لكل بلدٍ عربي خاصيته المميزة في التعبير عن البيئة المحلية، ونستطيع القول ان هناك رواية مصرية وهناك رواية جزائرية، وكذلك سورية أو لبنانية أو كويتية، لكن، هذا التنوّع يصب في المجرى العام للأدب العربي عموماً. فهناك في الأساس النبع، ثم تتفرع الأنهار والسواقي. كان لا بد من هذه المقدمة إزاء قراءة الرواية الجديدة "العصعص" للكاتبة الكويتية ليلى لعثمان، إذ بكثير من المداراة والذكاء تقدم قصة عائلة كويتية آباء وأبناء وأحفاداً. تشكيلة تكاد لا تؤكد ان القارئ أمام أجيال، بل أمام عائلة وأبوة وأمومة تستلهم فترة الخمسينات، ان لم تكن قبل ذلك بسنوات. تستخدم ليلى العثمان الكثير من الكلمات المحلية، والخليجية عموماً، تساعد في فهمها بهوامشها، وهي على كل حال ليست غريبة عن الإنسان العادي في أي بلد عربي آخر. صلبُ الرواية طفل، هوايته قطع أذناب البهائم من دون ان يرتدع، على رغم كل المحاولات لصرفه عن هذه العادة السيئة أو التخلي عنها، مما يسبب لأسرته مشكلات لا حصر لها خصوصاً مع امرأة فاتنة تتقن فنون السحر والغواية مع ابنتها وكلتاهما شرسة في التعدي و"السلبطة" والابتزاز في مختلف صورها. أدرجت الكاتبة روايتها تحت خمسة عناوين: ليلة الخوف، عائلة جاسم، عائلة معبوق، سلوم وفطوم، ليلة البحث. في هذه الأجزاء تتداخل الأحداث بين الماضي والحاضر وبأسلوب متوتر، يكاد المرء لا يلتقط فيه انفاسه، فهو يجد نفسه وكأن النص يلاحقه، يسبقه أحياناً فيركض خلفه، يتراجع فينتظره بقلق بالغ. وتتخلل ذلك قصة حب مذهلة وراقية بين الأب والأم والتي كانت، بذكاء المرأة الجميلة، تستخدم كل مواهبها الأنثوية لتردع الأب عن ضرب الأولاد وخصوصاً الطفل سالم سلوم الذي تبلغ به شيطنته الى التعدي على البهائم كأن يقطع أذنابها فيأتي أصحابها اليه أي الأب يشكون، وأحياناً تتوتر العلاقة بينهم الى حد الشجار، حتى قيل بعد ذلك ان الطفل ممسوس، وأن ثمة جنياً داخل فيه هو صاحب هذه الأعمال الشطانية، يحاول الأب، عبر الأطباء النفسانيين والسحرة والشيوخ وأصحاب الكرامات ان يخرجوا من صدر هذا الولد الجني الذي يسيطر على أعماله في كل شيء. ولا تعترض الكاتبة على هذه الخزعبلات، وتترك الأحداث تقدم التبرير تلو التبرير على أنها أشياء كان يؤمن فيها الناس في ذلك الوقت قبل ان ينتشر العلم والمعرفة في المجتمع. فإذا كانت قصة سالم هي مركز الرواية فهناك الأم، المركز الثاني الذي تلتف حوله الأحداث بين صعود وهبوط، إذ نرى فيها الأم الحقيقية، الفزعة دائماً على أبنائها الذين تحيطهم بحنان كبير، وتحول دونهم ودون غضب الأب، عند أول خطأ يرتكبه هذا الابن أو ذاك. واستطاعت ليلى العثمان هنا، أن تصوّر بدقة كبيرة مشاعر الأم وخوفها على أولادها في الداخل والخارج، وهي نذرت حياتها لهم من دون أي اهتمام بنفسها، بل كانت تكافئ الأب، كلما قدم لأحد أبنائها شيئاً بمزيد من الحب والعطف، وهو أسير جمالها ورائحة جسدها الأنثوي الذي يثير فيه الكمائن والمشاعر المضادة فلا يهدأ وجيبه الا بالاتصال الحميم. تبدأ الأحداث، أي تتمفصل بين الزوجة الأولى الغيورة التي لم تنجب لزوجها والزوجة الثاني التي أنجبت له ثلاثة أولاد، إذ تدب الغيرة في الزوجة الأولى الى حد وضع السم في طعام الثانية، واجهاضها بحملها، ثم محاولة قتلها وتنتهي بموتها هي "وعلى الباغي تدور الدوائر". وتنشأ عائلة الأبناء عائلة معيوف