كانت ردود الفعل الأولى على تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002، الذي نشره أخيراً برنامج الأممالمتحدة الإنمائي بالاشتراك مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، مؤيدة في غالبيتها لنظرته المتشائمة للتنمية البشرية في العالم العربي. إلا أن هذه الأدبيات جاءت مؤيدة لاستنتاجات التقرير من دون التعمق في درس صحة البراهين والحجج التي أوصلت واضعيه إلى هذه الاستنتاجات. من داخل المنطقة العربية جاءت ردود الفعل لتعكس الإحباط العام الذي يشعر به المثقفون العرب، كما عامة الناس، تجاه الأوضاع السياسية المتردية التي وصل إليها العالم العربي، وتجاه تباطؤ النمو الاقتصادي في المنطقة مقارنة بما تمتلكه، بعض دولها على الأقل، من ثروات طبيعية هائلة، وتجاه تقييد لا مبرر له للحريات. أما الردود المؤيدة من خارج المنطقة فجاءت بغالبيتها من باب الشماتة، إذ اعتبرت أن التقرير بمثابة شهادة شاهد من أهله على تخلف العرب والمسلمين، وأن هذا التخلف هو السبب الرئيسي للتطرف وليس القهر الذي مارسه الغرب في الماضي على العالم الثالث عموماً، وعلى هذه الأمة خصوصاً، والذي لا تزال تمارسه الولاياتالمتحدة مباشرة أو من خلال دعمها المطلق لإسرائيل وممارساتها البشعة. إلا أن هذه النشوة بدأت تتلاشى لتحل مكانها الفكرة الناتجة من قراءة أعمق للتقرير وتحليل أكثر تروياً لمحتوياته. هذه القراءة المتأنية تظهر وجود شوائب وثغرات علمية جدية تجعل من الضروري التعامل بحذر كبير مع بعض استنتاجاته الرئيسية ومن ثم مع توصياته للنهوض بالتنمية العربية. يشير تقرير التنمية الإنسانية العربية، وهو الأول من نوعه مخصص لهذه المنطقة، أن "مؤشر التنمية البشرية" الذي اعتمده برنامج الأممالمتحدة الإنمائي أحد ناشري التقرير منذ عام 1991 عند إصداره أول تقرير دولي عن التنمية البشرية، كما اعتمده منذ ذلك الحين الكثير من الباحثين ومعظم المنظمات الدولية، هو مؤشر "محدود" ويقترح التقرير في المقابل مؤشراً جديداً سماه "مؤشر التنمية الإنسانية" يقدمه، بجرأة تتجاوز الحد الأدنى من التواضع العلمي، على أنه "هو الذي يرسم الصورة أي صورة التنمية كاملة"ص 15. وبما أن هذا المؤشر الجديد هو محوري بالنسبة للتقرير وعليه بنيت معظم استنتاجاته الرئيسية فلا بد من وضعه أولاً في إطاره التاريخي الصحيح ومن ثم تقويمه علمياً. منذ الستينات من القرن الماضي على الأقل ينتقد عدد متزايد من الاقتصاديين مفهوم التنمية الاقتصادية وطريقة قياسها من خلال نسبة الارتفاع في مستوى الناتج المحلي أو الناتج القومي للفرد. فالناتج المحلي أو القومي هو مقياس جيد لمستوى التعامل التجاري بين الأفراد والمؤسسات، لكنه ليس مقياساً مقبولاً لمستوى رفاهية الإنسان. وعلى سبيل المثال، فان حسابات الناتج المحلي لا تفرق بين بناء سجن وتشييد مدرسة لأن كلاهما يساهمان في رفع مستوى الناتج المحلي بالطريقة نفسها. كما أن عمل المرأة في بيتها لا يدخل ضمن حسابات الناتج المحلي لأن هذا العمل من دون أجر ولا يندرج ضمن التعامل التجاري في المجتمع، ولكن العمل المنزلي يدخل في حساب الناتج المحلي إذا قام به خادم أو خادمة. كذلك فإن مصنعاً يلوث البيئة يساهم في رفع مستوى الناتج المحلي تماماً كمصنع لا يلوث البيئة بل قد يساهم مساهمة أكبر في النهاية لأن الناس سينفقون أكثر على العناية الصحية نتيجة عمل المصنع، ولأن الدولة ستنفق أكثر أيضاً لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية التي يسببها. مؤشرات متعددة قام بعض كبار الاقتصاديين بمحاولة لتعديل طريقة احتساب الناتج المحلي بهدف جعله يمثل، بصورة افضل، رفاهية الإنسان بدلاً من مستوى التعامل التجاري. ونتج من هذه المحاولة مؤشر "الرفاهية الاقتصادية الصافية" Economic Welfare Net الذي أخذ في الاعتبار بعض الأنشطة التي لا يأخذها الناتج المحلي كالعمل في القطاع الهامشي وأعطى قيمة سلبية للضرر البيئي الذي تسببه المصانع وغيرها. