كل ما نكتبه كُتِب من قبل. روبرت لويس ستيفنسون 1850 - 1894 أدرك هذه الحقيقة البسيطة بينما يؤلف "جزيرة الكنز" 1883. حكاية الكنز المدفون في جزيرة وسط البحر، والصراع من أجل الوصول اليه، هي في العمق إحدى أقدم الاستعارات لحياة الإنسان. منذ رحيل يعقوب الى أرض أخواله في "العهد القديم"، وحتى رحلات السندباد في "ألف ليلة وليلة". تعود أقدم مخطوطات "ألف ليلة وليلة" الى القرن الخامس عشر للميلاد، وتتألف من 270 ليلة. الكتاب يُعرف في الغرب باسم "الليالي العربية" بحسب ترجمته الفرنسية الصادرة في 12 مجلداً - بين 1707 و1717 - بتوقيع غالان. وستيفنسون قرأ هذه الترجمة في شبابه، كما قرأ أيضاً مختارات لإدوارد وليام لين نشرت بالإنكليزية في 1841 متضمنة "رحلات السندباد". لماذا يعود الكاتب الى القَصَص القديم لتأليف رواية جديدة؟ فرانز كافكا 1883 - 1924، احدى الشخصيات الأكثر سوداوية في تاريخ الأدب، استعاد في روايته القصيرة "التحول" 1915 حكاية الأخوين غريم Grimm الشهيرة عن "الأمير الضفدع" نشراها ضمن سلسلة حكايات الفولكلور الألماني والأوروبي التي جمعاها - في انجاز قلّ نظيره - خلال العقد الثاني من القرن التاسع عشر. حكاية الأميرة التي تغرق طابتها الذهبية في البحيرة، وتقبل شرط الضفدع بالأكل من صحنها والنوم في فراشها في مقابل أن يستعيد لها الطابة، تنتهي بتحول الضفدع الى أمير: فالضفدع ليس ضفدعاً في الحقيقة بل هو أمير واقع تحت سحر لن يخلصه من طلسمه غير قبلة أميرة. على رغم ان الحكاية الواردة في "غريم" مختلفة بعض الشيء: بدلاً من أن تقبل الأميرة ضفدعها ترميه على الحائط فيتحول أميراً!. في "دليل أوكسفورد الى الحكايات الخرافية" مطبعة جامعة أوكسفورد، 2000 نقع على التحليل التالي: بغية تصوير غربة الإنسان الحديث يعمد كافكا الى استعارة جو المنامات الذي يسيطر على عالم الحكايات الخُرافية، ثم يفاجئ القارئ بعكس الخط السردي المنتظر نحو اتجاه غير متوقع. هكذا نجد ان البطل في "القلعة" 1926 المنشورة بعد وفاة كافكا، لا يستطيع أن يقلد أبطال الحكايات الخرافية فيتمكن من قطع المسافة من القرية الى القلعة. يمنع كافكا عن بطله هذه النهاية السعيدة ويتركه معلقاً في متاهة زينون الإيلي: كي تقطع المسافة من النقطة "أ" الى النقطة "ب" عليك أولاً قطع المسافة من "أ" الى "ج" على اعتبار "ج" هي النقطة الوسط بين "أ" و"ب". لكن كي تقطع المسافة من "أ" الى "ج" عليك أولاً قطع المسافة من "أ" الى "د" على اعتبار "د" هي النقطة الوسط بين "أ" و"ج". وهكذا دواليك الى ما لا نهاية. فلا تصل الى "ب" أبداً ولا تبلغ "القلعة". في "التحول" 1915، التي كتبها كافكا خلال أسبوع واحد من حمى الكتابة، يتحول رجل الى حشرة. القصة تبدأ في فراش الرجل. يستيقظ من منام مزعج فينتبه الى جسمه الجديد الغريب. هذا الرعب جعل طبيباً نفسياً وهو أحد أوائل نقاد هذه القصة، واسمه الكامل وارد في احدى رسائل كافكا الى ماكس برود صديقه ومحرر يومياته ومؤلفاته يتنبه الى كآبة مرضية تتكرر بصورة واحدة ليس عند مؤلف القصة فحسب بل عند معظم المرضى النفسيين! يحلم الواحد من هؤلاء أنه تحول الى بقّة أو فراشة هامدة!