بعد رحيل الأبوين الابن "معيوف" يهتم بتجارة أبيه في الأخشاب، على رغم انه يصبح مدرساً لمادة الرياضة والابنة نورة التي تعلمت مهنة الخياطة أصبحت ترتزق منها، معيوف الذي أحب قصص الحب في السينما والكتب يشتهي لو يقع في قصة حب من هذا النوع. ويتحقق ما تمناه على يد أخته التي اختارت له احدى "زبوناتها"، لكن المفاجأة القبول بالأمر مقابل ان تتزوج الأخت من ابن زوج أمها، بما يشبه التبادل، لكن معيوف يرفض هذه الطريقة، ويتم ذلك من دون اي اشكالات. وثمة مشهد آخر يعتبر دخيلاً على الرواية، وليست له علاقة بها، هو مشهد العلاقة السريعة التي تنشأ بين معيوف وامرأة تستخدم فتنتها للحصول على مآربها. كتبت ليلى العثمان هذا المشهد على نحو مذهل من التوتر. يحضر طقوس العلاقة الجنسية العابرة بين رجل وامرأة التقيا لتوهما، ففي حين كان معيوف يشتهي هذه المرأة عبر صوتها كانت أمنيته أن يلتقي بها، وعندما تحقق له ذلك تحولت هذه الرغبة الى كراهية شديدة بعدما طلبت المرأة منه ان يفتح فمه ويغلق عينيه لتبصق في فمه بصقتها الكبيرة كانتقام من الرجال. هذا المشهد الذي بدا دخيلاً على الرواية، كان يمكن ان يكون موضوع رواية أخرى، في الزخم والتوتر نفسيهما ولكن حشره هنا أربك بعض نواحي السياق السردي في "العصعص"، علاوة على أن اقحام الكاتبة في بعض الأحيان خصوصاً في الليلة الأولى لدخول معيوف على عروسه، بنص كان يمكن الاستغناء عنه من دون أن يؤثر على سياق الرواية، مثل قولها: "يقولون انها "ليلة العمر" فلماذا؟ ولمن؟ هل لأنها ليلة الانتصار لبطولة الرجل وفحولته! أم لأنها ليلة الاختبار لسلامة الأنثى وبراءتها المشكوك فيها دائماً؟ ثم: "ليلة العمر وما أدراك ما ليلة العمر! هي ليلة التماع السكين للشاة المعدة للذبح، مطلوب منها ان تستكين لليّ العنق. وحز بابها المختوم بأغشيته، لا يهم السلخ بعد الذبح" ص127. وتستمر الرواية - على رغم ذلك - في تألقها وتوترها على ما يفعل سلوم بفطومة، وجز شعرها في النهاية، وتشويه وجهها انتقاماً من أمها التي حاولت التعدي على أبيه وأمه. يصبح الفصل الأخير من الرواية فصل سلوم وفطوم، البطلين الطفلين اللذين بهما تختتم الرواية على نحو يشبه الأسطورة. فاختفاء سلوم في النهاية يشكل المفصل المهم في تتابع الأحداث. ومقتل أبو الهوامش بتقطيع أعضائه الجنسية وترمى التهمة على سلوم، الذي طالما فعل ذلك ويصلب سلوم في بيت أبو الهوامش وتهرب فطوم وأمها من البلدة، لتطرح الكاتبة هنا تساؤلاً كبيراً... هل سلوم الطفل هو قاتل أبو الهوامش؟ وطبعاً يستحيل ان يقدر على ذلك. وتذهب الشكوك الى فرزانة الأم الشريرة التي كانت تكيل الصاع صاعين لكل معتدٍ على ابنتها. فقتلت أبو الهوامش ليظن الناس - بعد قطع أعضائه التناسلية - ان الفاعل هو سلوم، علماً ان سلوم ليس قادراً على ذلك. وينقذ سلوم في النهاية، وتترك الكاتبة القارئ عند "اشارة استفهام كبيرة" عن مصير الآخرين. لا أستطيع أن أقدم ملخصاً لهذا العمل الجيد الذي يثبت المرة تلو الأخرى، ان القارى أمام كاتبة موهوبة، قادرة على ان تنقل الجو المحلي الكويتي، قبل أن يتطور المجتمع الكويتي الى ما هو عليه اليوم. رواية تأخذ القارئ الى تلك الأجواء الحميمة التي لا تستطيع ان تصفها امرأة كما وصفتها ليلى العثمان بجرأة الكاتبة التي يهمها أولاً وأخيراً الفن والرواية بكل أبعادها، سلباً وايجاباً.