بداية، ينبغي التوضيح ان كاتب هذه السطور محب لجلال امين ومقدر لدوره التنويري المهم الذي يمتشق فيه اسلوبه الناقد والساخر ببلاغة. ومن هذا المنطلق سعدت بالعثور على مقال لجلال امين عن تقرير التنمية الإنسانية: "الاقتصاد العربي... ومجلة "الإيكونوميست" البريطانية"، "الحياة"، 25 تموز/ يوليو 2002 الذي أشرف بالانتماء الى الفريق الذي اعده. فجلال امين، في تقديري من النخبة القليلة التي يتصور ان تحتفي بمثل هذا التقرير الذي يجسد كثيراً مما يدعو إليه هو نفسه. ولكن "لكل جواد كبوة" و"غلطة الشاطر بمئة" كما يقول العامة. من حق جلال امين، ولا شك، ان يختصم مجلة "الإيكونوميست"، وللكاتب عليها مآخذ قد تفوق ما يأخذ عليها جلال، وصلت اخيراً حد الامتناع عن شرائها. ولكن ليس من حق اي احد، خصوصاً جلال امين، ان يساوي بين "تقرير التنمية الإنسانية في البلدان العربية" ومجلة "الإيكونوميست". كما ان القارئ الحصيف، وجلال امين ينبغي ان يصنّف في هذه الفئة، لا بد ينتظر ان موضوعاً عن المنطقة العربية في "الإيكونوميست" لا بد من ان يعكس موقف المجلة الإيديولوجي من ناحية، ومن المنطقة العربية من ناحية اخرى. هذا من حق المجلة، ومن حق اي قارئ لها ان يختلف معها في ما تورد عن التقرير. وكن ليس من حق اي من كان، ولا يليق بناقد كجلال امين، ان يساوي بين عمل عن المنطقة العربية وتغطية الإيكونوميست له. لكن جلال امين غالى في الربط بين التقرير والمجلة حتى ليخال القارئ ان التقرير صدر عن "الإيكونوميست". وليس ابعد من الحقيقة. إذ صدر التقرير تحت رعاية اهم منظمتين تعنيان بالتنمية في البلدان العربية على الصعيدين العربي والدولي، وهما الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والمكتب الإقليمي للدول العربية ببرنامج الأممالمتحدة الإنمائي. كما شارك في إعداد التقرير فريق من قرابة خمسين من الخبراء والمفكرين العرب، نساء ورجالاً، من جميع البلدان العربية تقريباً، ومن مختلف الفروع العلمية والأجيال والمشارب الفكرية، في وظائف متباينة بين كاتب، وعضو في هيئة استشارية، وقارئ ممحص. وإنه لمما يحز في النفس ان يكون مقال "الإيكونوميست" عن التقرير كان، بأخذ التحيزات المنتظرة في الاعتبار، من افضل وأعمق ما كتب عن التقرير، خصوصاً بالمقارنة مع الكتابات العربية. ويبدو ان جلال امين كان في "حالة مهاجمة". وفي حماسته لمهاجمة "الإيكونوميست" عنّ له ان يهاجم "التقرير"، بالمرة. وليس القصد هنا هو الرد على "جلال امين" في حد ذاته. ولكن اغتنام فرصة لإذكاء الحوار حول القضايا الأساسية التي يثيرها التقرير، والذي اصبح بصدوره ملكاً لعامة الشعب العربي، وهو المخاطب الرئيس للتقرير. ويمكن القول إن اهتمام "الإيكونوميست" بالتقرير، على اختلاف توجهاته عن تلك المعروفة عن المجلة، هو شهادة من طرف، غير متعاطف اصلاً، بقيمة التقرير. هل اغضب ذلك جلال امين؟ ربما! لكن الكتابة في "سورة الغضب" لا تستحب من مثله. وقد نجم عن خطأي مساواة التقرير بالمجلة و"القول في الغضب" خطأ منطقي جسيم يتخلل مقالته من العنوان حتى النهاية. إذ يتصور "جلال امين"، على ما يظهر من مقالته، ان موضوع "تقرير التنمية الإنسانية في البلدان العربية" هو "أداء الاقتصاد العربي". وليس ابعد من الحقيقة، بل هو يدل في الواقع الى انه لم يتمعن حتى في عنوان التقرير، ناهيك عن قراءة فاحصة لمحتواه. وهو امر لا نرتضيه للاقتصادي العربي الذي كرّس جل جهده لتوسعة مجال بحث الاقتصاد الى ما يتعدى الموضوعات الاقتصادية الضيقة. فالتقرير تبنى مفهوماً شاملاً ومتكاملاً للتنمية سمّاه "التنمية الإنسانية" نأياً به عن المفاهيم المعتادة للتنمية، حتى "التنمية البشرية" في مصطلح برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، ناهيك عن "التنمية الاقتصادية" أو "الأداء الاقتصادي". ويقتضي الأمر الإشارة، بإيجاز، الى ان مفهوم "التنمية الإنسانية" الذي يتبناه التقرير يقوم على ان للبشر، لمجرد كونهم بشراً، حق اصيل في العيش