مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    محترفات التنس عندنا في الرياض!    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    الذاكرة.. وحاسة الشم    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    إرشاد مكاني بلغات في المسجد الحرام    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقرير التنمية الانسانية العربية ... جدية مستحقة وجدة مفتعلة ودقة تلامس البهلوانية
نشر في الحياة يوم 11 - 11 - 2002

ترددت عبارات مثل "الأول من نوعه" و"جرأة نادرة وصراحة غير مسبوقة" و"دقة وشمول" في وصف تقرير الأمم المتحدة "الأول" عن التنمية في الدول العربية كمنطقة اقليمية مستقلة. وكان هناك اصرار على "عروبة" التقرير اذ أعدته "نخبة من الخبراء والمفكرين العرب" وساهم فيه الى جانب الأمم المتحدة الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي وتم اعلانه في مقر الجامعة العربية في القاهرة.
تلقفت جهات اعلامية، في الغرب بالدرجة الأولى، التقرير باهتمام بالغ وحظي بتعليقات وتحليلات أضفت عليها أحداث أيلول سبتمبر ثقلاً أثر في نزاهة بعضها. وعلى المستوى العربي تفاوت الاهتمام المحدود بين التشكيك في جدة التقرير وجديته وجدواه والدور الخارجي المهم الذي لم يوله قدراً مناسباً خصوصاً اسرائيل تليها عوامل خارجية أخرى فعالة مثل حصار العراق والعولمة والدور الأميركي الطاغي بعد أحداث أيلول. ويدرس التقرير مواضيع تكاد تمس كل جوانب الحياة بطريقة مقتضبة تشكل مجموعة أوراق عمل تفتح آفاق نقاش في كل من المسائل التي يتناولها. ولا بد من تسجيل ملاحظات عدة:
أن يعلن التقرير من مقر الجامعة العربية أمر متوقع، ولكن ألا يكون للجامعة دور في تقديمه أو أن يكون ممثل لها على المنصة ففي ذلك بعض الاستغراب. والأغرب هو رد الناطق باسم الجامعة الذي ليس لديه "رد مباشر" على نتائج التقرير الذي تدرسه الجامعة "دراسة دقيقة" "الأهرام ويكلي" 11-17 تموز/ يوليو 2002. فأين دور الجامعة في اعداد التقرير وهل في كثير من معلومات التقرير ونتائجه ما هو من الجدة ما يسبب البكم؟
ربما يكون تمثيل الجامعة كهيئة شرفياً أو غير مباشر من طريق الصندوق العربي للانماء الاجتماعي والاقتصادي، لكن هذا يثير أسئلة أكثر مما يقدم اجابات. فالصندوق يضم دولاً عربية لكنه كويتي، ومظلة الجامعة العربية قد تكون مثل تلك التي تنضوي تحتها "مؤسسة زايد للبحوث والمتابعة" أو "مجلس سيدات الأعمال العربيات". وبعبارة أخرى ما من صلة عضوية أو "مؤسساتية" بالجامعة، والا كيف يمكن اسقاط عضوية العراق والصومال من قائمة الدول المشاركة في الصندوق. كذلك لا يندرج اسم جزر القمر - وهي عضو في الجامعة - ضمن الدول المشاركة.
ولادارة الجامعة نفسها أقسام على مستوى الأمانة العامة المساعدة مثل الشؤون الاقتصادية التي لها صلة مباشرة بجزء أساسي في التقرير، الا أنها مختفية تماماً وربما مغيبة. والشخصيتان الأساسيتان هما الدكتورة ريما خلف وهي وزيرة أردنية سابقة ترأس المكتب الاقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي للدول العربية. وعلى رغم دورها الرئيسي والرئاسي، الا أن حضورها الاعلامي كان محدوداً ويكاد ينحصر في الاعلام الغربي أو المحلي الناطق بلغات أجنبية. أما الدكتور نادر فرجاني - الشخصية الأخرى - فكلف من قبل المكتب الاقليمي قيادة مجموعة العمل المنوط بها اعداد التقرير.
