دولة، مهما كان هذا الكنف رقيق الحاشية، وبين عائده من غير دولة، ولو صورية وشكلية. والمسألة طرحت على القوى المتحالفة في حرب العراق، أو حرب الخليج الثانية. فإسقاط حكم السيد صدام حسين، قبل عقد من الزمن، كان يستتبع إما ترك العراق نهباً لفوضى أهلية عارمة، لا يؤمن ألا تنتشر عدواها في دول الجوار القريب فالأبعد، وإما دخول القوات المتحالفة، وعلى رأسها القوة الاميركية، بغداد، وتوليها إدارة البلاد العراقية، وهي على ما هي عليه من التصدع والانهيار والعداء والاقتتال، لسنوات طويلة. والأمران أو الحلاّن عبء سياسي وحقوقي، فوق ما هما عبء عسكري واقتصادي، لا طاقة معنوية لقوة معاصرة باحتماله والنهوض به. فإيديولوجية حق الشعوب في تقرير المصير ولو نصب التقرير هذا رجلاً أو رهطاً على شاكلة السيد صدام حسين وعشيرته حاكماً، وسياسة حقوق الانسان على رغم قيود حقوق الانسان على السياسة وعلى نازعها الى نفي السياسة، ونواتها السيطرة والسلطان ومقاومتهما، من نفسها - الايديولوجية والسياسة هاتان تحولان دون استرسال الدولة المعاصرة، أي "الغربية" مع منطق القوة ونازعها. ومثل هذا الاسترسال، إذا قُيِّض له أن يحصل، لم يؤلِّب رأياً عاماً عالمياً يتقدمه الرأي العام الأوروبي والأميركي، على ما كان اندريه غروميكو السوفياتي يعلم سريعاً الى الشجب والإنكار، وحسب، بل قسم الرأيَ العام الداخلي أولاً. وحمل انقسامه الدولة وقواتها المسلحة الشرعية على الإمساك والاعتدال. فلا يشك الجنرال موشي يعالون، نائب رئيس أركان الجيش الاسرائيلي "معاريف"، في 16 شباط/ فبراير، عن "النهار" اللبنانية في 17 منه، في أن القوة الاسرائيلية تفوق القوة الفلسطينية "عشرات الأضعاف". ولكن ميزان القوتين المحض، أي الحسابي المادي والمعنوي، لا يحسم المنازعة والخلاف. فثمة، من وجه أول، قوة الفلسطينيين "في مجال الشرعية الدولية". وهذه تقضي في القوة الاسرائيلية بالاحتلال، أي بمخالفة الحق في تقرير المصير. ومن وجه آخر ينبه العسكري والسياسي الاسرائيلي الى أن الاجماع الداخلي، في الدولة العبرية، على "عمليات قاسية لا خيار فيها"، مثل الفصل بالقوة بين الشعبين أو مثل دخول أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني، وعلى شرعية العمليات هذه، قد يكون الإجماع قيداً أثقل من القيد الأول. ف"القسوة" التي تصف حرباً تسبق احتلالاً تخالف تمسك جزء من الرأي العام الداخلي بسياسة حقوق الانسان، وتلقي على عاتق المحتل عبئاً معنوياً، سياسياً وحقوقياً، ثقيلاً جداً. ولعل حربي حزيران يونيو 1967 وحزيران 1982 الحملة على لبنان، وما خلفتاه من جروح وخلافات سياسية اسرائيلية عميقة، مثال على ما يعنيه يعالون. فخَلَف الانتصار في الحرب الأولى احتلال الضفة الغربيةوغزة. وبعث الاحتلال هذا النزعات المهدوية الدينية ونفخ فيها حياة جديدة. وغلَّب دعاةَ الضم، بذريعة الأرض التاريخية، على علمانيي الحركة الصهيونية العلمانية، وقسم الاسرائيليين قسمة أهلية حادة. ولاقت الحملة على لبنان، قبل تورط وزير الدفاع يومها الجنرال آرييل شارون في مقتلة صبرا وشاتيلا وبعد تورطه، معارضة شعبية عريضة. وخاف اسرائيليون كثر أن يؤدي الانقسام الأهلي الى منازعة أهلية معلنة. فالحروب "الكلية"، على ما سماها هندنبرغ، المارشال ثم الرئيس الألماني، غداة الحرب الأولى، أو الحروب التي تطلق العنان للقوة المحض وتكتل وراءها جماعة قومية متراصة وفاتحة ولا ترضى بغير استئصال العدو أو الموت، هذا الضرب من الحروب لا تشنه إلا أنظمة سياسية ساحقة القبضة الداخلية. ولم تقوَ على قيادة حروب كلية إلا أنظمة مثل النازية أو الشيوعية الستالينية أو البول بوتية الخمير الحمر. وعندما استرسلت قوات الحلفاء، في الحرب الثانية، مع نازع الحرب الكلية، ارتكبت القصف المدمر على ألمانيا درسدن في صيف 1942، وهو الأقرب الى جريمة الحرب. ونجمت المكارثية الأميركية، في النصف الأول من العقد السادس، ونجم قمع الثقافة اليسارية، عن تصوير العدو الخارجي في صورة شيطانية وأبلسته أبلسة ناجزة ومفرطة. فالأمران، الحرب الكلية خارجاً وداخلاً، مترابطان ومتصلان. والرابط بينهما هو "التعبئة العامة"، على قول ألماني آخر وكاتب مال الى النازية هو إرنست يونغير. وهذا، أي التعبئة العامة، هو ما تقصره المجتمعات الديموقراطية على وقت الحرب، ولا يعم الأوقات كلها ولا ينصب ميزاناً لمرافق الحياة. ولا تخرج التعبئة العامة، والحال هذه، عن المداولة السياسية، ولا عن احتمال المعارضة تالياً. أما التعبئة العامة، في حال السلم، فتنسب التشكك فيها وفي ضرورتها الى العدو ومماشاته وموالاته. ولعل سؤال السيد عبدالحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية السوري، في معرض نقضه على رأي أنصار المجتمع المدني، عن السبب في إهمالهم "عبء الصراع مع الصهيونية" و"الصراع العربي - الاسرائيلي والوضع العربي" - لعل السؤال هذا، وجوابه، قرينة على وظيفة التعبئة العامة في تعريف العدو وقتاله حتى "الموت أو النصر". * كاتب لبناني.