عاشت الجماهير العربية أجيالاً من الذل والقمع والاستبداد على أمل دولة الحرية والاشتراكية والعدالة، لتفيق بعد كل تلك المعاناة الطويلة والباهظة على ضياع، وتكتشف ان ما كانت تنتظره لم يكن سوى وهم تلبّس به أولئك الذين أمعنوا في إذلالها واغتصابها واهدار حقوقها، وان الرهان على تأجيل الديموقراطية باسم التنمية الاقتصادية والاجتماعية كان خاسراً. هذه المقولات التي سادت في مرحلة المد القومي في الستينات والسبعينات ظلت تتفاعل في الفكر العربي الى التسعينات على رغم كل النكسات والانهيارات التاريخية. ففي دراسات نقدية حول الخيار الديموقراطي 1994 يقول برهان غليون: "ليست المشكلة الكبرى التي يعانيها الوطن العربي هي مشكلة الحرية... ان المشكلة الاساسية الكبرى الآن، وستبقى لزمن طويل، عندنا كما في بقية بلدان العالم الثالث، هي مشكلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتأمين الغذاء والكساء والمسكن، أي العمل، لملايين الناس الذين ترميهم مجتمعاتنا كل يوم في الشوارع". لكن نهايات القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين أسقطت وتسقط مثل هذه التصورات. فلا التنمية الموعودة تحققت، ولا دولة العدالة والحرية والمساواة قيّض لها ان تبصر النور، ولا دحر الصهيونية الاستيطانية واقتلاعها من أرضنا بات من الممكن والمفكّر فيه، حتى ان سمير أمين ذهب في تعبيره عن المأزق العربي الراهن، الى حد القول: "إن العرب يدخلون القرن الحادي والعشرين بأضعف مما دخلوا القرن العشرين". ومما لا ريب فيه ان هذا التراجع التاريخي الذي عبّر عنه أمين، مرده في شكل أساسي، الى ان العرب طوال القرن العشرين لم يتمكنوا من بناء الانسان العربي المواطن الحر الفاعل، وإدراك الدور الذي يمكن ان يضطلع به هذا المواطن في النماء والارتقاء الاقتصادي والاجتماعي. ولعل هذا ما أدركه بعض متنوري النهضة العربية الذين قالوا بالانطلاق من الانسان الحر لبناء دولة النمو والرفاه والازدهار. فقد أورد عبدالرحمن الكواكبي صورة حية للترابط الجدلي بين الحرية والتنمية، اذ قال في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" 1902 "يعيش الانسان في ظل العدالة والحرية نشيطاً على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله... أما أسير الاستبداد فيعيش خاملاً خامداً ضائع القصد، حائراً لا يدري كيف يميت ساعاته ويدرج أيامه... وربما ظنّ السلب حقاً طبيعياً للأقوياء، فتمنّى لو كان منهم، ثم يعمل تارة ولكن من دون نشاط واتقان فيفشل ضرورة، ولا يدري ما السبب، فيغضب على ما يسميه سعداً أو حظاً أو طالعاً أو قدراً". المؤسف ان الأنظمة العربية التي رفعت على الدوام شعارات الحرية والديموقراطية والتنمية قفرت فوق هذه الحقيقة بالفصل بين التنمية والحرية، تارة باسم مقاومة الصهيونية، وطوراً باسم الوحدة، ومرات باسم الأمن القومي والاجتماعي، حتى جاءت نهايات القرن المنصرم لتؤكد عبثية هذا الفصل واستحالته. ويذكر تقرير التنمية البشرية للعام 2002 ان ثمة 65 مليون عربي راشد أميون، وان نصف الإناث العربيات يجهلن القراءة والكتابة. كما ينبه الى خطورة العجز في القدرات البشرية العربية وفي توظيف هذه القدرات، حيث يبقى الدخل العربي الاجمالي - 531 بليون دولار -أقل من دخل دولة أوروبية متوسطة الحجم مثل اسبانيا - 595 بليون دولار. يترافق هذا التخلف الاقتصادي والاجتماعي مع تخلف علمي وثقافي. فعلى رغم وجود 150 جامعة عربية وأكثر من ألف مركز أبحاث، يقرب معدل الابتكارات العلمية والثقافية الناتجة ذاتياً من الاقطار العربية من الصفر. وبحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2002 فإن عدد الكتب التي تترجمها إسبانيا سنوياً يعادل ما ترجم الى اللغة العربية خلال الألف سنة الماضية. سُجّل في موازاة هذا التخلف التنموي تردٍ فادح في الحريات والحقوق الانسانية الأساسية، السياسية والاجتماعية. فتقرير التنمية البشرية لعام 2002 يشير الى ان المنطقة العربية تعاني نقصاً في الحرية، حيث المشاركة الشعبية هزيلة والديموقراطية التمثيلية مغيّبة أو مقيّدة في أكثر الأحيان، والى ان العرب فشلوا في إقامة الدولة الحديثة، دولة القانون والمساواة والأمن الاجتماعي. ثمة استنتاجات أساسية يمكن استخلاصها على هامش التلازم بين تخلف التنمية وتعثر الديموقراطية السياسية والاجتماعية في العالم العربي: أ- ان العقل السياسي العربي، عقل النخبة الحاكمة لم يستوعب بعد ما كان الكواكبي قد نبّه اليه قبل قرن من دور الحرية وأثرها في البناء والتنمية، وما برح الى الآن يتعامل مع الجماهير باعتبارها رعايا لا مواطنين، وبالتالي لم يستوعب بعد مبدأ "الحق"، حق المواطن الذي هو أساس البناء والتنمية والتقدم. ولعل هذا بالذات ما أشار اليه تقرير التنمية للعام 2002، اذ رأى ان عدم وجود حكم ديموقراطي يشكل عتبة رئيسة في وجه النمو الاقتصادي، وان المنطقة العربية هي "أغنى مما هي متقدمة"، وأنه ما على هذه المنطقة فيما اذا أرادت التقدم الا ان تقيم الحكم على الشفافية. ب- اذاً العلاقة بين التخلف التنموي وتعثر التحوّل الديموقراطي في العالم العربي هي أكثر من علاقة تلازميّة، بل هي علاقة جدلية، الجانب الانساني المتمثل في الحريات السياسية والاجتماعية وحقوق الانسان، هو فيها الحاسم والفاعل. ففي تقدير المؤتمر القومي الحادي عشر ان هناك نصف مليون كفاية علمية عربية مهاجرة نتيجة الاحباط السياسي والاجتماعي وضيق الآفاق. كما ان تخلف التنمية الاقتصادية العربية إنما هو عائد في جانب منه الى تغييب المرأة عن المشاركة الفاعلة في التنمية. ج- ان نهوض العالم العربي منوط في نظرنا بفهم تلك العلاقة الجدلية، فيبادر الى الاعتراف بحقوق الانسان الأساسية، وتأصيلها في السلوك السياسي اليومي، ما يطلق طاقات الانسان العربي الابداعية والانتاجية ويحرره من أغلاله. من هنا تبدأ التنمية الحقيقية التي تحفزها إرادات الناس وكفاحهم الدؤوب وتضحياتهم المتواصلة، التنمية المؤهلة للاستدامة والتطور. اما تلك المبرمجة من فوق فمآلها المزيد من الاحباط. * كاتب لبناني.