الكريم، جسداً ونفساً. من هذه النظرة المتكاملة للكائن البشري، ومن سمو الإنسانية، على المادة، وعلى الاقتصاد، انطلق التقرير. ويترتب على هذا المنطلق ان مفهوم الرفاه الإنساني في فلسفة التنمية الإنسانية يتعدى العيش المادي الكريم، ناهيك عن المقاييس الاقتصادية الضيقة، الى آفاق إنسانية أرحب مثل التمتع بالحرية واكتساب المعرفة والحكم الصالح والجمال والكرامة الإنسانية. وينسحب من هذا المنطلق ايضاً إقصاء جميع اشكال التمييز ضد البشر بحسب النوع أو الأصل أو المعتقد. اين هذا من الأداء الاقتصادي. لكن العارف بالأمور لا ينتظر من "الإيكونوميست" إلا ان تركز على البعد الاقتصادي للموضوع. ومن يعرف جلال امين ايضاً لا ينتظر منه ان يركز هو الآخر على ذلك الجانب. بل كان ينتظر منه ان يحتفي بمفهوم التنمية الإنسانية، لا ان يختزله، قسراً وخلطاً، في مجرد "الأداء الاقتصادي". ومع ذلك جاء مقال الإيكونوميست أوسع نطاقاً، وأقرب من مفهوم التنمية الإنسانية، من مقال جلال امين. وإذا كانت "الإيكونوميست" عكست، كما يتوقع، اهتماماتها وتحيزاتها في مقالها عن التقرير، فلتحل لعنات جلال امين على "الإيكونوميست" وعلى "تقرير الأداء الاقتصادي" الذي لا وجود له إلا في قراءة جلال امين المترعة، ولا أقول المتربصة، لمقال "الإيكونوميست" عن تقرير "التنمية الإنسانية العربية" الذي هو ملء الواقع العربي والدولي. جانب جلال امين الصواب عندما هاجم الإيكونوميست، والتقرير، لتبنيهما لقضية تمكين المرأة. ولا اتصور ان محاولة "جلال امين" المستميتة للدفاع عن تحسن اوضاع المرأة في البلدان العربية يقنع احداً بالاكتفاء بما تحقق. والواقع ان التقرير يوثق تحسن وضع المرأة في البلدان العربية، ولكن الشوط ما زال بعيداً. والقراءة المتأنية للتقرير، والواقع، تبين ان النساء في البلدان العربية ما زلن يعانين من حرمان اشد من الرجال في تكوين القدرات البشرية، خصوصاً التعليم والصحة لا شك، على خلاف ما يدعي جلال امين مثلاً، ان نسبة الأمية بين النساء اعلى من الرجال ويعانين حرماناً اشد من فرص توظيف القدرات البشرية في مجالات النشاط الإنساني كافة. بل ما زالت القوانين في بعض البلدان العربية تحرم النساء من حقوق انسانية اصيلة. كذلك لم يغب عن فريق التقرير كما يلاحظ جلال امين، بحق، أن الأداء الاقتصادي يمكن ان يكون حسناً تحت حكم قهري، ولكن تلك الحالة لا ترقى في مفهوم التقرير، وكنت اتصور في عرف "جلال امين" ايضاً، لأن تكون "تنمية انسانية" يتحقق فيها الرفاه الإنساني المبتغى. والرد المباشر على ذلك هو ان النمو الاقتصادي تحت القهر والحرمان من الحرية ليس امراً مرغوباً، ولكن بالتأكيد مكروهاً في مفهوم "التنمية الإنسانية". ونتصور ان ذلك كان موقف "جلال امين" على الأقل حتى كتابته تلك السطور. ولهذا فإن "الأداء الاقتصادي" في مفهوم التنمية الإنسانية ليس إلا أحد مجالات "توظيف القدرات البشرية" في النشاط الاقتصادي الذي يتكامل مع بقية مجالات النشاط الإنساني، الاجتماعية والسياسية، في تحديد مستوى الرفاه الإنساني في اي مجتمع. ولذلك لا يحظى الأداء الاقتصادي إلا بواحد من فصول التقرير الثمانية. وليس غريباً والأمر كذلك ان مسألة "الأداء الاقتصادي" لم تظهر جوهرياً في الاستخلاصات الرئيسية للتقرير التي تتلخص في انه على رغم الإنجازات التي حققتها البلدان العربية على اكثر من صعيد في مضمار التنمية الإنسانية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تبقى السمة الغالبة على مشهد الواقع العربي الراهن هي تغلغل نواقص محددة في البنية المجتمعية العربية تعوق بناء التنمية الإنسانية، اجملها التقرير في نواقص الحرية وتمكين المرأة والقدرات الإنسانية - المعرفة. حتى ان اخذ هذه النواقص في الاعتبار، كما في تركيب مؤشة التنمية الإنسانية المستحدث في التقرير، يقلل من مكانة البلدان العربية على مقياس التنمية البشرية التقليدي، ويؤكد ان تحدي بناء التنمية الإنسانية ما زال جد ضخم للغالبية الساحقة من العرب. وهكذا، في المنظور الإيجابي، يعني بناء التنمية الإنسانية في الوطن العربي ان تتوافر البلدان العربية على تجاوز النواقص الراهنة، بل تحويلها الى نقيضها، اي ميزات ينعم بها المواطنون العرب من دون تفرقة، وتزهو بها البلدان العربية على بقية العالم. على وجه التحديد يخلص التقرير الى ضرورة ان تتوافر البلدان العربية على إعادة تأسيس المجتمعات العربية على: 1- الاحترام القاطع للحقوق والحريات الإنسانية باعتباره حجر الزاوية في بناء الحكم الصالح المحقق للتنمية الإنسانية. 