حين تُصدر روائية طبعة جديدة لرواية سابقة هل يحق لها تغيير الاسم؟ وما الذي يدعو كاتباً معيّناً الى تغيير اسم كتابه في طبعة جديدة؟ أليس اسم الكتاب كسائر أسماء العلم التي تلازم أصحابها، فيغدو الاسم علامة على المسمّى؟ هذه الاسئلة أثارتها رواية «حلم الليلة الأولى» للروائية الكويتية ليلى العثمان (دار الآداب، 2010)، فما ان تفتح الغلاف حتى تقرأ في الصفحة الأولى اسماً آخر للرواية هو «العصعص»، وهو الاسم الذي صدرت به للمرة الأولى في 2003، فتدرك أن الناشر والكاتبة اختارا اسماً آخر والارجح ان كلمة «العصعص» غير مستساغة لفظياً. والعصعص في اللغة هو أصل الذَّنب. وفي الرواية تتعدّد مدلولاته، وتتعدّى المدلول اللغوي الى ما عداه؛ فهو ذنب الحيوان، وعضو الأب، والتابع من الناس لمن هو أفضل منه أو أعلى رتبة، من أجل مصلحة أو مال أو لذة ... وتتجسد هذه المدلولات في شخصيات روائية معينة. بعيداً من سوء الظن والتساؤلات التي تثيرها التسمية، فإن المسمّى/ الرواية يتناول العلاقات في فضاء شعبي، في مدينة كويتية صغيرة، على المستويين العمودي والأفقي، ويرصد موقع الغرابة في الأطوار والمواقف والتصرّفات في شبكة العلاقات، ويبيّن بواسطة الأحداث أن الواقع الاجتماعي الطبيعي ينفي الغرابة ويعزل الشاذ غير المؤتلف مع طبيعة الفضاء الاجتماعي، ويقول ان الانتقام، عن حقٍّ أو غير حقٍّ، عاقبته وخيمة. تفعل الرواية ذلك كلّه، من خلال حكاية الصبي سلوم، ابن السنوات الست. وهي حكاية محورية في النص، تتموضع في شبكة من العلاقات الروائية، وتحفّ بها حكايات أخرى تطول أو تقصر، وتلعب دوراً ممهِّداً أو مواكباً أو مكمّلاً للحكاية الرئيسية. فسلوم هذا مولعٌ بهواية غريبة هي قطع عصاعص الحيوانات. من هذه الهواية الغريبة، تبدأ العثمان روايتها مثيرةً فضول القارئ. ويتغيّر هدف الهواية، في مرحلة لاحقة، لتغدو موجهة ضد البشر ممّن يشكّلون أذناباً لغيرهم، فيضرب سلوم زميل الدراسة راشد لأنه «صاير مثل العصعص لمدرّس الدين» (ص236)، ويكره مدرّس الدين لأنه «صاير مثل العصعص للناظر» (ص237). وتنحو هذه الهواية منحى ايجابياًّ حين يرفض الغشّ أياًّ كان مصدره ونوعه، لكنها تتمحور في النهاية حول فطوم وأمها فرزانة، لخروج الأولى عن القيم الأخلاقية والحاقها الأذى بأخته وضحة، ولتعاطي الثانية السحر والشعوذة وخروجها عن المواضعات الاجتماعية المختلفة. وكثيراً ما دفع سلوم أثماناً لممارسته هوايته بتمظهراتها المختلفة، وهي أثمان تبدأ بعقاب الأب، وتمرّ بحرق اليدين من قبل فرزانة، وتنتهي بحجزه وتقييده وكمّ فمه وضربه، ما كاد يودي به لو لم يتم تداركه وانقاذه في اللحظة المناسبة. هذا التمرد الصبياني، على اختلاف تمظهراته وتعبيراته، تختلف دوافعه النفسية والفكرية، بين تعبير وآخر. ولعل قيامه بقطع عصاعص الحيوانات في