صدرت حكاية انتوني غودبي جونسون 15 سنة عام 1993 في كتاب بعنوان "السدّان والمطرقة". حكاية تكشف عن قوة الحب التي استطاعت ان تشفي جراح طفولة دمرها الاعتداء الجنسي العنيف. طبع الكتاب خمس مرّات، وأصبح مرجعاً للمناضلين ضد الاعتداء الجنسي على القاصرين والعاملين في مكافحة الايدز، لكن، بعد صدوره بأسابيع قليلة، طرحت مجلة "نيوزويك" أسئلة مثيرة للشكوك حول شخصية الكاتب وصدقية الكتاب: هل كان توني وهماً أم حقيقة؟ وبعد ثماني سنوات ما زال السؤال مطروحاً، أذكاه أخيراً صدور رواية مستوحاة من حياة توني للروائي الأميركي أرمستيد موبان، مؤلف مسلسل روايات "قصص المدينة"، وأحد الذين "عرفوا" توني هاتفياً من دون ان يلقاه. ولد توني في مانهاتن، نيويورك، عام 1977 وحلم منذ صغره ان يلعب بيسبول مع فريق نيويورك يانكيز إلا ان حياته كما يصفها في "السدان والمطرقة" كانت جحيماً. فمنذ طفولته الباكرة تعرّض للاغتصاب ووجد نفسه أسير حلقة من ممارسي سفاح القربى ومعذبي الأطفال، ضمّت أمه وأباه وعدداً من رجال الشرطة، رفاق والده. لم يكن له سرير ينام عليه، ولا معطف يقيه غيلة البرد، ولا حتى فرشاة أسنان... حتى الأحلام الطبيعية كهدية عيد الميلاد لا وجود لها في ذاكرته. ولكن، لدى مطالعتنا كتاب توني لم نستطع اخفاء دهشتنا أمام أمور تأليفية لا يتمكّن منها عادة إلا من احترف الكتابة لفترة طويلة وتمرّس في مهنة تقديم النص للاستهلاك التجاري الواسع، ناهيك عن استعمال تقنية التشويق البنائي والتدوير الفني للحدث، هناك صلابة في التعبير ونفاذ معرفي الى شؤون اللغة ومؤثراتها، يستحيل ان يتمكن منها فتى في الخامسة عشرة تلقى تعليماً عشوائياً وعاش حياة مملوءة بالاضطهاد الجسدي والنفسي، مما يصفه الكتاب، بل يمكننا الجزم، بأقل ما يمكن من الريبة، ان توني - المشكوك أصلاً في وجوده - ما هو سوى "طبخة" لعلها تشكلت من مأساة شخص حقيقي ورغبة أشخاص آخرين عرفوا تلك المأساة وأرادوا بأي شكل ايصالها الى الرأي العام، لئلا نذكر الإفادة المادية في هذا المضمار. بحسب روايته كان توني في الحادية عشرة عندما حاول الانتحار، بعدما تعرّض لضرب مبرّح من والده، وبدل الذهاب الى المدرسة ذهب الى محطة قطارات الانفاق وكاد أن يرتمي أمام القطار لو لم ينقذه صديقه ديفيد، رفيق تشرّده ومغامراته الباكرة. في ذلك اليوم بدأ التحوّل في حياة توني إذ اتصل بإحدى المؤسسات الاجتماعية طلباً للمساعدة، فتحدث اليه مطولاً رجل أسود يدعى ايرني جونسون وأقنعه بالمجيء الى المركز. هناك تسلّمته مساعدة اجتماعية تدعى فيكي وحوّلته الى فريق طبّي فحصه وتبين انه، الى آثار الضرب والاعتداء الجنسي المتكرر، توجد 45 عظمة في جسمه تعرضت للكسر والتحمت بصورة ملتوية، وانه مصاب بالسفلس. أفضى توني لرجال الشرطة بكل ما في جعبته فقبضوا على والديه وأودعوهما السجن 25 سنة، كما جاء في الكتاب. إلا ان