2- تمكين المرأة العربية، عبر إتاحة جميع الفرص، خصوصاً تلك الممكنة من بناء القدرات البشرية، للبنات والنساء على قدم المساواة مع "شقائقهن" من الذكور. 3- تكريس اكتساب المعرفة، وتوظيفها بفاعلية، في بناء القدرات البشرية، وتوظيفها بكفاية في جميع صنوف النشاط المجتمعي، وصولاً الى تعظيم الرفاه الإنساني في المنطقة. هذا هو صلب التجاوز اللازم لتخطي ازمة التنمية الإنسانية في المنطقة العربية، ولكنه ليس منتهى الأمل. فاستكمالاً لتجاوز نواقص الوضع العربي الراهن، تمكن الإشارة ايضاً الى ضرورة بناء القدرات الإنتاجية العربية في مواجهة الطبيعة الريعية للاقتصادات، والمجتمعات، العربية. واستكمالاً لإصلاح البناء المؤسسي العربي، خدمة لتنمية الإنسانية، يتعين، اضافة لإصلاح نسق الحكم على الصعيدين القطري والقومي، على اساس متين من الحريات، تمتين التعاون العربي، وتعظيم الإفادة من العولمة، وتوقي مخاطرها المحتملة". واستمراراً للنهج نفسه، يجرى الإعداد للعدد الثاني من تقرير التنمية الإنسانية في البلدان العربية بالتركيز على موضوع "الإبداع، تنمية رأس المال الفكري". وليس اختيار الإبداع، او بناء رأس المال الفكري، موضوعاً للعدد الثاني من التقرير في حاجة الى كثير تبرير في ضوء سمات الحقبة الراهنة من تطور البشرية التي تقوم على كثافة المعرفة والتسارع الانفجاري في إنتاجها في مجتمعات المعرفة من ناحية، والتخلف النسبي للمنطقة العربية في مضمار اكتساب المعرفة، ناهيك عن إنتاجها، من ناحية اخرى. ولا غرو ان يعرف التقرير الأول على "نقص اكتساب المعرفة" باعتباره احد "النواقص الثلاثة" الذي يعيد بناء التنمية الإنسانية في البلدان العربية النقصان الآخران، للتذكير، هما: نقص الحرية ونقص تمكين المرأة. لكن اختيار موضوع الإبداع يكتسب دعماً من ان "النواقص الثلاثة" تتضافر لخنق الإبداع في اي مجتمع. يمتنع الإبداع في غياب الحرية فهو في جوهره عملية تحرر تطمح الى مستقبل يناقض الراهن، ونقص تمكين المرأة يعطّل الإبداع لدى نصف الناس، لا بل في المجتمع بأسره، ونقص اكتساب المعرفة، خصوصاً في منظور قلة اكتساب القدرات النقدية والابتكارية ومن ثم ضعف ناتج البحث والتطوير، يعني وهن القدرة على الإبداع. نهاية، يزعم جلال أمين ان التقرير لم يأت بجديد إلا في ما يسميه، اتصور تأدباً: بلاغة العرض. مهدراً هكذا، مرة واحدة، رقي المفهوم وشمول المنظور ورصانة الإعداد وجدّة النتائج، ليس فقط عربياً ولكن منهجياً وعالمياً. ولا ريب ان اي جهد بشري هو في النهاية قاصر ويظل يطلب الكمال. ولكن يكفي التقرير ان اثار كل ذلك الاهتمام، عربياً ودولياً، اختلافاً قبل الاتفاق. غير ان إهدار جلال امين لفائدة التقرير جملة يضعنا في حيرة من امرنا لتفسير كل ذلك الاهتمام الكاسح بالتقرير، عربياً ودولياً. وليس ذلك على جلال بجديد. ولكن تلميح جلال امين بأن التقرير يرفد نقد الغرب للعرب والمسلمين فيحمل شبهة "مكارثية" عربية - اسلامية مقيتة. فهل مطلوب ان نمتنع عن نقاش امور نراها حيوية لتقدمنا إذا كان للغرب فيها رأي أياً كان؟ وهل نعتبر كل ما يقال في الغرب بشأننا كفر بواح فنغلق عقولنا وراءه وأمامه؟ ومع ذلك لم يتوان التقرير عن انتقاد الأثر المدمر للاحتلال الإسرائيلي وللممارسات العدائية الغربية على التنمية الإنسانية في المنطقة العربية. * مدير مركز "المشكاة" للبحث في مصر. المؤلف الرئيسي لتقرير التنمية الإنسانية العربية، 2002.