، "دليل أوكسفورد" لا يذكر تحليلات هذا الطبيب ويفضل المقابلة بين "التحول" وقصة "الأمير الضفدع". يُعطى الضفدع نهاية سعيدة فيسترجع شكله البشري. ذلك انه عاش في زمان ومكان خرافيين. القصة في كتاب الأخوين Grimm تجد جذورها في قصص شائعة في أوروبا منذ القرن الخامس عشر. وهي تشبه الى حد بعيد قصة "الجميلة والوحش" التي تظهر مكتوبة لأول مرة - وبشكل بدائي - في القرن الثاني للميلاد، وباللغة اللاتينية، تحت عنوان: الفتاة التي تزوجت ثعباناً. أما بطل كافكا فينتهي ميتاً في غرفته، مع تفاحة مهترئة عالقة بظهره: ظهر الحشرة الفظيعة! وإذا كان "دليل أوكسفورد" يمتنع - لأسباب غير مفهومة - عن الرجوع الى أوفيد القرن الأول قبل الميلاد أيضاً، والى "تحولاته"، فإن تحليله السريع - لكن الدقيق - للعلاقة بين كافكا وأدب أسلافه الأخوان غريم أكانيان الخيالي، لا بد من أن يذكرنا بالاكتشاف اللامع الذي توصل اليه الإيطالي ايتالو كالفينو 1923 - 1985 في مقالة نشرها عام 1955. كتب كالفينو ان جميع الحكايات الخرافية، كل القصص القديمة، تنطلق من حكايتين وحسب: الطفل المتروك في الغابات، والفارس الذي يتوجب عليه البقاء على قيد الحياة مواجهاً الوحوش والسحر. كتب كالفينو ان الانسان لم يخترع قصصاً أخرى غير هاتين القصتين. الغريب في اقتراح كالفينو أنه يصيب ويخطئ الهدف في آنٍ معاً. لننتبه مثلاً الى التشابه بين القصتين. أليست حكاية الطفل المتروك في الغابة شكلاً آخر لقصة الفارس الذي يتوجب عليه البقاء على قيد الحياة مواجهاً الوحوش والصعاب؟. هكذا يمكننا القول ان "جزيرة الكنز" تجمع القصتين في كتاب واحد. بينما "الدكتور جاكل ومستر هايد" 1886 تعتمد على القصة الثانية جوهرياً، وان انتهى الدكتور هنري جاكل الى نهاية سيئة. لا ينجو من غابة الكيمياء، التي هي الطبيعة البشرية، فيسقط ميتاً أمام تناقضاته. يعزز هذا الاستنتاج أسلوب ستيفنسون في الكتابة. الفصول العشرة التي تُكوّن روايته عن انقسام الرجل الى نصفين، خير وشرير، تعج بمشاهد لندن الخرافية التي هي "حقل أضواء في الليل" و"متاهة تشبه الغابة" في آنٍ معاً. انظر ما كتبه سير ماكولاي في طبعة البريتانيكا العاشرة عن حياة الدكتور جونسون - مؤلف "القاموس" - في هذه المدينة الخيالية. تختلط لندن في رأس المحامي، صديق هنري جاكل، بمنامات يراها ليلاً بينما يتقلب على سريره الكبير بحيث يخشى القارئ أن يتحول الرجل فجأة أسير قرية قريبة من قلعة غامضة، أو حتى أن يتحول مسخاً، كذلك المسخ - مستر هايد - الذي يطوف في أرض مناماته! نحن على الحدود بين عالم كافكا وعالم ستيفنسون. عالمان يستمدان مادتهما الخام من عالم الحكايات الخرافية. الأول، مدفوعاً بحياة من الوحدة الصلبة شبه الكاملة، يختار مضاعفة التراجيديا بتحويل المنامات الى كوابيس. الثاني، الذي عثر على حبيبة في غابات فونتانبلو الفرنسية ومن أجل ابنها الصغير رسم خريطة جزيرة الكنز التي أعطته فكرة كتابه، اختار بالمقابل نفي قتامة التراجيديا عن حكاياته