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل وسرعان ما تناستها الأدبيات الاقتصادية لأنها لم تف بالغرض. وفي الوقت نفسه قام بعض المهتمين بأمور التنمية بمحاولات لإيجاد مؤشر جديد مركب يتألف من متغيرات عدة كل منها يعطي بعداً مختلفاً للتنمية. ففي الستينات ظهر ما يسمى "المؤشر الموحد" Unitary Index الذي جمع بين متغيرات عدة في مجالات التغذية والسكن والصحة والتعليم والترفيه والأمن والبيئتين المادية والاجتماعية. وفي السبعينات حل محله مؤشر مركب آخر هو "المؤشر المادي لنوعية الحياة" Physical Quality of Life Index الذي جمع متغيرات تتعلق بوفيات الأطفال وتوقعات الحياة عند الولادة ومعرفة القراءة والكتابة. وفي الثمانينات كانت الغلبة ل"المؤشر الدولي للمعاناة البشرية" The International Human Suffering Index الذي جمع بين عدد كبير من المتغيرات كتوقعات الحياة عند الولادة واستهلاك السعرات الحرارية وتوافر مياه الشفة والالتحاق بالمدارس الثانوية وتضخم الأسعار وتطعيم الأطفال والحقوق المدنية والحرية السياسية. وفي مطلع التسعينات أصدر برنامج الأممالمتحدة الإنمائي مؤشر التنمية البشرية الذي جمع بين الناتح المحلي للفرد معدل قوته الشرائية ومعرفة القراءة والكتابة ونسبة الالتحاق بالمدارس والجامعات. واعترافاً منه بأن هذا المؤشر، كما أي مؤشر مركب آخر، على رغم ما يحتويه من متغيرات، لا يستطيع أن يمثل جميع نواحي التنمية، أصدر البرنامج مؤشرات مكملة ك"مؤشر المساواة" و"مؤشر الحرية الإنسانية" و"مؤشر تمكين النوع" و"مؤشر الفقر". ولكن بقي "مؤشر التنمية البشرية" هو المؤشر الرئيسي بالنسبة للأمم المتحدة. وأخيراً جاء برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، في تقريره الإقليمي عن التنمية البشرية العربية، بمؤشر مركب جديد هو "مؤشر التنمية الإنسانية". ويستعمل التقرير هذا المؤشر كبديل عن مؤشر التنمية البشرية لأن "النظام الحسابي للتنمية الإنسانية هو الذي يرسم الصورة الكاملة وليس مؤشر التنمية البشرية" ص 15. إلا أن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي لا يزال يعتمد "مؤشر التنمية البشرية" في نشراته الدولية. فهل هذا يعني أن هناك مؤشراً للمنطقة العربية تقوّم على أساسه إنجازاتها ومؤشراً آخر للمناطق الأخرى؟ "مؤشر التنمية الإنسانية" من المتغيرات الأربعة التي يتركب منها "مؤشر التنمية البشرية" يأخذ "مؤشر التنمية الإنسانية" الجديد ثلاثة: توقع الحياة عند الاولاد ونسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة ونسبة الملتحقين بالمدارس والجامعات. ويحذف المؤشر الجديد متغير الدخل القومي للفرد ويستعيض عنه بأربعة متغيرات هي "مقياس الحرية" و"مقياس تمكين النوع" مؤشر الأممالمتحدة الإضافي الآنف الذكر و"الاتصال بشبكة الإنترنت" و"انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون للفرد". السبب الذي يعطيه التقرير لهذا في معلب خاص الإطار 6-1 بقلم المؤلف الرئيسي هو أن "الفهم الصحيح لفلسفة التنمية الإنسانية ]يفرض[ اعتبار القدرات الإنسانية، خاصة الحرية، وليس التمكن من السلع والخدمات من طريق الدخل، الوسيلة الأساس لتمكين البشر". ولكن أليس التمكن من السلع والخدمات ضرورياً لمزاولة الحرية؟ هل يستطيع الفقير أن يتمتع بالحرية كالغني مهما كانت القوانين والشرائع التي تضمن حرية المواطن؟ من قرر أن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون هي أهم في قياس التنمية من مستوى دخل الفرد كي ندخل الأولى في الحساب ونستبعد الثانية. لماذا تم اختيار هذه المتغيرات الإضافية الأربعة وليس غيرها لقياس رفاهية الإنسان ومستوى التنمية؟ وفي غياب الجدلية المقنعة التي تبرر استعمال هذه المتغيرات بالذات ألا يستطيع أي إنسان أن يتقدم بمؤشر مركب جديد يستعمل فيه المتغيرات التي يعتبرها مهمة فنصل قريباً إلى عشرات المؤشرات ويصبح لكل تقرير مؤشره؟ شوائب تتضاعف شوائب التقرير في هذا المجال عندما تؤخذ في الاعتبار نوعية المتغيرات التي يستعملها في احتساب مؤشر التنمية الإنسانية. و لعل المثل الأكثر وضوحاً هو متغير الحرية الذي هو كناية عن مؤشر مركب يأخذه التقرير من مؤسسة أميركية تدعى "فريدوم هاوس". وبحسب هذا المؤشر فإن الأردن هو البلد الأكثر حرية في العالم العربي ويتمتع مع الكويت والمغرب واليمن وجزر القمر وجيبوتي بمستوى من الحرية يتجاوز المستوى في لبنان. و إذا ما عدنا إلى منشورات "فريدوم هاوس" في هذا المجال لوجدنا أن مستوى الحرية في لبنان، بحسب هذا المؤشر، كان أعلى بكثير عام 1982، أي خلال الحرب اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي، منه بعد انتهاء الحرب والاحتلال وأن مستوى الحرية في إسرائيل أقرب ما يكون إلى مستوى الكمال. ويعترف تقرير التنمية الإنسانية "تكراراً" بأن هذا المقياس "تشوبه عيوب كثيرة" ص 19 إلا أنه يبرر "استعماله إلى حين تتوافر قياسات افضل لمدى الحرية" ص 18. ولا بد من السؤال هنا ما هي صحة الاستنتاجات المبنية على إحصاءات مشوبة إلى هذه الدرجة؟ وما هي قيمة التوصيات المبنية على هذه الإحصاءات؟ وينطبق هذا النقد على معظم مؤشرات التقرير وإحصاءاته. ففي القسم المخصص ل"أصوات الشباب" مثلاً يفصل التقرير من خلال الأرقام والرسوم البيانية "القضايا الأهم في نظر الشباب العربي"ص 27-28 كلها مبنية على استطلاع شمل 24 شاباً فقط هذا العدد غير مذكور في النص العربي ولكنه موجود في النص الإنكليزي من كل من خمسة بلدان عربية اضافة إلى 112 طفلاً شاركوا في مؤتمر للأطفال العرب نظمه مركز الفنون المسرحية ل"مؤسسة نور الحسين" في الأردن. وعلى أساس هذه العينة، التي لا تمثل الشباب العرب بأي شكل من الأشكال، يصل التقرير إلى استنتاجات تدين المجتمعات العربية في شكل قاطع. فجواباً على سؤال إلى أين تريد أن تهاجر، موجه للشباب في العينة، جاءت بريطانيا في المرتبة الأولى ثم الولاياتالمتحدة وكندا ثم الدول العربية مما اعتبره التقرير بمثابة "الحكم غير المعلن لهؤلاء على مدى صلاحية المجتمعات العربية للعيش اللائق". وعندما وجه السؤال نفسه إلى الأطفال في العينة 10-17 سنة اختارت نسبة أكبر الدول العربية من تلك التي اختارت أوروبا، لكن التقرير هنا لم يستنتج أن أوروبا لا توفر العيش اللائق! وكالعادة يشير التقرير إلى أن العينة ليست نتيجة لمسح دقيق، لكنه على رغم ذلك يعتبر نتائجها معبرة! ولعل المؤشر الذي حاز على النصيب الأكبر من الترداد في المراجعات الأولى للتقرير كان عدد الكتب المترجمة سنوياً إذ بلغت في العالم العربي، بحسب التقرير، خُمس ما تترجمه اليونان ص 76 وإذا اعتبرنا هذه الأرقام على درجة مقبولة من الصحة فهل هذا يعني أن العالم العربي متخلف ثقافياً بالنسبة إلى اليونان؟ أم أن هذا يعني أن القارئ اليوناني أقل معرفة باللغات الأجنبية من القارئ العربي ولذلك فهو بحاجة أكثر إلى الترجمة؟ أنا أقرأ الكتب الإنكليزية والفرنسية دائماً بلغتها الأصلية فهل هذا يعني أنني متخلف ثقافياً عن القارئ الذي لا يستطيع قراءة هذه الكتب إلا مترجمة إلى العربية؟ أليس من الضروري في تحليل هذا المؤشر أن نأخذ الطلب في الاعتبار أيضاً وليس العرض فقط؟ وهناك مؤشرات عدة أخرى يستعملها التقرير لا تتعدى بجودتها المؤشرات الآنفة الذكر ولكنها تدعم النظرة التشاؤمية للتنمية البشرية العربية التي ينضح بها التقرير مثلاً ص 108 و 109. وفي غالب الأحيان يعترف التقرير بقصور هذه المؤشرات، لكنه يستعملها على كل حال ويبني عليها استنتاجاته وتوصياته. فبالنسبة ل"مؤشر الحرية" يقول التقرير: "ومن دون التسليم بصحة مضمون تقويم فريدوم هاوس ومنهجيته ، يمكن استخدام مؤشر الحرية كتوصيف عام لمدى توافر الحقوق والحريات الضرورية للحكم الصالح". ص 16. وإذا كان مضمون المؤشر ومنهجيته غير صحيحين فكيف يجوز أن نستخدمه كتوصيف لمدى توافر الحرية؟ كذلك بالنسبة لجودة التعليم التي يعتبرها التقرير "المشكلة الأخطر" في المجال التربوي. يقول التقرير ان "الشكاوى المتعلقة بتردي نوعية التعليم في البلدان العربية كثيرة. وقد أكدت الدراسات القليلة المتوافرة على غلبة ثلاث سمات أساسية على ناتج التعليم في البلدان العربية: تدني التحصيل المعرفي وضعف القدرات التحليلية والابتكارية وإطراد التدهور فيها". هكذا يدين التقرير في شكل قاطع جودة التعليم في المنطقة على أساس "دراسات قليلة متوافرة" لا يعطي مراجعها. وبالنسبة الى انتاج الكتب يقول التقرير أنه "لا توجد أرقام مؤكدة يمكن الاستناد إليها، إلا أن هناك شواهد عدة تؤكد النقص الشديد في التأليف". ما هي هذه الشواهد؟ وكيف يؤكد التقرير أن هناك نقصاً في التأليف على رغم عدم وجود أرقام مؤكدة يمكن الاستناد إليها. وحتى عندما تدل الإحصاءات على إنجازات في التنمية العربية يجد التقرير وسيلة لوضعها في قالب سلبي متشائم. ففي مجال التعليم مثلاً يقول التقرير ان البلدان العربية "أظهرت... تحسناً في تعليم الإناث أسرع منه في أي إقليم آخر"، لكنه يضيف مباشرةً بعد ذلك: "إلا أن هذه الإنجازات لم تنجح في تعديل الموقف والمعايير الاجتماعية المتحيزة ضد المرأة، التي تشدد على نحو حصري على الدور الإنجابي للمرأة وتعزز اللامساواة بين الرجل والمرأة في مختلف نواحي الحياة. ونجم عن ذلك أن أكثر من نصف النساء العربيات لا يزلن أميات".ص2. حقيقة الأمر هي أن الدول العربية خطت خطوات كبيرة جداً في العقود القليلة الماضية في مجال تعليم المرأة وإشراكها في الحركة الاقتصادية. فنسبة التحاق النساء بالمدارس والجامعات ارتفعت في شكل كبير خلال هذه المدة. وخلال الاعوام ال20 الماضية ارتفعت نسبة التحاق البنات بالمدارس الثانوية من أقل من 30 في المئة إلى نحو 55 في المئة، وبالجامعات من ستة في المئة إلى أكثر من 12 في المئة. وفي معظم البلدان العربية خصوصاً بلدان الخليج العربية، أصبح عدد الإناث الملتحقات بالمدارس الثانوية والجامعات يوازي أو يتجاوز عدد الذكور. صحيح أن مستوى الأمية بالنسبة الى مجموع السكان ما زال أعلى