منذ ولادته من رحم الاجتياح الإسرائيلي للبنان، صيف عام 1982، استطاع "حزب الله" ان يرسم لنفسه "صورة" تتقاطع خطوطها مع خطوط سياسية اقليمية فاعلة في المنطقة، وتتنافر ألوانها - من جهة ثانية - مع ألوان أحزاب وتيارات محلية لعبت أدواراً مختلفة على الساحة السياسية اللبنانية منذ "ميثاق 1943" الى اليوم. ولا شكّ في ان هذه "الصورة" التي شاءها "حزب الله" لنفسه، أو تلك التي شاءها "الآخرون" له، أكسبته فرادة نوعية ليس على الصعيد اللبناني فحسب، وإنما على الصعيد العربي، وربما الدولي ايضاً. كما جعلته "رقماً" غير قابل للاختزال بسهولة داخل حسابات اقليمية ودولية معقّدة في الشرق الأوسط. وطوال السنوات ال20 الماضية، التي تشكّل عمر "حزب الله"، صدر أكثر من كتاب يؤرّخ للحزب ويعرض توجهاته السياسية العامة، لا سيّما خلال الثمانينات من القرن المنصرم، أي في عزّ الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 17 عاماً. لكن كتاباً واحداً لم يعرض بالعمق الخلفيات الإيديولوجية والسياسية ل"حزب الله"، ولم يُفنّد بالوقائع والشهادات والتوثيق رأي الحزب وموقفه من مختلف القضايا الفقهية - السياسية والسياسية البحتة، كالكتاب الذي صدر أخيراً بعنوان: "حزب الله: الدين والسياسة" عن "دار الكتاب العربي" في بيروت، للباحثة البريطانية - اللبنانية الأصل امل سعد غريّب التي تعترف بأنها وضعت هذا الكتاب القائم على رسالة "دكتوراه" نالتها المؤلفة اخيراً من جامعة بيرمنغهام في انكلترا انطلاقاً من اهتمامها الشديد ب"حزب الله": "كبريطانية فُتِنتُ بهذه المنظمة الثابتة على عدائها للغرب وللصهيونية والمحبّة للشهادة. وكلبنانية، هالتني السهولة الظاهرية التي اتهم بها صحافيو وصنّاع سياسة غربيون الحركة بأنشطة ارهابية شتى، وأفزعني إصرارهم على الإشارة الى مقاتليها الذين مارسوا حقهم الشرعي في مقاومة احتلال اجنبي بأنهم إرهابيون". ولادة بفعل خارجي لم ينشأ "حزب الله" بفعل "إرادة" مسبقة تدعمها مجموعة أفكار وبرامج سياسية و"أوراق عمل" ذات رؤى مستقبلية، كما تنشأ الأحزاب عادة، بل نتيجة لإرادة "آنية" وقتذاك لمجموعات اسلامية شيعية شكّل الاجتياح الإسرائيلي لمنطقتها وأرضها حافزاً قوياً للتجمّع تحت عنوان عريض اسمه مواجهة "الاحتلال الصهيوني والنفوذ الغربي". وبالتالي، لم يكن اندماج هؤلاء محتوماً في غياب اجتياح اسرائيلي "ساعدهم على التفكير اكثر في شأن التكتّل، وما كان هذا ليحدث لولاه" على ما يقول نائب الحزب في مجلس النواب اللبناني محمد فنيش. إذ ولّدت جسامة الاجتياح الإسرائيلي وقساوة الاحتلال مقاومة عفوية شكّلت لاحقاً العمود الفقري للحزب الذي اصبح، في ما بعد، الحزب السياسي الأكبر والأبرز في لبنان، وربما الحركة الإسلامية الأشهر في العالم. غير ان مقاومة الاحتلال ما كانت لتنطلق لولا مثال ثوري كان بمثابة "الملهم" الأول لها، اي الإمام الخميني ب"ثورته الإسلامية" التي كانت انتصرت في ايران قبل نحو ثلاثة أعوام. فلولا الدعم الإيراني السياسي والمالي واللوجستي، لأعيقت كثيراً القدرة العسكرية للمقاومة الإسلامية اللبنانية وتطوّرها التنظيمي. ووفقاً لحسابات "حزب الله"، كانت الحركة ستستغرق 50 عاماً آخر لتحقق الإنجازات نفسها في غياب المساندة الإيرانية. ومن ثم، فإنه لولا الموافقة السورية لما كان في وسع ايران دخول الساحة السياسية اللبنانية الخاضعة لسيطرة دمشق منذ عام 1976. فمن منطلق الحاجة الى حليف استراتيجي يستطيع المساعدة في درء التهديد الإسرائيلي والأميركي من خلال المقاومة الإسلامية، سهّلت سورية دخول الحرس الثوري الى البقاع بمنحهم منفذاً مباشراً الى حدودها مع المنطقة. وبالتالي، كان لكل من "الفعل" الإسرائيلي، و"الإلهام" الإيراني، و"المصلحة" السورية، دور اساس وحيوي في ولادة "حزب