ليس لموقع المكتب الاقليمي على الانترنت الذي نشر عليه التقرير أي معلومات اضافية تتعلق بهيكله الاداري، والسؤال: لماذا أنشئ هذا المكتب، وهو أحد سبعة مكاتب اقليمية، في وقت تتداخل بعض نشاطاته مع مكتب اقليمي آخر للأمم المتحدة هو الهيئة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا اسكوا ومقرها بيروت والتي تضم 13 دولة عربية وشارك عدد من "خبرائها" في اعداد هذا التقرير اضافة الى هيئتين أخريين تابعتين للأمم المتحدة هما صندوق الأمم المتحدة للسكان واللجنة الاقتصادية لأفريقيا. وتتقاطع اهتمامات "اسكوا" مع اهتمامات مكتب القاهرة في تناولها مواضيع تتعلق بالمرأة والبيئة والادارة. وكما ترتبط مصر بناء على امتدادها في آسيا الى مجموعة "اسكوا" الخاصة بغرب آسيا، فان موريتانيا في الغرب الأقصى تصنف ضمن مجموعة أفريقيا جنوب الصحراء وتتبع مكتب الأمم المتحدة الاقليمي الخاص بتلك المنطقة في وقت لا يشمل هذا المكتب جزر القمر والصومال وجيبوتي والسودان. والى هذا التشعب والازدواج هناك مكاتب الأمم المتحدة الانمائية لكل قطر ثم المركز الرئيسي لبرنامج التنمية في نيويورك.
وتصدر هذه الجهات تقارير دورية وصل عددها الى 35 تقريراً قطرياً واقليمياً شملت 17 دولة عربية "الحياة"، 7 تموز 2002، فما الذي يجعل هذا التقرير متميزاً عن سواه؟ ربما عزا البعض ذلك الى أن القائمين عليه عرب، ولا ندري الى أي مدى تعتبر هذه ميزة الا اذا كان في ذلك تطميناً لمن لا يأمن الأغيار بحسب تعبير الكواكبي، ويجعل الاثنية عامل صدقية مع أن العروبة غير الهجينة لم تكتمل اذ أن بعض مراجعي البحوث ليسوا عرباً. وعلى رغم هذه الأهمية العربية صدر التقرير بالانكليزية ولم تتبعه النسخة العربية الا بعد أسابيع وستلحق بهما النسخة الفرنسية الموجهة الى عرب شمال أفريقيا. ومن اللافت أن تصريحاً ونشرة عن التقرير صدرتا بالانكليزية في لندن بالتزامن مع اعلانه في القاهرة. لذا فان القراء الذين وجه اليهم التقرير أولاً ليسوا هم "العرب"، ومن ثم لا عجب في أن الاعلام الغربي كان سباقاً الى مناقشته واستعماله الانتقائي لأجزاء منه تتوافق مع الأحداث الراهنة وطبيعة الوسائل الاعلامية ذاتها. لكن القارئ العربي الذي يفصل التقرير قصوره بالنسبة الى استعمال وسائل تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية يعاقب مرتين: الأولى بعدم صدور النسخة العربية الا بعد أسابيع من الانكليزية، والثانية بتأخر صدور النسخة العربية المطبوعة وعدم توافرها الا بعد حين في مكاتب الامم المتحدة وبقيمة باهظة 20 دولاراً، ولهذه الأسباب لن يكون التقرير، كما قال فرجاني "الحياة"، 8 آب/ أغسطس 2002، "ملكاً لعامة الشعب العربي".
لم يحل ادعاء عروبة التقرير دون الخضوع خصوصاً بالنسبة الى دور اسرائيل المدمر كما عليه الاجماع تقريباً لاعتبارات الأمم المتحدة التي يستمد التقرير منها "حياديته" و"موضوعيته"، فتم الامتثال بحسب مقابلة فرجاني في "الاهرام ويكلي" لضغوط الهيئة الدولية، اذ أن الفريق لم تكن له مطلق الحرية وبعض المواضيع قرأ الكثيرون هنا اسرائيل اعتبرت حساسة جداً لأن التقرير يحمل شارة الأمم المتحدة.