بين النساء منه بين الرجال إلا أن هذا لا يعود إلى التحيز ضد المرأة بل إلى مخلفات الماضي حين كان مستوى الأمية بين النساء العربيات مرتفعاً جداً بالنسبة للرجال. وإذا نظرنا إلى نسبة الأمية بين الصغار نجد أن هذه النسبة أصبحت منخفضة في معظم البلدان العربية ولا تختلف كثيراً بين الذكور والإناث. ففي البحرين مثلاً تبلغ نسبة الأمية بين النساء اللواتي لهن من العمر 60 سنة وما فوق نحو 80 في المئة فيما هي اقل من واحد في المئة بالنسبة للبنات البالغات من العمر 10 إلى 14 سنة كما هي للذكور من العمر نفسه. بمعنى آخر تم محو الأمية في البحرين خلال جيل واحد وهذا إنجاز غير مسبوق في العالم. أما القول ان هذه الإنجازات لم تنجح في تعديل المعايير الاجتماعية التي تشدد "على نحو حصري" على الدور الإنجابي للمرأة فهذا أيضاً غير صحيح. فعلى رغم أننا دائماً نطمح إلى الأفضل، خطت المرأة العربية خطوات كبيرة في مجال المشاركة في النشاط الاقتصادي في العقود القليلة الماضية. وتدل الإحصاءات أن ثلث النساء العربيات 15 سنة وما فوق أصبحن داخل القوى العاملة وأن هذه النسبة هي في ارتفاع مضطرد. وهذه نسبة لا بأس بها إذا ما أخذنا في الاعتبار الحداثة النسبية لدخول المرأة ميدان النشاط الاقتصادي خارج الزراعة وتفضيل بعضهن الاهتمام بأطفالهن - على الأقل في سنيهم المبكرة - على حساب العمل خارج المنزل وهذا لا يجب بالطبع أن يعتبر عملاً سلبياُ بالنسبة للتنمية البشرية. إن هذه النظرة التشاؤمية التي ينضح بها التقرير ليست عرضية بل تشكل فلسفته الأساسية. يقول التقرير في هذا المجال ان "المقارنة... بالمناطق التي تقدمت على البلدان العربية هو الأجدر بالاعتبار في مناقشة تتوخى صياغة التنمية الإنسانية في الوطن العربي" لأن المقارنة بالدول الأخرى "تغري بالتكاسل" أما المقارنة مع الدول المتقدمة فإنها "حافز على شحذ الهمم ومواجهة تحدي صناعة التنمية الإنسانية في الوطن العربي" ص 24. ولذلك فحتى عندما يكون الوطن العربي في طليعة بلدان العالم الثالث، كما هي الحال في مجال نسب الالتحاق بالمدارس والجامعات، فإن هذه النسب، بحسب التقرير، "تقصر بشدة عن المستوى السائد في البلاد الصناعية".ص 43 وهنا تكمن مشكلة التقرير الأساسية، أي في فلسفته التي تجعله تقرير ناشطين وليس تقرير باحثين علميين. فالناشط يحاول إعطاء صورة قاتمة عن المشكلة التي ينشط من أجلها لتحريك الرأي العام وتحفيز أصحاب القرار على حلها فيما واجب الباحث العلمي أن يعطي فكرة غير منحازة عن الحال بنواحيها الإيجابية والسلبية لأن هدفه هو سياسة متكاملة تحافظ على الإيجابيات وتدعمها كما تعالج السلبيات وتحاول إصلاحها. مشكلة التقرير أنه تبنى فلسفة الناشطين وقدمها مغلفة بغلاف علمي برسومه البيانية وجداوله الإحصائية ومؤشراته المركبة وضمن غلاف برزت فيه شارة برنامج الأممالمتحدة الإنمائي على رغم الإشارة العارضة في أسفل ص 7 بأن ما ورد في التقرير لا يعبر بالضرورة عن آراء البرنامج. إن للبحث العلمي دوره ولعمل الناشطين دوره ولا يجب الخلط بينهما. كما أن للأمم المتحدة دورها في دعم البحث العلمي كما أن لمنظمات الناشطين، كفريدوم هاوس مثلاً، دورها في تحريك الرأي العام وتحفيزه ولا يجب الخلط بينهما. إن نظرة الناشطين المتشائمة ضمن غلاف الأممالمتحدة العلمي هي لا شك ما حدا بالكثير من المعلقين الغربيين والبعض منهم معروف بعدائه للعرب لاستعماله التقرير في تفسير ما يسمونه "الإرهاب العربي والمسلم" وضرورة