بالتصوير المشهدي والغنائي أيضاً كما في الصور المتلاحقة التي تفتتح "جزيرة الكنز" أو "دكتور جاكل ومستر هايد"، وبالحوار البسيط الذي يحوّل العالم والحياة رحلة حرية تبدو كأنها بلا نهاية. قارن العالم المفتوح عند ستيفنسون بالعالم الموصد عند كافكا. كالفينو أقرب الى ستيفنسون منه الى كافكا. نرى خفّة ستيفنسون الجذابة في "الفيسكونت المشطور" 1952، في مضمون القصة الرجل الذي ينقسم الى اثنين، كما في مشهديتها، وإذا كان كالفينو يختار في رواية قصيرة أخرى، مثل "الفارس غير الموجود" 1959، ان يمضي بحكاياته نحو خُرافة تقارب الأمثولة Fable، فهو يفعل هذا بإحساس لُعَبي يمنع عن حكايته تهمة "الدرس الأخلاقي". ذلك ان كالفينو يبقى على الدوام أميناً لعالم الحكايات الخرافية الذي يصدر عنه. لنتذكرْ كتاب "الحكايات الخرافية الإيطالية" الذي جمعه ونشره عام 1956، مقلداً ما فعله الأخوان غريم قبل قرن ونصف القرن في المانيا. تختلف قوانين الحكاية الخرافية عن قوانين الرواية الواقعية. لا يُسمح لإمرأة أن تطير وتختفي بين الغيوم فيما تُعلق شراشف بيضاً على حبل غسيل إذا كانت شخصية في رواية واقعية. أما في الحكاية الخُرافية فإن امرأة جميلة من هذا الطراز تستطيع بكل بساطة أن تفرد ذراعيها وتتحول الى بجعة بلون الثلج. استطاع غابرييل غارسيا ماركيز في "مئة عام من العزلة" 1967 أن يحرر شخصياته وحبكاته من أسر العالم الواقعي عبر الخدع والتقنيات القديمة ذاتها التي سمحت للويس كارول أو الكاهن - الرياضي تشارلز دوغسون بإرسال أليس الى بلاد العجائب في عام 1865. على الكاتب أن يحكي ما يريد - حتى الأكاذيب - ببساطة ومن دون أن يرف له جفن. بعد "مجزرة الموز" التي ذهب ضحيتها ثلاثة آلاف عامل، تتساقط الأمطار على ماكوندو طوال أربع سنوات و11 شهراً ويومين. حكاية ماكوندو التي يغسلها الطوفان، وفي مرة أخرى يجتاحها طاعون النسيان، لا تحيل على حكايات "العهد القديم" فقط ما فعله الربّ بفرعون قبيل "الخروج" وانما تحيل أيضاً على حكاية "الجميلة النائمة": تهوي الجميلة الى نومها المسحور فتنام معها مملكة بكاملها، ويغطي العشب والشوك كل الأبنية البيوت والقصور والاسطبلات. المملكة النائمة صورة قديمة لماكوندو خُرافية تحت المطر، وماركيز المعجب بحكاية "الجميلة النائمة" اختار لاحقاً أن يكتب تنويعاً آخر عليها في قصة هي مقدمة لإحدى ترجمات رواية "الجميلات النائمات" للياباني كاواباتا 1899 - 1972. "دليل أوكسفورد" مثل موسوعة أميركية صدرت قبل سنتين بعنوان Folklore and Fiction، لا يأتي على ذكر ياسوناري كاواباتا ولا على ذكر كوبو آبي صاحب "امرأة الرمال" حيث تمتزج الحكاية الخرافية بأدب الخيال العلمي ولا على ذكر معاصرنا الغريب هاروكي موراكامي. عذر "دليل أوكسفورد" أنه يختص بالآداب الغربية. هذا يسمح له بتجاوز اليابانيين والأتراك كأورهان باموك أيضاً. لكن كيف يتجاوز "دليلٌ غربي"، ألمانياً مثل باتريك ساسكند هو وريث كافكا والأخوين غريم معاً، أو هولندياً - يجد في الحكايات الخُرافية نقطة الانطلاق لمعظم رواياته - هو سيز نوتنبوم صاحب "في الجبال الهولندية"، و"الحكاية التالية"، و"فيليب والآخرون"؟ يركز "الدليل" في المقابل على أميركيين مثل جون بارت أو روبرت كوفر. يمزج موراكامي في "نهاية العالم وبلاد العجائب" 1985، عناصر "أليس في بلاد العجائب" الخُرافية والتي تعتبر مقدمة لأدب ما بعد الحداثة على رغم صدورها عام 1865 في انكلترا الفيكتورية، بأسطورة شرقية ولكن غربية أيضاً بدليل وجودها في تاريخ بيلينوس الكبير Pliny حول "وحيد القرن"، ذلك الحيوان الخيالي الباهر الجمال. وإذا كانت قوانين الحكاية الخرافية تحكمت قبل ذلك بعالم رواية موراكامي الثالثة "المطاردة البرية للخروف" 1981 فإن ذلك حدث على نحو يذكر بكافكا وستيفنسون وآرثر كونان دويل في آن معاً. يكتب موراكامي رواية واقعية وخيالية في اللحظة ذاتها. لكنه يميل على الدوام وبعكس ما نقرأ على غلافات رواياته المترجمة الى الانكليزية الى "الفرح" عند ستيفنسون، لا الى "الألم" عند كافكا، وان أتت خاتمة "المطاردة البرية للخروف" جولة بكاء قرب شاطئ يتلاشى لمصلحة زحف الإسمنت. من حسن حظنا ان الحياة ليست رواية لكافكا، ومن سوء الحظ ان حياتنا ليست حكاية في كتاب الأخوين غريم. ما يصنعه موراكامي برواية القرن العشرين يشبه أيضاً ما يصنعه ساسكند. فهذا الألماني المشبع - وراثياً - بالأدب الخيالي يعرف سحر الأرقام انظر الأرقام عند ماركيز أيضاً، كما يعرف سحر مجابهة بين شخصياته والعوالم المحيطة بها. الطفل الضائع في غابة كما انتبه كالفينو يشكل جوهر كل حكاية يكتبها ساسكند. من "عطر" 1985، الى "حمامة" 1987، الى "حكاية السيد سومر" 1992، أظهر ساسكند نفسه بارعاً في اعادة انتاج "الأسلوب التوراتي" حيث تبطش قدرة لا تقاوم بأبطال ملعونين ممتزجاً بالتحليل النفسي الساخر. أغوتا كريستوف - المجرية التي تكتب بالفرنسية - استطاعت في روايتها الأولى "الدفتر الكبير" الصادرة عام 1986 ان تفعل شيئاً مشابهاً، لكن مع طغيان للعنصر المسرحي الحواري على جو الكتاب. وصفها الممتع للزراعة وتربية الدواجن وتحضير مؤن الشتاء يستعير تأثيره العميق من الحكايات الخُرافية. هانزل وغريتل مثلاً. وربما ذكرنا هذا بتلك الرواية لماركيز عن فتاة يستمر شعرها بالنمو بعد الموت: ألا تشبه رابونزل - ذات الشعر الأشقر الطويل والصوت الناعم - سجينة البرج في كتاب الأخوين غريم؟. نستطيع هنا ان نقلد كارل بايدكر منتجين كاتالوجات كتلك التي صنعها لمحبي السياحة عند أواسط القرن التاسع عشر. من نسمي؟ بولغاكوف في "المعلم ومرغريتا" التي أقسم ماركيز أنه قرأها بعد كتابة "مئة عام من العزلة" وليس قبل ذلك!. أم غونتر غراس في The Flounder الصادرة عام 1977، حيث نقرأ نسخة حديثة ومزعجة من حكاية "الصياد وزوجته" في كتاب الأخوين Grimm، هذه الرواية التي تمزج الهموم النسوية بتاريخ الطبخ من دون أن تمتعنا فعلاً. أم سلمان رشدي في "أطفال منتصف الليل" 1981 وفي "هارون وبحر القصص" 1990 أم غاردر النروجي في "لغز لعبة السوليتير" التي تستعير من دون خجل شخصيات لويس كارول. أم كويلهو البرازيلي في "الخيميائي" التي تروي حكاية من "ألف ليلة وليلة". أم بيتر هويغ في "تاريخ الأحلام الدانماركية". أم بيناك الفرنسي في "سادتي الأولاد" وفيها مقاطع مقتبسة من "دكتور جاكل ومستر هايد". أم ه.