تحقيقاً ظهر عام 2001 في "نيويوركر" بقلم تيد فريند كشف عن عدم وجود أيّ أثر لفيكي أو جونسون أو حتى والدي توني، في السجن أو خارجه، بل كأن الجميع تبخّروا! وذهب فريند في تحقيقه الى عمق المسألة محاولاً العثور على شخص واحد يستطيع القول: انا رأيت توني رؤية العين. ذلك ان كل الذين تحمسوا لحكاية توني عرفوه هاتفياً فقط، خصوصاً أرمستد موبان الذي أمضى ساعات يحادثه من ولايتين مختلفتين فلما أراد ان يقابله بعدما "أصبحنا صديقين حميمين" بدأ التسويف والتأجيل يقلقانه حتى عاف المحاولة برمتها. في كتابه يقول توني انه أصيب بالايدز وبترت ساقه واستؤصلت احدى عينيه. مع ذلك استمر، وهو مصاب بالتهابات رئوية حادة، يقيم علاقات من سريره مع شخصيات بارزة حول الولاياتالمتحدة عبر الهاتف والبريد الالكتروني، يمازح الجميع ويراسلهم بلياقة وظرف. وذات مساء ربيعي من عام 1993 تلقى أرمستيد موبان مخابرة من فيكي قالت فيها ان توني يحتضر. "كان صوتها شديد الاضطراب وقالت ان توني ربما راحل قبل الفجر. ثم جاء صوت توني ضئيلاً، يتنفس بعسر كبير. "خيّل إليّ ان ذلك الفتى سيموت وأنا أحادثه. وبالفعل تطرّقنا الى الموت في تلك المكالمة، حاولت التخفيف عنه فأخبرته ان حفّار القبور كان يرتدي "تي شيرت" كتب عليها "فيرجينيا للعشاق فقط" خلال دفن والدتي. تسلّينا وفي نهاية المكالمة قلت له انني أحبه وشعرت بالرضى يغمرني لأنني جعلته يضحك ويشعر بفارق ايجابي تلك الليلة". الفارق الكبير ان توني لم يمت تلك الليلة ولا في السنوات الأربع اللاحقة. كل ما حصل ان الشكوك حول حقيقة الفتى - اللغز دفعت بصحافيين آخرين لطرح القضية مما أدى بطبيعة الحال الى نفاد طبعات الكتاب الواحدة بعد الأخرى وقيام احدى صحافيات "الاسوشييتدبريس" بنشر تحقيق غير مقنع قالت فيه انها رأت توني شخصياً "كان وجهه متورماً، ويرتدي نظارتين سوداوين ويعتمر قبعة "بيسبول" ويبدو انه مبتور الساق، وكان صوته مطابقاً للصوت الذي سمعته على الهاتف". الا ان الصحافية المذكورة اعترفت لاحقاً ان من رأته كان يمكن ان يكون أي فتى وانها لم تسمع منه سوى بضع كلمات بلا أهمية تذكر. الضجة التي تنامت حول لغز توني استثمرت نقاط ضعف بارزة في المجتمع الأميركي: الايدز، الاعتداء على قاصر، سفاح القربى، كفاح الضعيف حيال قوى الشر الطاغية، وبالطبع الكتاب الذي يضمّ الحكاية المؤثرة بين دفتيه ويحمل قوة الكلمة المطبوعة. أما النص بحدّ ذاته فيحمل كل مؤثرات الجذب الجماهيري اضافة الى حرفة روائية متقدمة تحسن الامساك بانتباه القارئ وتولم له مما هو رائج من فكاهة وميلودراما على وتيرة ال"بيست سيلر"، مع ذلك لا يمكن ان تكون القصة كلها، ملفقة لأن أشخاصاً حياديين مثل كاهن الرعية جزموا بأنهم شاهدوا توني بأم العين، لذا فالأقرب الى الواقع ان شراكة تشكلت حول مأساة توني وحوّلتها الى سلعة رائجة ذات نكهة أميركية بامتياز.