البداية هو شكل من أشكال قتل الأب بالمعنى النفسي؛ ذلك أنه تسلّل الى غرفة والديه، ذات ليلة، ورأى عضو والده فيما يمارس بعض التمارين وصرخ «أبوي طلع له عصعص» (ص65)، فتشكّلت لديه عقدة الذيول/ الأب، وراح يقطع عصاعص الحيوانات في نوع من القتل النفسي للأب الذي يشاركه في أمه. أمّا قيامه، في مرحلة لاحقة، بالتصدي لكلّ مظاهر النبوِّ عن الطبيعي وغير المألوف، المتمثّلة بتصرّفات الغشّاشين والأذناب لا سيّما فطوم وأمها فرزانة، فلعلّه ناجم عن رفض نفس - فكري لكل ما يخلّ بانتظام الأمور في اطارها الطبيعي. كل ما يخرج عن هذا الانتظام مآله الخروج منه بالاحتراق أو القتل أو الرحيل. هذا ما تقوله الرواية. فالنظام الطبيعي للعلاقات والأطر الاجتماعية يقطع «العصاعص» على أنواعها. لذلك، نرى أن عائشة زوجة جد سلوم التي كادت لضرّتها شمّة وأجهضتها مراراً ينتهي بها المطاف بالموت احتراقاً، وقمرية المرأة العاهرة التي تغوي الرجال وتهينهم يتم ترحيلها الى المكان الذي قدمت منه، وأبو هوّاش العجوز الأجرب يفتح فخذيه ويبرز عورته للمارّة ويموت، وفرزانة وابنتها فطوم تفرّان تحت جنح الظلام بعد تورّطهما في مقتل أبي هوّاش وتقييد سلوم، ممّا يمكن استنتاجه من سياق الأحداث. هكذا تقول الرواية أن الانتقام عاقبته وخيمة، وأن كل ما ينبو عن الوضع الطبيعي للأشياء والأحداث والعلاقات مآله الى القطع. في المقابل، تزخر الرواية بأنماط أخرى من العلاقات التي تندرج في سياق طبيعي، وتبرز قيم الاعتدال والتضامن الأسري والاجتماعي، فنقع في الرواية على حنوّ الأب، وأمومة الأم، وتضامن الاخوة والأخوات، ومحبة الأزواج، وتعاطف الجيران، ممّا نقع عليه في الفضاء الاجتماعي الطبيعي. في تظهير الحكاية، تستخدم ليلى العثمان خطاباً روائياًّ يقوم على كسر وحدة الراوي وكسر خطّيّة الزمن وتعدّد صيغ الكلام وتعدّد مستويات اللغة والمزاوجة بين السرد والحوار. ولكلٍّ من هذه المقوّمات وظيفتها في النص. حين تكسر وحدة الراوي تقوم بكسر احتكار الراوي العليم للمنظور الروائي، وتمنح شخصية الأب معيوف حضوراً مباشراً في الخطاب ينسجم مع حضوره الايجابي في الحكاية. وحين تكسر خطّيّة الزمن بالعودة الى الماضي البعيد (عائلة جاسم) والماضي القريب (عائلة معيوف) تقوم بإضاءة الخلفية التاريخية / الاجتماعية لعائلتي الجد والأب اللتين يتحدّر منهما سلوم، وتبرز خروجه على السياق التاريخي / الاجتماعي لعائلته بمعنييه السلبي (قطع عصاعص الحيوانات)، والايجابي (محاربته مظاهر الخروج على القيم والمواضعات). وحين تستخدم التكنية والتلميح للتعبير عن العلاقات الجنسية تنسجم بذلك مع هيئة اجتماعية تعتبر الخوض في هذه العلاقات نوعاً من المحرّم. أمّا حين تستخدم المحكيّة في الحوار، وتحشد كماًّ من الأمثال الشعبية في النص فتوحي بشعبيته وواقعيته.