واذا كان التقرير يخص العرب وكتبه عرب ومولته مقاسمة جهة عربية، ألم يكن في الامكان التخلص من قيود الأمم المتحدة التي أضرت بصدقيته؟ سؤال قد لا يكون منصفاً تماماً اذ تحت غطاء الأمم المتحدة فقط تمكن "الخبراء والمفكرون العرب" من ابداء آرائهم بحرية، ومن دون الأمم المتحدة لم يكن لهذا التقرير أن يؤخذ مأخذ الجد على المستوى الاقليمي والدولي. وما أكثر تقارير الأمم المتحدة القطرية والاقليمية عن المنطقة، ولولا هذا الربط الذكي بالعروبة تأليفاً وتوجهاً لما التفت اليه لا العرب ولا الأجانب. وقد تكون هذه الصلة هي التي منحته كذلك جدية مستحقة. أما بالنسبة الى الجدة فقد يكون مجحفاً ايلاء أهمية قصوى لصياغة التقرير بحسب نقد جلال أمين الذي أثار انفعال فرجاني كما ورد في مقالته في "الحياة"، وكذلك بحسب مديح أحمد منصور في لقائه مع المؤلف في قناة "الجزيرة". ومن النظرة الأولى يلاحظ القارئ لغة متميزة نجحت في تجنب كثير من حقول الألغام وابتعدت عن الاثارة والتشويش، الا أن بعض العبارات اللافتة التي حواها لا تتعدى الاثارة اللغوية مثل القول ان العرب هم أكثر ثراء لكن أقل تقدماً. وقد تكون للتقارير لغة خاصة تقارب في بعض عباراتها ما يوازي في مجال الاعلام العبارات الطنانة التي تختزل وقد تحرف مفهوماً، لكن لها القدرة على الرسوخ في الذاكرة. وفي التقرير عبارات طنانة أخرى مثل: الناتج القومي الاجمالي للدول العربية مجتمعة أدنى من مماثله لأسبانيا، وربما الأكثر اطناناً ان الكتب المترجمة منذ عصر المأمون تعادل ما يترجم في اليونان في سنة. وكذلك هناك تعابير قد لا تصل الى مستوى العبارات الطنانة لكنها تدخل تحت مسمى "الدقة العلمية" ولعل الأدق حذلقة، ففي وقت نشاهد الفقر - بل ربما المجاعة - في مناطق مختلفة من دول الجامعة العربية، الا أن التقرير يصر على أن الفقر ليس فقر دخل ولكنه فقر امكانات وفرص، وهذا ينجم عن النواقص الثلاث: الحرية، وتمكين المرأة، والمعرفة. ولا نعتقد أن هذا التمييز العلمي في تعريف الفقر سيسد رمق أي أم، مهما علت الصيحات بحريتها وتحريرها وتمكينها وتعليمها من قبل النخبة رجالاً ونساء.
يميز التقرير بين التنمية البشرية والتنمية الانسانية مع أنهما ترجمة لعبارة واحدة human development. وعلى رغم شيوع الأولى يصر الدكتور فرجاني، على التمييز بين الاثنتين في تعريف يحاول الجمع بين الدقة العلمية والالعاب الأكروباتية مما ينشأ عنه تعمية وتشويش لا يفيدان "عامة الشعب" بمن فيهم بالطبع الفقراء بالمعنيين الجديد والقديم.
وفي رده على تهجم جلال أمين بأن التقرير يتميز ببلاغة العرض، يعدد فرجاني مزاياه: "رقي المفهوم وشمول المنظور ورصانة الاعداد وجدة النتائج، ليس فقط عربياً ولكن منهجياً وعالمياً هكذا". وعلى رغم استدراكه بأن هذا الجهد بشري وربما انساني وبالتالي قاصر الا أن هذا الانفعال في الرد يقدم ادعاءات يصعب دعمها أو تبريرها وقد تصنف ضمن "نواقص" التقرير. وأجد عبثاً في تحديد مدى "رقي" أي مفهوم وأتردد أمام كل ادعاء بشمول في المنظور وبالطبع المخفي، وان كان في الامكان تقويم وتقدير رصانة الاعداد كما حاولت آنفاً فان جدة النتائج هي بالتأكيد مجال ريب.
