الاهتمام الدولي، بما في ذلك الأميركي، باللاجئين الفلسطينيين عقب نكبة فلسطين العام 1948، لم يكن يخلو من محاولات لرسم أفق جديد لحياة هؤلاء خارج رغبتهم بالعودة وحقهم فيها. ومن بين المساعي لتوطينهم في الدول التي استضافتهم مسعى أميركي مبكر، لم تركز عليه وسائل الاعلام لدى حدوثه في العام 1949 وحتى اليوم. في العام 1948، تسابقت أميركا وروسيا الاتحاد السوفياتي على الاعتراف بالدولة العبرية. واعترفت كذلك الدول الأوروبية باسرائيل وساعدتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. لكن الدولة الغربية الوحيدة التي كانت وما زالت تهتم برفض عودة اللاجئين الى فلسطين، هي الولاياتالمتحدة الأميركية. وندر ان اجتمع ديبلوماسي أو سياسي أميركي بنظيره اللبناني أو العربي إلا كان بند التوطين في جدول الأعمال. وكان المسؤولون اللبنانيون الذين اشتهروا بالمرونة السياسية خصوصاً مع البيت الابيض، واجهوا عروض التوطين الأميركية المقرونة بالمساعدات الاقتصادية، أكثر من مرة، بالرفض القاطع. في السادس من شهر نيسان ابريل 1949، رفع المدير العام للخارجية اللبنانية فؤاد عمون تقريراً مستفيضاً الى رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح ووزير الخارجية فيليب تقلا، نقل فيه وقائع اجتماعه بالديبلوماسي الاميركي جورج ماجي. وكان الاخير وصل الى بيروت بصفة "منظم المساعدة الأميركية لليونان" وبهدف تنظيم مساعدات النقطة الرابعة لبلدان الشرق الاوسط. علم عمون بمجيئه عبر مسؤول السفارة اليونانية في بيروت، فاتصل بسفير لبنان في واشنطن الدكتور شارل مالك من أجل الحصول على معلومات وافية حول الزيارة. وتضمنت حقيبة مالك الديبلوماسية معلومة ونصيحة، حيث أفاد في الأولى ان ماجي توجّه الى الشرق الأوسط من أجل توطين اللاجئين وليس لمساعدة دول المنطقة، واقترح في الثانية ان يسأل السفير الأميركي في بيروت عن مزيد من المعلومات. ولدى سؤال السفير أفاد ان الديبلوماسي الأميركي مكلف من البيت الأبيض باللاجئين والمساعدة معاً. ولدى اجتماع عمون بجورج ماجي، تبيّن مدى دقّة معلومة مالك بمعنى ان ماجي قدم الى المنطقة من أجل توطين اللاجئين الفلسطينيين، في حين ان مساعدات النقطة الرابعة عرضت على اللبنانيين وغيرهم من العرب لاقناعهم بقبول التوطين. وبالطبع رفض لبنان الرسمي والدول العربية المضيفة الاخرى توطين اللاجئين الفلسطينيين على رغم حاجة أكثرها الماسة لأية مساعدة مالية او اقتصادية خصوصاً من الولاياتالمتحدة الأميركية. في ما يلي النص الحرفي لحوار فؤاد عمون مع جورج ماجي يُنشر للمرة الأولى: "الموضوع: حديث مع مستر جورج ماجي منظم المساعدة الاميركية لليونان بشأن قضية اللاجئين الفلسطينيين والبند الرابع من بيان رئيس الولاياتالمتحدة الخاص بمساعدة بلدان الشرق الاوسط التي لم يكتمل نموها الاقتصادي. كان القائم باعمال المفوضية اليونانية السيد حاجي فاسيليو قد أخبرني، وفقاً لعادته في اطلاعي على ما يبلغه من أمور، ان مستر جورج ماجي Georges Magee منظم المساعدة الاميركية لليونان، سيحضر الى دول الشرق الاوسط ليدرس مسألتي اللاجئين الفلسطينيين والبند الرابع من بيان رئيس