مخرج الفيلم من الدانمارك. بطلته الأولى من ايسلندا، بطلته الثانية من فرنسا، موضوعه تدور احداثه في الولاياتالمتحدة، ويتحدث عن مهاجرة تشيكية. أما الجمهور الذي راح يصفق بحرارة فآت من مختلف أنحاء العالم. وحسب المرء أن يجلس في الصالة بين هذا الجمهور وأن يحصي اللغات المنطوقة في الآن نفسه، حتى يجد نفسه أمام نوع من العولمة يمكن أن نطلق عليه اسم "السينما في بداوتها الأصيلة". الفيلم الذي نتحدث عنه هنا هو "راقص في الظلام" آخر أفلام لارس فون تراير، وقد شكل واحدة من المفاجآت السعيدة القليلة في الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" السينمائي. ومذ قدم في عرضه الأول، أواسط أيام المهرجان، حقق اجماعاً عليه، هو الاجماع نفسه الذي كان حققه العام الماضي، وفي الدورة السابقة للمهرجان نفسه، فيلم "كل شيء عن أمي" للإسباني بيدرو ألمودافار. منذ لحظة عرضه الأولى قال كثيرون: إذاً ها هو الفيلم الذي يمكن أن يفوز بالسعفة الذهبية. الأصوات التي قالت غير هذا كانت قليلة العدد والشأن، ومعظمها تأثر بمقال تبين أنه مغرض نشره ناقد أميركي في مجلة "فارايتي" واعتذرت عنه المجلة الاميركية الكبيرة في اليوم التالي! لكن هذه تبقى حكاية ثانوية الأهمية على أي حال. الحكاية الرئيسية هنا هي البداوة الجديدة التي تعرفها وتعيشها السينما العالمية والتي أتى "راقص في الظلام" ليعبر عنها. وهنا نفتح هلالين لنشير الى أن الصحافيين العرب ترجموا عنوان الفيلم DANCER IN THE DARK تأنيثاً لا تذكيراً لاعتقادهم - الخاطئ - أن المعني بالرقص بطلة الفيلم التي ستصاب بالعمى التدريجي. ونقول الخاطئ لأن المعني بالعنوان هو القلب الذي يمكنه أن يرقص على رغم الظلام، خصوصاً أن بيورك بطلة الفيلم لا تتطلع الى أن تكون راقصة، بل مغنية! المهم، مرة أخرى، المهرجان نفسه وما أسفر عنه. وما كان فيه. وما كان فيه، هو في المقام الأول، غياب السينما الأميركية الكبيرة، وفي المقام الثاني حضور جيل من السينمائيين يمكن أن يطلق عليه اسم "ابناء كان". ومنهم، بالطبع، الدانماركي لارس فون تراير مخرج "راقص في الظلام" الذي يحضر "كان" مع فيلم له للمرة السادسة. صحيح انه يفوز للمرة الزولى بالسعفة الذهبية، لكنه سجل انتصارات عدة قبل الآن عبر افلام له مثل "تحطيم الأمواج" و"الحمقى" و"عناصر الجريمة" وخصوصاً "أوروبا" إذ نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة وشاركه فيها يومها المخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي. دورة كبيرة ولكن... إذاً بين غياب السينما الجماهيرية الأميركية وحضور "أبناء كان" دارت الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" السينمائي. وهي أتت كبيرة وأساسية من حيث نوعية الأفلام الأساسية التي عرضت فيها وتوزعها، وإن كان قسم من الجوائز الممنوحة عجز عن التعبير عن ذلك. ولعلها قسمة حق تلك التي شاءتها اللجنة التحكيمية بين ذوقها الفني والضرورات الديبلوماسية "المفروضة" على فرنسا البلد المضيف. الضرورات التي تجعلها تساير سينما ايرانية لم تكن هنا على أحسن ما يرام، أو السينما الفيليبينية عبر منح جائزة أفضل فيلم قصير لفيلم فيليبيني يصح عليه المثل القائل لا في العير ولا في النفير. واذا شئنا اليوم أن نقوم بجردة عامة للدورة الأخيرة، تكون على النحو الآتي: امضت الدورة في فرض ذلك التقسيم الحاد والمتجدد بين سينما للجماهير العريضة تنتجها الاستديوهات الاميركية التي باتت أكثر وأكثر استنكافاً عن خوض لعبة المهرجانات، وسينما أخرى فنية الطابع أو ذاتيته، تنتمي الى أمم وشعوب آتية من مختلف انحاء العالم، وتريد نخبتها التعبير عن نفسها أكثر وأكثر بعيداً من أساليب السينما الشعبية الاميركية، واستعراضيتها. في ظل هذا المناخ، بات من المشروع التساؤل ألم تكن السينما الآسيوية في مجملها، وفي اختلاف مصادرها، واحدة من السينمات الأكثر حضوراً في العالم، اذا استثنينا السينما الأميركية بالطبع؟ فهذه المرة من جديد بدا حضور سينما الصين واليابان وتايوان وحتى كوريا طاغياً متألقاً. بل كانت هناك أفلام مثل "واحد، اثنان" لادوارد لانغ لم يشاهدها المتفرجون لأسباب فولكلورية، ولأسباب تتعلق بالفضول والرغبة في خوض مغامرة تغريبية، بل لما فيها من مضامين انسانية شمولية تخاطب وعي المتفرج أيا تكن جنسيته ونزعاته. وفي هذا الاطار، أفلا يحق لنا أن نقول ان هذه السينما بأفلام من هذا النوع عرفت، من دون غيرها، كيف تستفيد من الدرس الأميركي حتى حدوده القصوى؟ فخصوصية الحياة في تايوان وما صور في فيلم "واحد، اثنان" من هذه الحياة، لم يمنع مخرج الفيلم من تقديم أمثولة، تتجاوز الاطار المحلي لتعطي السينما طابعها الشامل وبداوتها الزاهية، بعيداً من ضيق الأفق القومي، والأفق المسدود الذي يقيمه التعصب والانغلاق على الهوية. تمرد... تمرد في المقام الثالث، هناك الآن النزعة الجديدة التي تنحو الى التمرد على ما كان حتى الأمس القريب يعتبر من المسلمات، مثل محدودية الوقت السينمائي. فهنا، وللمرة الأولى ربما في تاريخ أي مهرجان، وصل المعدل الزمني لطول الأفلام الرئيسية الى نحو ساعتين ونصف الساعة، فيما وصل طول بعض الأفلام الى قرابة الأربع. وكان هذا طاغياً على معظم الأفلام، لكنه لم يسفر عن حال ملل إلا قليلاً. فهل معنى هذا ان تمرد السينمائيين على الحدود الزمنية التي ابتكرتها وحددتها السينما الاميركية، بحسها التجاري المرهف ذات يوم، صار في امكانه أن يتواكب مع تفهم الجمهور له؟ صحيح أن الجمهور الذي يشاهد العروض السينمائية الأكثر جدية، في "كان"، جمهور نخبوي بعد كل شيء. ولكن حتى هذا الجمهور النخبوي لم يكن ليستسيغ كثيراص، في الماضي، الخروج على القواعد الزمنية الذهبية. وما استساغته اليوم لهذا الخروج سوى تجديد يجب أن يؤخذ في الاعتبار. أمر آخر كشفت عنه هذه الدورة بقوة، بعدما ساد في المهرجانات والدورات السابقة كلها. ولكن ليس على مثل هذا الوضوح: هذا الأمر هو تحول المخرج نهائياً نجماً أساسياً في عالم السينما. صحيح أن أرصفة "كان" وفنادقها ومطاعمها وأروقة قصر المهرجان امتلأت بالنجوم "الحقيقيين"، وان تهليل ألوف الحضور وهتافهم تواكب دائماً مع ظهور ممثل كبير أو نجمة فاتنة، إلا أن الترحيب الأساسي والجدي كان وتفاعل مع أناس يحملون أسماء مثل لارس فون تراير وادوارد لانغ وجيمس ايفوري وجيمس غراي وسميرة ماخملباف لسبب قد يصعب أن نقول انه يتعلق بجمال فيلمها "اللوح الأسود" وروي اندرسون. في "كان" ومن جديد، وبقوة، أثبت المخرج انه سيد المكان من دون منازع، وهو أمر من الصعب القول انه يمكن التراجع عنه بعد الآن. الدور الفرنسي وإذ نقول بنجومية المخرج نعرج على ازدياد فنية العمل السينمائي. وهنا نعود مرة أخرى الى مسألة التقسيم الشهير بين سينما ناجحة جماهيرياً وتجارياً بالتالي هي السينما الأميركية ومن يقلدها في فرنسا أو غيرها، وسينما فنية تدافع عن شرف الفن السابع ومكانته وتاريخه. وبديهي هنا، أن هذه السينما الأخيرة على رغم ما تتمتع به من احترام وتقدير، لا تزال في حاجة الى أقصى درجات الدعم حتى تتوهج وتتألق. وهي قاعدة لا ينفيها ان يكون فيلم "كل شيء عن أمي" حقق في العام الفائت، نجاحاً تجارياً تواكب مع نجاحه الفني الرائع. إذ حتى هذا النجاح التجاري لا يحول دون حاجة ألمودافار الدائمة الى تمويل ودعم قبل أن يقدم على أي مغامرة جديدة. وهنا في هذا الإطار قد لا يكون من الصعب القول إن فرنسا هي الطرف الأكثر استعداداً وفي شكل دائم لتقديم ما يلزم من دعم. واذا تطلعنا الى العناوين والمقدمات في معظم الأفلام غير الأميركية المعروضة، سواء كانت يابانية أم من تايوان، من البرازيل أم من تونس أم من روسيا وغيرها، نلاحظ سريعاً وقوف فرنسا، بقوة، خلف معظم هذه المشاريع. فهل يمكن القول إن هذا الدعم يسفر، وسيسفر أكثر، عن نهضة سينمائية كبيرة على الصعيد العالمي، تقيم توازناً بين كثافة الحضور الأميركي وتطلعات النخب المثقفة والسينمائية في العالم أجمع؟ نشك في هذا كثيراً. إذ، وان تبدى الدعم الفرنسي - أو الأوروبي عموماً - فاعلاً بالنسبة الى بعض السينمات الراسخة والقوية والتي لا ينقصها كي توجد وتقنع إلا المال، فإن هذا الدعم يبدو غير فاعل على الاطلاق، خصوصاً بالنسبة الى بعض سينمات العالم الثالث، التي صار تحقيق معظمها بأموال - أو بمشاركة جزئية - فرنسية، أشبه بصفقات تسيء الى هذه السينمات أكثر مما تفيدها. وفي هذا الاطار قد يصح أن نلاحظ التراجع المفجع في الأفلام الآتية من هذه المناطق، سواء كانت ايرانية فازت ايران بثلاث جوائز لن يكون من التعسف، القول إنها ديبلوماسية تتعلق بالوضع في البلاد أكثر مما تتعلق بمستوى أفلام جعلتنا نتحسر بحزن على "باشو" و"لقطة مكبرة" و"البالون الأزرق" و"زينات"، أم برازيلية، إذ كانت عودة المخضرم روي غويرا أحد أقطاب "سينما نوفو" كارثة حقيقية، أم مكسيكية حيث قدم ارثورو ربشتاين الذي تألق في الماضي، أسوأ فيلم له حتى الآن. فهذا المخرج الذي لفت الأنظار في فيلم مأخوذ عن رواية نجيب محفوظ "بداية ونهاية" وفي فيلم "ملكة الليل"، بدا في فيلمه الجديد "هكذا هي الحياة" متهافتاً ساذجاً مدعياً، واللافت أنه نال من الدعم الفرنسي ما لم ينله أي فيلم له قبلاً. أين نحن في هذا كله؟ وهذا يقودنا بالطبع الى السينما العربية. فهذه السينما "لمعت" هذه المرة عبر غيابها، على رغم وجود فيلم تونسي من اخراج مفيدة تلاتلي في تظاهرة "نظرة ما" التي تعتبر ثاني أهم تظاهرات المهرجان. وأياً يكن الأمر، ففيلم تلاتلي وعنوانه "موسم الرجال" لم يستطع تعويض الغياب العربي اللافت. إذ تتراجع منه كثيراً، وكثيراً جداً، عن مستوى متميز كانت بلغته في فيلمها الأول "صمت القصور". صحيح أن الموضوع لا يزال هو نفسه اضطهاد الرجل للمرأة، وان الرجال لا يزالون اشراراً والنساء ضحايا، وصحيح أن اسلوب التلاتلي الاخراجي لا يزال هو نفسه خصوصاً بالنسبة الى لعبة العودة بالذاكرة الى الماضي، ولكن هنا يتضخم هذا كله الى مستوى مرضي، وتطغى الكليشيهات التي جعلت الفيلم أقرب الى شريط دعاية سياحية، وأبعد كثيراً عن الواقع الذي نعرف ان المرأة التونسية تعيشه. مثل هذا الفيلم يدفعنا الى التساؤل، حقاً، عما تريد مفيدة التلاتلي ان تقوله وتضيفه، والى التساؤل عن الفاعلية التي يتوخاها الأطراف الممولون للفيلم، دعماً ومساندة، من دعمه ومساندته؟ مفيدة التلاتلي تأتي في فيلمها الجديد "موسم الرجال" لتؤكد مقولة سبق للورانس الشهير أن أوردها في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" أن العرب أهل البدايات الجيدة والنهايات الأسوأ أو الأقل جودة. والآن، إذا نظرنا الى الأمر من زاوية ان لجنة الاختبار التي تولت مشاهدة أفلاماً عربية كثيرة رشحت للمشاركة في "كان"، لم تر سوى "موسم الرجال" جديراً أن يعرض في هذا المهرجان، يصبح التساؤل مشروعاً عن موت السينما العربية... المهرجانية على الأقل والتي كانت الى سنوات قليلة تعد بالكثير. ومع هذا فنحن نعرف أن أفلاماً عدة، من مصر وغيرها اقترحت على لجان الاختبار، بينها ما يفوق "موسم الرجال" جمالاً وقوة، أو على الأقل يقل عنه سذاجة وعادية. ومع هذا لم يتم اختيارها. وربما لأن "كان" إذ يكرم ويحيي القوي والجميل في سينمات العالم، يتراجع كثيراً حين يتعلق الأمر بالسينمات الصغيرة والمحلية. إذ هنا نراه ينحو، غالباً، الى أخذ مصالح فرنسا وأوروبا العليا في الاعتبار، لا جودة الأفلام نفسها. والسؤال: أفلن يكون في هذا قضاء على أحلام سينمائية قديمة، كان الدعم الفرنسي والأوروبي في الماضي مكنها من الوجود؟