لا يضير التقرير الا يكون "جديداً"، ففيه من الجهد وجدية الطرح والدراسة ما يفوق مجرد الطرافة. ولن تثنينا بعض الحذلقات في استخدام بعض العبارات ولن يقلل من رصانة اللغة أنها ترجمة في معظمها للتقرير الذي ربما كتب أساساً بالانكليزية. ولا ينقص من جدية التقرير وربما جدته، أن بعض المسائل التي يتعرض لها عولجت في تقارير سابقة من قبل الدكتور فرجاني نفسه في البحوث التي قام بها مركزه للدراسة والبحوث: "المشكاة". فضمن قائمة البحوث التي أجرتها "المشكاة" هناك دراسات ترتبط ارتباطاً جذرياً بالتقرير العربي الحالي مثل "عن تحدي اكتساب المعرفة في الوطن العربي كانون الثاني/ يناير 2000 حيث نجد التمييز بين "التنمية البشرية" و"التنمية الانسانية"، و"رفعة العرب في صلاح الحكم في البلدان العربية شباط/ فبراير 2000 حيث نجد ترجمة وتعريف كلمة governance. ويتكرر هذا في التقرير الحالي. وهناك بحوث أخرى ل"المشكاة" عن التعليم واكتساب المعرفة ومركزية دور المرأة في التنمية موجودة على موقع "المشكاة" على الانترنت. وان ينفي هذا جدة بعض المصطلحات والتعريفات بل حتى الأفكار، فانه يؤكد الجدية والمتابعة والالتزام ويقدم مثالاً متميزاً لتوفير جهد مفيد من طريق وسيلة تكنولوجية حديثة يسعى التقرير والمركز الى نشرها.
ويؤكد تكليف "المشكاة" من قبل المكتب الاقليمي للأمم المتحدة ورئيسته الدكتورة ريما خلف بمهمة اعداد التقرير تأكيد على جديته ورصيده واهتماماته البحثية السابقة بمجالات تنموية على مستوى العالم العربي. فأدى تضافر جهوده مع خبرات الأمم المتحدة في التنمية الى انجاز تقرير نوعي مختلف عن سواه. وفي التقرير العربي طرح جريء لأمور سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية شديدة الحساسية وان تجنبت مجالاً محورياً هو الدين الذي يشمل كل جانب من جوانب الحياة في المجتمع العربي. ولا ندري هل يمكن اهمال هذا الشأن في دراسة بهذه "الشمولية" خصوصاً في ظل ظروف عالمية تولي الدين والاسلام على وجه الخصوص دوراً محورياً في مجريات الأمور المحلية والعالمية.
يجب الاعتراف بأن "الصراحة القاسية" بحسب "الأهرام ويكلي" حتى في تقرير يستظل بمظلة الأمم المتحدة لها حدودها. بل ربما يكون مسمى الأمم المتحدة سبباً في تجنب الخوض في الشأن الديني كما تفعل هي في تقاريرها الدورية عن التنمية. ونجد في نقد جلال أمين وبعض ردود الفعل المحلية والأجنبية اضافة كلمتي اسلامي ومسلمين على رغم أن التقرير يضع حدوداً واضحة للتركيز على دول الجامعة العربية، لكن في ذلك اشارة مهمة ولو أنها مبهمة الى الدور الجذري للدين كمكون محوري، ان لم يكن اساسياً، في الوضع العربي الحالي.
أشرنا سابقاً الى كثرة تقارير الأمم المتحدة المتعلقة بالتنمية وتداخلها وتكرارها وفي الحديث عن المنطقة العربية لاحظنا الازدواجية بين "اسكوا" والمكتب الاقليمي ومكتب أفريقيا الذي يضم موريتانيا والمكاتب القطرية وربما يكون في المستقبل تقرير خاص يقتصر على الدول الاسلامية وعندها تتضح هشاشة الربط بدرجة ساطعة بين دول لا جامع بينها الا الانتماء المعلن لمبادئ سامية لا صلة لها بمكونات الدول الحديثة ولا بالمجريات الدولية الراهنة. قد يكون هناك شيء من الصحة وان أريد بها باطل لمقولة برنارد لويس المتهكمة والمتحيزة عن جدوى التجمعات الدولية تحت مسمى الاسلام ومن ثم مساءلة مشروعية وفائدة الهيئات الاقتصادية والسياسية القائمة على هذا المفهوم في ظل عولمة كاسحة واستشراء لمبادئ اقتصاد السوق وربما دولة السوق وتداخل في مصالح الدول وتعدد داخلي في معتقدات واساليب حياة مواطني الدول. ولنا هنا أن نسأل آخذين في الاعتبار هذه العوامل والتفاوت الكبير بين "الدول العربية" التي يعكسها الى حد ما تعدد مكاتب الأمم المتحدة للمنطقة عن ماهية "الدول العربية" وبالتالي هل يمكن أن يضم هذا الخضم في موضوع يمكن دراسته ولملمة أطرافه غير المتجانسة. قد لا تكون مسؤولية التقرير تحديد القواعد التي تقوم عليها هيئات مثل الجامعة العربية وأهلية الدول المنتمية لها ليس من منطلق "العروبة" كمفهوم قومي أو تحرري فقط اذ أن في ذلك شبهاً بالتنظيمات القائمة على مفهوم شامل مثل الدين لا تقوى على خلق مؤسسات حديثة مرتبطة بمجابهة الواقع واستشراف المستقبل على أسس تضم الى جانب النظرة العامة للحياة وأسلوب المعيشة الركائز الاقتصادية والسياسية والثقافية على مستوى شامل. والتجمعات القائمة على الدين أو الاثنية أو الايديولوجية تكاد تكون جميعها خلقت كردود فعل وغرضها تكوين جبهة واحدة موحدة صلدة ضد الآخرين أو الأغيار، وليس من همها تكوين مؤسسات وهيئات داخل الكيان الواحد لأهداف تأسيس مجتمع ناشط منتج تحكمه نظم عادلة منصفة، همها الأول والأخير عقد الاجتماعات الدورية وتشكيل اللجان واصدار البيانات وترتيب اجتماعات الرؤساء.
