في روايتها السادسة «سفاح القربى» أطلقت الكاتبة الفرنسية كريستين أنغو قنبلتها الأدبية الأولى. كان صوتها مدوياً إلى حدّ أنها هزّت الوسطين الأدبي والإعلامي في فرنسا، وحظيت من ثمّ برواج في العالم فتسابقت الدور على ترجمتها. في تلك الرواية التي صدرت عام 1999، أسدلت أنغو الستار على قضية كان محكوماً عليها أن تبقى سجينة العتمة والظلام. «الشذوذ العائلي»، هذه الحقيقة التي نرفض تصديقها في كثير من الأحيان، تجلّت في روايتها «سفاح القربى» (دار ستوك) كواقع مؤلم عايشته الكاتبة نفسها، في مراهقتها، بعد عودة والدها الذي هجر منزله الزوجي من قبل أن تولد. وبعد ثلاثة عشر عاماً على صدور «سفاح القربى»، تعود أنغو إلى هذه القضية في رواية جديدة صدرت تزامناً مع الموسم الأدبي الجديد لتحتلّ مكانها بين الأعمال الأكثر مبيعاً. وربما يكون اعتبار الصحافة الفرنسية هذا العمل امتداداً لروايتها الأشهر «سفاح القربى»، لعب دوره في حضّ القرّاء على التهافت لشراء الرواية. الكاتبة اختارت إعادة النبش في ذاكرتها المتخمة بمشاهد تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، فتوقفت عند أسبوع واحد شكّل زمن الرواية وأحداثها. «أسبوع عطلة» هو عنوان الرواية الصادرة عن دار «فلاماريون»، وزمنها السردي أيضاً. فيها تقتفي الكاتبة تفاصيل العلاقة التي جمعتها بوالدها على مدى عامين بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة من عمرها، وذلك من خلال أسبوع من أسابيع العطلة التي كانت تمضيها برفقته. تُفتتح الرواية على مشهد حسّي يجمع بين رجل وامرأة. لا أسماء ولا صفات ولا أية دلالات تُعرّف بهما. فقط وصف دقيق للعلاقة الجسدية التي تجمعهما. الصور الحسيّة تتوالد واحدة تلو الأخرى، من مطلع الرواية وحتى نهايتها. الأمر الذي دفع بعضهم إلى اعتبار الرواية «بورنوغرافية»، إلّا أنّ افتقار المشاهد إلى الحالات العاطفية والانفعالية تجعلها غير متقاطعة ومفهوم «البورنوغرافيا» أو حتى «الإروسية». بل هي تتميز ب «سمة عيادية» نتجت عن تصوير «علمي» لعلاقة غرامية يبدو فيها الرجل هو المسيطر، بدليل تكرار عبارتي «يطلب منها» و«يقول لها» ما يزيد عن سبع مرّات في الصفحات الأولى فقط. أما حضور المرأة فغير واضح في النص إلّا من خلال نظرة الرجل إليها. العلاقة الجسدية هي الجوهر الذي رصدته أنغو في روايتها القصيرة (130 صفحة)، وكل ما يدور خارج هذه العلاقة وضعته على الهامش. فنجحت في أن «تقول» أكثر مما «تروي»، واستطاعت بفجاجة العبارات التي استخدمتها ومباشرة المشاهد التي صورتها أن تكشف قسوة الحالة التي يُمكن اللغة أن تُجمّلها أحياناً. ضمير الغائب على خلاف «سفاح القربى» ورواياتها الأخرى، اختارت أنغو تجاهل ضمير المتكلم «أنا» وكتابة روايتها بضمير الغائب. وربما يكون اختيارها جاء بقصد إبعاد شبهة السيرة الذاتية عن هذا العمل. ففي «سفاح القربى» اختلطت «أنا» الراوية و«أنا» الكاتبة إلى حدّ ضاعت فيه هوية العمل بين كونه رواية أو سيرة ذاتية. وهذا ما يكرّس رأي المختص في أدب السيرة فيليب لوجون الذي يقول إن مصطلح «سيرة ذاتية» يُخيف بعض الأدباء لأنه قد ينزع صفة الفن والإبداع عن عملهم، وكريستين أنغو هي كاتبة مقتدرة تعرف كيف تعرض أحياناً سيرة حياتها بطريقة مباشرة، لكنها في الوقت نفسه تعترض على فرضية انتماء عملها إلى جنس السيرة. علاوة على ذلك، يُمكن اعتمادُ السرد لضمير الغائب أن يُبرّر وجود الراوي العليم الذي يُقدّم الحدّ الأقصى من المعرفة. إلّا أنّ هذا الراوي يُمسك عن تقديم بعض المعلومات الأساسية بغية مفاجأة القارئ في مرحلة متقدّمة من السرد. وتُسمى هذه التقنية Paralipse أو كتم المعلومة التي يغفل عنها الراوي وإنما من دون نية التخلّي النهائي عنها. هكذا يتكتّم الراوي في «أسبوع عطلة» عن كشف هوية بطلي العمل وعن الصلة التي تجمعهما حتى النصف الأخير من الرواية (ص 90) ليصدم القارئ بنقل عبارة الرجل: «قولي. قولي لي. هذا جيّد بابا». أما زمن الحدث فلا يتكشّف إلّا من خلال أخبار جريدة «لوموند» التي يقرأها