التدخل السريع في شؤون هذه الأمة لتغيير مسارها بالقوة. فإضافة إلى مقال مجلة "ايكونوميست" بعنوان "يحكمون على أنفسهم بالفشل" Self-doomed to failure الذي تمت الإشارة إليه في مقال خاص لجلال أمين في حينه "الحياة"، 25 تموز/يوليو 2002، يقول توماس فريدمان مثلاً أن الشارع العربي قد يتخذ موقفاً مسانداً للولايات المتحدة في ضرب العراق إذا أعلنت هذه الأخيرة أن الهدف من الضربة هو "ليس فقط نزع سلاح العراق بل أيضاً تمكين الشعب العراقي من تطبيق تقرير التنمية الإنسانية العربية". ويقول ديفيد هيرست ان التقرير "يصف منطقة من العالم الثالث تخلفت عن كل المناطق الأخرى بما في ذلك أفريقيا جنوب الصحراء بالنسبة لمعظم المؤشرات الأساسية للتقدم والتنمية". ويضيف أن "السبب الرئيسي لهذا التخلف بحسب التقرير الذي أعده كتاب عرب فقط هو أن أهل المنطقة هم الأقل حرية في العالم و لديهم أقل مستوى من المشاركة في الحكم". أما جورج شولتز وزير الخارجية الأميركي السابق المعروف بكراهيته للعرب، خصوصاً بعد حادث تفجير مقر المارينز في لبنان، أن "عراقاً جديداً يعطي الفرصة لقلب الركود الذي يصفه تقرير التنمية الإنسانية العربية في شكل مفصل وأن العالم العربي بحسب ما جاء في التقرير مشلول بسبب عدم وجود الحرية السياسية وقمع المرأة وانعزالها عن عالم الفكر الذي يخنق الإبداع". للتنمية العربية سلبياتها وإيجابياتها وإظهار السلبيات فقط، خصوصاً في مقارنة مع بلدان الغرب الصناعية، يعطي فكرة أننا متخلفون عن هذه البلدان في جميع نواحي التنمية البشرية مما يوجب استيراد كل ما نستطيع استيراده منها من دون تمييز. وحقيقة الأمر هي أنه، على رغم تخلفنا عن الغرب في كثير من مجالات التنمية، خصوصاً في مجالي النمو الاقتصادي والتكنولوجيا، لدينا في الوقت نفسه قيم أخلاقية وأوضاع اجتماعية تفوق في كثير من الأحيان قيم وأوضاع الغرب. فالعائلة عندنا ما زالت متماسكة على رغم ضغوط العولمة، ونسب الجريمة والإدمان على المخدرات والطلاق والانتحار ونقص المناعة الايدز وغيرها من الآفات ما زالت منخفضة جداً بالنسبة لما هو موجود في الولاياتالمتحدة ومعظم البلدان الصناعية. وعلى سبيل المثال فإن نسبة الوفيات بسبب الجريمة تبلغ في الولاياتالمتحدة أربعة أضعاف ما تبلغه في الكويت ونسبة الانتحار للرجال تبلغ حوالى خمسة أضعاف مستواها في البحرين. أما نسبة الطلاق فتبلغ في الولاياتالمتحدة أكثر من خمسة أضعاف مستواها في قطر وستة أضعاف مستواها في تونس وثمانية أضعاف مستواها في سورية. ان النظرة العلمية الشاملة لسلبيات التنمية العربية وإيجابياتها هي وحدها الكفيلة بإطلاق الحوار بين المثقفين العرب، وبينهم وبين صانعي القرار، حول السبل التي تسمح باستيراد التكنولوجيا ونظم اقتصادية غربية من دون استيراد المساوئ الاجتماعية. هل التكنولوجيا والنظم الاقتصادية الغربية منفصلة عن هذه المساوئ الاجتماعية انفصالاً كاملاً أم أنها تحوي في داخلها فيروس هذه المساوئ وأن استيرادها العشوائي يعني استيراد المساوئ الاجتماعية معها؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي الطرق الناجعة لاطلاق تنمية اقتصادية وتكنولوجية في العالم العربي من دون التفريط بالمزايا الاجتماعية التي يجب الحفاظ عليها ودعمها؟ إن التقرير الأول للتنمية البشرية في العالم العربي كان فرصة ذهبية لاطلاق مثل هذا الحوار إلا أنه أضاعها. * مدير مركز الدراسات والمشاريع الانمائية مدما، وسفير لبنان السابق في واشنطن.