ضمن هذا الكل العربي المترامي الذي يصعب شمله خارج اطار التمنيات والتطلعات يستحيل الركون التام للعموميات المطروحة حتى ولو كانت بلغة الأرقام. ويعترف التقرير بالتفاوت الكبير بين الدول العربية بحسب المعايير الاقتصادية ومعيار سن الذي ضم فيه أمارتا سن عوامل أخرى الى العامل الاقتصادي ثم التقرير العربي الذي أضاف بدوره عوامل عدة. فما الفائدة من وضع هذه الدول اذاً في تقرير واحد حيث أن هذا التباين موجود تحت سقف الأمم المتحدة. قد يوجد تفاوت كبير ضمن البلد الواحد سواء بالنسبة لمناطق جغرافية أو فئات اجتماعية أو نخب سياسية، لكن هذا يدخل ضمن امكانات ومراجعات وسياسات كل بلد. أما بالنسبة الى الدول العربية فغرض الأرقام هو الأرقام، مع العلم أن التوصل الى هذه الأرقام يجب أن يكون موضع مساءلة.
يعترف القائمون على التقرير بصعوبة وأحياناً استحالة التمكن من الحصول على احصاءات أو استبيانات ونجد دولاً ذات مقدرة وامكانات مثل المملكة العربية السعودية لا تعرف مثلاً نسبة البطالة فيها. قد تتوافر بعض الاحصاءات المتعلقة بجهات خارجية الا أن الاحصاءات عموماً اما غير متوافرة أو غير دقيقة أو غير محدثة. أما الأرقام التي لا ترتبط بالمجال الاقتصادي مباشرة فهذه لا ريب أكثر مدعاة للشكوك مثل احصاءات التعليم، ولنا في هذا المجال أن نلاحظ أن احصاءات اليونيسكو مثلاً ليست الا تجميعاً سنوياً لما تقوله - أو تزعمه - الدول عن التعليم فيها.
واذا كانت الاحصاءات متورمة أو ضامرة فكذلك ستكون الاستنتاجات المبنية عليها ومبدأ الحصول على نتائج بالمتوسطات الحسابية averages لا يعدو أن يكون تركيباً خيالياً لا أرضية واقعية له ولا جدوى مرجوة منه خصوصاً خارج الاطار القطري حيث يمكن ان تكون له أهمية وعلى أساسه تعد الخطط وتتم مساءلة الساسة. والا فما الفائدة العلمية أو العملية من متوسط دخل الفرد بين الامارات والصومال لا بد أن يكون الحصول على دخل الفرد هنا - وهو سيكون أيضاً متوسطاً - ضرب من التنجيم مثل الفائدة المرجوة من متوسط مساحة السودان وقطر. نعم هناك رقم وربما دقيق ولكن ما جدواه؟ في المعايير التي تخفف من غلواء العامل الاقتصادي الطاغي الذي يتبناه صندوق النقد الدولي هناك تقديرات النمو في مجالات أخرى لها أهميتها، ولكن حتى هنا عندما توضع هذه التقديرات في صيغة أرقام يجب أن تكون موضع مساءلة والترجمة والأرقام حولها في التقرير العربي مثال مفيد. كذلك قد يكون لبعض الصيغ التي تحاول الجمع والاستنتاج ما يثير ليس فقط علامات تعجب وانما ابتسامات ساخرة مثل الحديث عن نسبة تمثيل المرأة في "البرلمانات" العربية.