الوالد المختص في اللسانيات كل صباح: «إميل أجار يفوز بجائزة غونكور»، «موت الجنرال فرانكو»، «تنصيب الأمير خوان كارلوس ملكاً على إسبانيا»... والمعروف تاريخياً أن هذه الأحداث حصلت في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1975، أي عندما كانت أنغو في السادسة عشرة من عمرها. تبدو رواية «أسبوع عطلة» أشبه بنص واحد متسلسل، متتابع، متلاحق كصرخة أطلقتها الكاتبة في وجه فعل لاإنساني كانت هي إحدى ضحاياه. المراهقة التي كبرت وفهمت معنى الشذوذ العائلي الذي خبرته لم تفقأ عينيها كما فعل أوديب، وإنما انتقمت من تجربتها بتشريح نفسها بمبضع الكلمات. ونجحت في أن تنتقم من والدها بالسلاح الذي طالما افتخر به «اللغة»، علماً أنه لغوي ومترجم في المجلس الأوروبي. وفي «أسبوع عطلة» تُكرّس أنغو صورة الأب المثقف الذي، على رغم هوسه الجنسي الواضح، يختار كلماته بتأنٍّ ويحاول تعليم ابنته حيثيات اللغة وأسلوب حديثها وطريقة نطقها. فتعمد الكاتبة بأسلوب غير مباشر إلى وصف أنتروبولوجي لسيطرة الوالد المطلقة على ابنته. وفي مشهدية معاكسة تماماً للبداية، تُختتم الرواية بموقف يُبرز التناقض الكبير في شخصية الأب الذي يُمارس جريمة أخلاقية بحق ابنته والإنسانية جمعاء، ثم يغضب منها لكونها تجرأت على أن تخبره حلماً رأته في نومها. فينتهي الأسبوع قبل أن يُكمل عدته بعد أن يصف الأب ابنته ب «الوقحة» و«غير اللبقة» ويُوصلها إلى المحطة كي تعود أدراجها إلى بيت والدتها. في «أسبوع عطلة» سيتكرّس اسمها أكثر في موضوع الشذوذ العائلي الذي ما زال يعتبر من التابوهات التي لا يجرأ إلا القليلون على طرقها. فهل عودة أنغو إلى قضية سبق أن طرحتها في رواية سابقة نابعة من حنين إلى ذاك النجاح الأدبي المدوّي أم إنه تطهير لذاتها عبر لهب الكلمات؟ مقطع من الرواية «داس بقوة على دعسة البنزين، إبرة السرعة أشارت إلى الرقم 160. لم يعد يتكلّم. وهي تترجّاه ألّا يتركها وحيدة. أن يصحبها معه إلى كاركاسون، كما وعدها. وما إن وصلا إلى المنزل حتى اتصل بمحطة غرونوبل. جمع أغراضه وطلب منها فعل ذلك. وضّب حقيبته. وهي أيضاً. ووضعت الصورة في محفظة داخلية حتى لا تتجعّد. تأكّد من أن الأدراج خالية. والخزائن أيضاً. تحقّق من أنهما لم ينسيا شيئاً في الغرفة. تناول عدد أمس من «لوموند» التي بقيت في الحمام. حمل حقيبته المصنوعة من قماش بمسكة يد من الجلد الطبيعي، ووضعها في صندوق السيارة. ثم وضع حقيبتها في المقعد الخلفي. أمرها بإعادة العدد من مجلة «حياة ولغة». قال لها إنه غاضب لأنها تصرفت بوقاحة ومن دون لباقة. ولأنها قالت أشياء تصل إلى حدود الخطأ. وضع المفتاح في صندوق البريد، كما كان متفقاً مع المالك. وكان أخبره بأنه سيترك المنزل قبل الوقت المتفق عليه بقليل. السيارة انطلقت. على خط ناسيونال، وصلت الإبرة إلى 140. توقف أمام المحطة. فتح لها الباب من الداخل، ثم خرج ليفتح الباب الخلفي ويعطيها حقيبتها ذات اللون البني الفاتح. رسم على خديها قبلتين، وقال لها إنه ليس أمامها سوى مراسلته، فهو ما زال غاضباً، مستاءً، ويفضل البقاء وحيداً على أن يبقى مع شخص تنقصه اللباقة وحسن التصرّف، إلى حد سمح لنفسه بأن يروي له حلما وقحاً. وعليه فإنه لم يعد قادراً على تحملها أو حتى رؤيتها. ولأجل غير مُسمّى. لكنه طالبها بألا تقلق لأنه لا بد من أن يلتقيا، على أن توقف البكاء لأن هذا يزيد من غضبه. رافقها حتى الشباك المخصص لشراء البطاقات. ذهب. قطارها يصل خلال ثلاث ساعات. ثمة مجرى هواء في الردهة. وبعض صفوف كراسٍ بلاستيكية تحت الملصقات الإعلانية، قبالة بائع الجرائد. في الصفحة الأولى من لوموند، بالأحرف السود العريضة، إسبانيا، اليمين المتطرف يُحرّك جماعاته. من حولها الناس يروحون ويجيئون. جلست على مقعد بلاستيكي. لا أحد ينتظر مثلها كل هذا الوقت. الناس يأكلون شطيرة أو فاكهة قبل ركوب القطار. هي جائعة، لكنها لا تملك المال. لحسن حظها أنّ معها حقيبتها التي تضعها بين قدميها. هي الشيء الوحيد المشترك مع المحطة كلها. تنظر إليها. تحدثها.