الله"، وفي استمرار حركته الى اليوم. تقمَّص "حزب الله"، بفعل "الإلهام" الثوري، مفهوم الإمام الخميني للعمل السياسي، من خلال تقسيم العالم الى فئتين: المستكبرون الظالمون من جهة، والمستضعفون المظلومون من جهة اخرى، بصرف النظر عن الهوية الدينية أو الميول السياسية لهؤلاء أو أولئك. وليس هناك من ظلم، في نظر الحزب، أبشع من احتلال دولة لأخرى وقهر شعبها بقوة النار والحديد. من هنا "تبرز اسرائيل بصفتها الدولة الظالمة التي لا نظير لها". ومن ثم، يُنظر الى اي نظام يكون جزءاً من المخطط الإسرائيلي كنظام جائر، ويغدو اللجوء الى العنف ضده جائزاً تماماً بل إلزامياً. هذا المنطق هو الذي دفع "حزب الله" منتصف الثمانينات الى إعلان نيته تدمير نظام رئيس الجمهورية السابق امين الجميّل، "بسبب نفاقه وظلمه وارتباطه بإسرائيل"، خلافاً لموقف الحزب من نظام ما بعد الطائف 1989 الذي كان "مجرّد ظالم"، وبالتالي فإنه "لا يستحق التدمير". وتالياً، تعتبر غريّب في كتابها ان الحزب تحوّل من حزب ثوري رافض ونقيض للنظام كلياً عند النشأة، الى حزب نقيض للنظام من موقع المعارضة. وعلى رغم ذلك، "لا مانع لدى الحزب في المشاركة في نظام سياسي ظالم إذا كانت المشاركة تدرأ أسباب الشرّ أو تصون المصالح". وبذلك، وجد "حزب الله" لنفسه مسوّغاً شرعياً لتكيّفه السياسي مع أنظمة ما بعد الطائف. وعلى رغم اعتراف الحزب ضمنياً بالدور الرئيس الذي لعبته ايران في تأسيس الحركة، فإنه يشدد على ان قراراته تصدر عن قيادة الحزب اللبنانية مباشرة. كما ان "مقاومته" هي لتحرير أرض لبنانية لا أرض ايرانية. "وإذا كانت قوى سياسية اخرى، مثل سورية وإيران، تستفيد من نتائج عملية المقاومة فإن هذا لا يحرفها عن وطنيتها ولبنانيتها نظراً الى ان الحزب لم يطلق المقاومة نيابة عن القوى المستفيدة بل نيابة عن الشعب اللبناني"، بحسب تعبير الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله. "لبننة" الحزب وعلى رغم كون الاحتلال الإسرائيلي هو المبرّر الأول لوجود "حزب الله"، إلا ان الغرض الغالب للحزب هو خدمة الهدف الإسلامي المتمثّل بإقامة "الدولة الإسلامية المثالية" المرتبطة بظهور المهدي، الإمام الثاني عشر والأخير عند الشيعة الذين يعتقدون انه في غيبة منذ سنة 874 ميلادية، ويتوقع ان يرجع لإقامة حكم العدالة على الأرض. وكان "حزب الله" يدعو، في بداياته، الى توحيد جميع الدول في المنطقة بغية تشكيل دولة اسلامية شاملة كلياً، يكون لبنان فيها جزءاً اصيلاً. وإذا لم يحدث ذلك، يجب اقامة جمهورية إسلامية ضمن الحدود اللبنانية استباقاً لظهور المهدي الذي سيؤسس حكم الإسلام في العالم أجمع. لكن سرعان ما تخلى الحزب حتى عن هذا الهدف المحدود، بسبب عدم قابلية تحقيق مثل هذا المشروع في لبنان ذي التركيبة الطائفية الفسيفسائية والنظام السياسي المرتبطة جذوره بتلك التركيبة الطائفية المعقّدة. وبحسب الأمين العام السابق للحزب الشيخ صبحي الطفيلي، فليس "حزب الله" هو الذي سيحاسبه الله على عدم تحقيق دولة اسلامية، بل اولئك الذين عرقلوا انشاءها. وعليه، يعتبر الحزب "ان احداً لا يستطيع فرض دولة على الآخرين ويتوقّع ان ينجح. وإذا أقيمت دولة إسلامية بالقوة، فإنها لن تكون إسلامية وستفقد كل الشرعية"، انطلاقاً من المبدأ الإسلامي المعروف باللاإكراه. ولا شك في ان جهر "حزب الله" بالأفكار السابقة كان مفتاحاً ل"لبننته" أو انفتاحه على الدولة والمجتمع اللبنانيين، وهو الانفتاح الذي تجسّد في قراره المشاركة في انتخابات عام 1992 البرلمانية، التي فاز فيها ب12 مقعداً من اصل 108 كان يتألف منها "مجلس النواب" آنذاك. من هنا، يمكن فهم المبررات الإيديولوجية لمناقشة "حزب الله" للمشاركة في الدولة اللبنانية. وتقول غريب انه "من خلال مشاركة الحزب البرلمانية من هذا