وكما استمد التقرير العربي بعض مادته - خصوصاً تعريفات أساسية مثل "التنمية الانسانية" في مقابل "التنمية البشرية" وهما ترجمة لعبارة واحدة وترجمة governance الحديثة في صيغتها الجديدة حتى في الغرب ب"حكم" - من بحوث ودراسات قام بها في الماضي مركز المشكاة، فان مرجعية تقارير الأمم المتحدة خصوصاً الأخير الذي توافق تقريباً ظهوره مع التقرير العربي مهمة الى درجة قصوى لأنها تبين مقدار التركيز في التقرير العربي على بعض النقاط وتجنبه لأخرى واهماله التام لبعض آخر. يتحدث تقرير الأمم المتحدة بصرامة لا مواربة فيها عن التنمية نغفل هنا صفة بشرية أو انسانية فالمعنى بين وارتباطها الجذري بالسياسة ويعلن أن الحكم الديموقراطي ليس فقط مهماً للتنمية ولكنه خير في حد ذاته وأن حرية الناس السياسية لا تقل عن مقدرة الكتابة والقراءة بالنسبة للتنمية. كذلك يذكر الكيفية التي من طريقها يمكن انشاء المؤسسات التي تقود الى هذا الهدف الذي هو حق انساني ويقدم احصاء للمسار الديموقراطي في العالم ولا يجد سوى 55 في المئة من سكان العالم ينعمون بحكم ديموقراطي بناء على انتخابات متعددة الأحزاب وتقوم دولها على مؤسسات عامة فعالة. كذلك يتناول مواضيع مهمة للتنمية مثل القانون والتعليم ووضع المرأة والاعلام، لكن في كل من هذه المواضيع اضافة الى الديموقراطية نفسها، هناك وضوح ودقة وعمق لا تتوافر في التقرير العربي.
لا شك في ان الحكم الديموقراطي خير في حد ذاته، لكن تقرير الأمم المتحدة يتحفظ عن الربط التلقائي بين الديموقراطية والتنمية ويعطي كمثال الحال التي تتحكم فيها نخبة في القرارات الاقتصادية والسياسية. كذلك يجد أن الديموقراطية الحديثة في شرق أوروبا لم تعط أكلها، ولم تقلص الديموقراطية عدد الفقراء في مناطق من أفريقيا جنوب الصحراء. بالطبع لا يعني هذا أن الأنظمة الشمولية تحل المشكلة لكنه يقول بصراحة لم يرق لها تهجم جلال أمين "أن البحوث الاقتصادية خلصت الى أنه لا النظام الشمولي ولا الديموقراطي عامل في تحديد معدل النمو الاقتصادي أو كيفية توزيعه". ويبين التقرير أيضاً أن الخلل والتفاوت في الموارد له أثر سيئ على المسار الديموقراطي في مصلحة النافذين مما يقوض المؤسسات القضائية والجهات التي تضع القوانين. وللمال الأثر الأخطر في السياسة والمثال الصارخ هو الولايات المتحدة، وكذلك في الهند حيث قدمت الشركات الكبرى في 1996 للأحزاب الرئيسية 80 في المئة من موازناتها.
هناك تحفظ آخر مهم يتعلق بالمجتمع المدني الذي له دور في الحكم الديموقراطي اذ أنه يجد أن بعض مجموعاته تتبنى مشاريع أو وسائل معارضة للديموقراطية لذا لا بد أن تحكمها الشفافية والمحاسبة. والاعلام الحر الذي هو أحد دعائم الديموقراطية يجب أن يكون مستقلاً ليس فقط عن سلطة الدولة ولكن أيضاً عن تحكم الشركات الكبرى والضغوط السياسية. واضافة الى هذه المحاذير هناك اصرار على امساك الحكم الديموقراطي بمجال الأمن والحد من تسلط الجيش والبوليس والاستخبارات ناهيك عن أمراء الحرب والميليشيات وشركات الأمن الخاصة. وهناك عدد كبير من الدول لا يزال يعسكر قوى أمنه الى درجة يصعب معها التفريق بين الشرطة والجيش.