ج. ويلز 1866 - 1946 في "آلة الزمن" 1895 وفي "الرجل الخفي" 1897 وفي "سيدة البحر" 1902. أم معاصرنا الإيطالي باريكو في روايته الصغيرة "حرير". أم التركي أورهان باموك في "الكتاب الأسود" 1990 حيث نرى حكايات الصوفي جلال الدين الرومي تتحول أمام أعيننا الى قصص حديثة ساحرة. انظر مثلاً حكاية التنافس بين رجلين على إعداد أجمل لوحة لإسطنبول: يرسمان على جدارين متقابلين مع عازل قماشي يفصل بينهما. يُنزع العازل فنرى رسماً متقناً على الجدار الأول وحين نلتفت نحو الجدار الآخر نرى مرآة كبيرة تعكس الرسم على الجدار الأول أجمل مما هو بدرجات!. الحكاية الخُرافية هي حكاية مغامرات أولاً وأخيراً. الأساسي هنا هو الحبكة. هذا ما جعل بورخيس 1899 - 1986 يفضل دوماً القصص القصيرة على الروايات. كي تقدم حبكة متينة تحتاج الى بداية ووسط ونهاية، ولإنجاز هذا بصورة مؤثرة عليك بالإيجاز. بدل أن تكتب "موبي ديك" 1850 في مجلد ضخم عنوانه "الحوت" يمكنك ايجاز الرواية في صفحة أو سطرين كما يحدث في ختام قصة "التحدي" لبورخيس. فعل هذا أيضاً في "مقاربة للمعتصم" عام 1935 حين اخترع رواية وهمية ثم قدّم مراجعة نقدية لها. فكل الخدع مسموحة. شرط أن تُقنع القصة القارئ بحقيقتها الفنية الخاصة. تستمد الحكايات الخُرافية قوّتها من قدرة الإنسان على الحُلم. طاقة الخيال هي العبارة - المفتاح. ثمة صور خيالية ترافقنا منذ زمن موغل في القدم. صورة حورية البحر مثلاً. في ملاحم شمال أوروبا كما في كتب عجائب عربية من القرن الثالث عشر للميلاد أو صورة التنين في أوروبا القرون الأولى للميلاد أو في الصين القديمة المعزولة وراء السور العظيم. أو - لنتذكرْ كالفينو - صورة الفتى الضائع في الغابات. كأنها صورٌ تولد معنا! هذا يجعل التأليف الروائي اعادة انتاج لعلاقات وأشكال جديدة تجمع هذه الصور الى بعضها البعض كما الى شخصيات - وأزمنة وأمكنة - مختلفة. كارلايل اكتشف هذا عند انتصاف القرن التاسع عشر قاعداً في غرفة مبطنة بالفلين. بعد عقود اكتشف بروست الحقيقة ذاتها، وفي "غرفة فلين" أيضاً. استعاد بروست الصور من زمن الشباب والطفولة فكان يحولها الى خيالٍ بينما يتذكرها. لكن الكاتب الفرنسي امتنع عن دخول قلعة الحكايات الخُرافية كان الرجل أسير ذكرياته. وهذا يجعله - هو نفسه - بطل حكاية خُرافية تنتمي الى زمننا الحديث: يستطيع الواحد منا أن يضيع في "غرفة فلين"، بدلاً من الضياع في غابة. كتب ستيفنسون في احدى مقالاته ان الدم الذي يجري في شرايينه هو الدم نفسه الذي جرى من قبل في شرايين أسلافه. هذا الاكتشاف كان يدفعه الى اغماض عينيه، جالساً في الليل، ملتفاً ببطانية، ودخان أزرق يتصاعد من غليونه. ماذا كان يفكر في تلك اللحظات؟ ماذا كان يحسّ؟ ألم يكن يكرر في خياله في خيالنا عيش حياة سابقة، حياة أسلافه؟ وإذا كنا نكرر عيش حياة الأسلاف، فكيف لا نعيد تأليف حكاياتهم الخُرافية؟ * كاتب لبناني.