المنظور الإيديولوجي، يمكن ايضاً إدراك العوامل السياسية والقضايا الدينية - الخلقية التي سادت الحزب كي يصبح لاعباً شرعياً في هذا النظام السياسي". إذ لا يعتقد الحزب انه مرغم على الحصول على كل شيء أو لا شيء. وليس المطلوب ان يكون البديل من دولة اسلامية انسحاباً سياسياً يترك مصير الأمة للآخرين، بل يمكن ان يكون مشاركة سياسية. الشمولية الإسلامية يشكّل مفهوم "ولاية الفقيه" عنصراً أساسياً في البنية الفكرية ل"حزب الله"، كون الولي الفقيه يُعتبر حاكماً للأمة مقدّراً وملهماً من السماء. ويعترف الحزب بالولي الفقيه، على غرار الإمام الخميني، نائباً معيّناً للإمام الثاني عشر اثناء غيبته. أما ولايته، فهي امتداد لولاية النبي والأئمة. وبذلك تصبح لهذا المفهوم صفة مقدّسة للغاية: من يُنكر سلطة الولي الفقيه ينكر الله وأهل البيت ويكاد يكون مشركاً. وتالياً، يعتبر الالتزام بهذا المفهوم معياراً لقبول عضوية الفرد ضمن كوادر الحزب، كما ان مخالفة هذا المفهوم الفقهي الشيعي تؤدي الى الطرد من الحزب. ويكون الحزب بذلك، حصر عضويته بأبناء الطائفة الشيعية فقط! دون غيرهم من ابناء الطوائف الإسلامية الأخرى، لا سيما السنّية منها، على رغم وطنية الشعارات العريضة التي يرفعها الحزب في المطلق. لكن ذلك لم يمنع "حزب الله" من بذل محاولات عدّة للتوفيق بين السنّة والشيعة. إذ طالما حضّ الحزب على "إحباط المؤامرات الإمبريالية الساعية الى زرع الشقاق في صفوف الأمة الإسلامية". وبالنسبة الى السيد عباس الموسوي الأمين العام السابق للحزب، فإن محاولة فصل "حزب الله" عن المسلمين عموماً تُعتبر جريمة توازي جريمة محاولة فصل الحزب عن اخوانه الإيرانيين. وعليه، يبدو مبدأ الشمولية الإسلامية ميزة اساسية في بنية "حزب الله" الفكرية، على رغم "الخصوصية الشيعية" للحزب المستمدة من فكرة "ولاية الفقيه" التي يلتزم بها بحزم. الموقف من الغرب أورثت الثورة الإسلامية في ايران "حزب الله" العداء للغرب عموماً، والولايات المتحدة أولاً، وإسرائيل طبعاً. واستناداً الى مصادر الحزب فإن أصول هذا العداء الموروث تعود الى المواجهة التاريخية بين الإسلام والغرب، بدءاً من بدايات انتشار الإسلام في القرن السابع، مروراً بالحملات الصليبية على المنطقة في اواخر القرن الحادي عشر، واتفاقية "سايكس بيكو" التقسيمية، وما تبعها من سياسات استعمارية "ظالمة" بحق الشعوب العربية والإسلامية. اما "الخطيئة" التي لا تغتفر عند الحزب، فهي تورّط الغرب في تأسيس الدولة الإسرائيلية، تلك "الغدة السرطانية التي يجب استئصالها مهما طال الزمن"، بحسب خطاب الحزب: "لو مرت مئات الأعوام، سيبقى وجود اسرائيل غير شرعي، لأن كلاً من العدالة الإلهية والعدالة البشرية تنكر على الباطل ان يصبح حقاً بمرور الزمن". اما تنديد الحزب بإسرائيل كدولة "عنصرية وجائرة وماكرة"، فناشئ من التزامها العقيدة الصهيونية التي ولدتها. وعليه، تعتبر غريّب في كتابها الموثّق ان ثمة عناصر وجودية محددة لصراع "حزب الله" مع اسرائيل يمكن ايضاحها بالآتي: تشريع الحزب استخدام العنف ضد مجتمع صهيوني في الأساس، ورفضه فكرة تسوية سلمية متفاوَض في شأنها مع الدولة الإسرائيلية، وسعيه الى تحرير فلسطين. ولكن "بقدر ما قد يبدو المطمح الأخير غير واقعي الآن، فإنه سيبقى بالنسبة الى الحزب هدفاً استراتيجياً بعيد الأجل". وبذلك - تخلص غريّب الى القول - يكون "حزب الله" أدخل الى خطابه الفكري حساً بالواقعية سمح له بالتكيف مع التطورات السياسية من دون المجازفة بالأسس الرفضية من بنيته الفكرية. وبعملِهِ هذا، نحت لنفسه دوراً سياسياً مهماً، من اجل حقبة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من كامل الأراضي اللبنانية، بما فيها مزارع شبعا التي ما زالت الى اليوم "قيد الأسر".