يتعرض التقرير للعولمة وينتقد جوانب أساسية فيها تتعلق بعدم الانصاف والتوازن ومدى تحكم الدول الكبرى في مجريات الأمور، بل يعترف بالدور الثانوي لبعض مؤسسات الأمم المتحدة في قرارات منظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي، ويتجاوز ذلك الى المطالبة بضرورة مراجعة وضع مجلس الأمن وضرورة جعله أكثر تمثيلاً وديموقراطية.
هذه بعض النقاط التي اهتم بها تقرير الأمم المتحدة بطريقة أشمل وأجرأ ولكن أعمق. واللافت هنا غياب بعض النقاط التي ركز عليها التقرير العربي وأفضل مثال المعلوماتية والانترنت. وقد أثير سؤال استغراب في مقابلة صحافية مع الدكتور فرجاني "الأهرام ويكلي" عن هذا الموضوع خصوصاً في ظل الأمية والفقر. ويتوافق هذا مع انحياز التقرير عموماً للعلوم الطبيعية والهندسية والتكنولوجية بطريقة تكاد تكون علموية ويرى فيها وسيلة لتجاوز - وربما القفز على - الواقع السيئ ويهمل المجالات الدراسية الأخرى التي تعاني الأمرين من أعداد بشرية لا حصر لها ومادة غثة ونظرة احتقار على رغم أنه لا بد أن يكون لها دور مهم في التنمية التي تتجاوز الأرقام الاقتصادية والا كيف كتبت هذه التقارير. وتنبه الى ذلك الكواكبي حين أعطى أهمية للتاريخ الطبيعي أي الفلسفة بمعناها القديم الشامل وليس مجرد حقل علمي.
نظرة أخرى متفائلة وهذه ليست فقط لا تتوافق مع تقرير الأمم المتحدة بل ربما تتعارض مع توجهها. فالتقرير ينظر الى كثرة عدد السكان بعدسات وردية، اذ تقول الدكتورة ريما خلف: "هذه الزيادة في عدد السكان قد تكون ميزة لو أحسن استخدامها" "الأهرام ويكلي". ولا تصل هذه الى دعوة لزيادة السكان على غرار ما فعل ستالين وماو، وفي عالمنا الكثير ومنهم جمال عبدالناصر. لكن من أين يتم توفير الموارد؟ هذا بالضبط ما ينتقده في شكل أعم مارك ليفين، اذ يقول ان التقرير لا يناقش كيفية توفير المبالغ المالية الضخمة المطلوبة للبرامج والسياسات التي يقترحها.
للتقرير ميزات بينة ومآخذ هي موضع نقاش ولعل ميزاته زادت من كثرة المدعين بأبوته وآخرهم - ولن يكون الأخير - حليم بركات الذي يذكر أنه كلف في السابق وأنجز تقارير مماثلة للأمم المتحدة لكنها لم تنشر ويلمح الى أن الظروف السياسية الراهنة هي التي سمحت بنشره في ظل الاستكانة المحلية والاستقواء الغربي "الحياة"، 25/8/2002. ونستشف من حديث بركات ومن كلام جلال أمين ادانة خفية للتقرير والقائمين عليه باعطاء تنازلات قومية بل وتفريط في الحقوق تحت وطأة هيمنة اقليمية ودولية. يغير الأفراد والدول بالطبع مبادئهم وتوجهاتهم لكن ليس في التقرير ما يعرضه للوصف بالخيانة واشراف الدكتور فرجاني عليه لم يقده الى ازالة مادة عن القدس لا يمكن تصنيفها كدراسة أو بحث على موقع "المشكاة" يتصدرها عنوان مقتبس من قصيدة لمظفر النواب: "القدس عروس عروبتكم". هل من مزايدة؟
قد يكون التقرير خمراً معتقاً سكب في قوارير جديدة، ولن يقلل هذا من قيمته ان لم يرفع من شأنه، لكن كون القائمين على ذلك والمناقشين مسنين يؤكد مشكلة أساسية هي تسلط وتحكم وحكم الكهلة geriatrocracy على جميع المستويات وبالتالي هذا الخمر منبوذ ليس فقط من قبل الحكام كما يشير بركات، لكن أيضاً من جيل البيبسي الذي لا يتذوق هذا النكتار والذي لم يشرك أساساً على رغم ثقله العددي الفائق في القرار أو في اعداد التقرير أو مناقشته.
* كاتب سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.