الولاياتالمتحدة الخاص بمساعدة بلدان الشرق الاوسط التي لم يكتمل نموها الاقتصادي. طُلب الى وزير لبنان المفوض في واشنطن ان يستقصي هذا الامر ويوافي الوزارة بالمعلومات عنه، فأبرق ان وزارة الخارجية الاميركية أفادت ان جورج ماجي أوفد بمهمة سرية لمدة بضعة أسابيع كي يدرس قضية اللاجئين تنويراً لرأي الوزارة الاميركية، ولكنه غير مكلف مباشرة النقطة الرابعة من بيان الرئيس ترومان. وقد اقترح الدكتور مالك الاتصال بوزير أميركا المفوض استكمالاً للمعلومات لان مستر ماجي قد وصل الى بيروت. وعلى اثر ورود هذا الجواب جمعني المجلس بسكرتير المفوضية الاميركية مستر ساندس، فسألته عن مستر ماجي، فأجاب انه يتولى درس قضيتي اللاجئين والبند الرابع من بيان الرئيس ترومان. وقد بدا لي فيما بعد انه يتناول بالدرس القضيتين المشار اليهما، الا انه قد يقصر بحثه شؤون البند الرابع على قدر ما يحتاج اليه حل قضية اللاجئين بانزالهم في بلدان تمد بالمساعدة. وقد أظهر مستر ساندس استعداده لدعوة مستر ماجي لمواجهتي لدى عودته من عمان، فوافقته على ذلك. وقد استقبلت في 6 نيسان ابريل مستر ماجي مصحوباً بمستر ساندس ودار بيننا الحديث التالي: قال مستر ماجي: حضرت من اليونان بتكليف من حكومتي لأدرس قضية اللاجئين الفلسطينيين، وقد تجوّلت جنوبي فلسطين ولا سيما غزة، وفي شرقي الاردن وسورية، حيث زرت ملاجئ العرب النازحين عن مواطنهم في فلسطين. أما لبنان فلم يتسنَ لي زيارة النازحين اليه وسأضطر الى السفر غداً دون مشاهدتهم. واني أبوح لك بأن ليس للحكومة الاميركية حتى الآن خطة مرسومة في هذا الموضوع، ولكن النية متجهة بادئ بدء الى تنفيذ قرار هيئة الاممالمتحدة القاضي بوجوب السماح للاجئين بالعودة الى بلادهم والعمل على إنعاش حالتهم الاقتصادية والاجتماعية. غير أنه لا يخفى ان عدداً منهم يأبى الرجوع، فلا بد اذاً من البحث عن أماكن يستوطنون فيها. فهل بوسع لبنان ان يقبل قسماً منهم؟ أجبته: "لقد شاهدتَ حياة البؤس التي يحياها اللاجئون في الأماكن التي زرتها. فاسمح لي ان ألفت نظرك الى ان قضيتهم، غير الوجهتين السياسية والانسانية المعروفتين، وجهة اجتماعية خطيرة. لاضرب لك مثلاً حالة اللاجئين في لبنان. ان عددهم لا يقل عن مئة وعشرين الفاً، أي ما يوازي عشر اللبنانيين، فهم بالنسبة الى عدد سكان الولاياتالمتحدة كأنهم أربعة عشر مليون لاجئ. فهذه الكثرة من البؤساء يعانون آلام العوز والاغتراب، سوف يكونون حقلاً خصباً للامراض الاجتماعية وفي مقدمتها الشيوعية. فاننا لا ننسى ان الشرق كان خالياً من جراثيم الشيوعية التي دخلته بعد الحرب العالمية الاولى مع أول فوج من اللاجئين وأعني بهم الأرمن ومنذ ذلك العهد أخذت الشيوعية تتفشى في لبنان وسورية والعراق ومصر رغم ما تبذله هذه الاقليات من جهود لمكافحتها. وقد تبع هذا الرعيل الاول اشلاء اليهود الشيوعيين القادمين زرافات من روسيا واوروبا الشرقية والوسطى. وقد كان لهؤلاء هذا الأثر في انتشار الشيوعية على الرغم من انهم غرباء ولا يتكلمون لغتنا. فكم يكون بليغاً اثر الفلسطينيين في اخوانهم العرب اذا تغلغلت فيهم الشيوعية. فمن الواجب القيام بعمل سريع لاعادتهم الى أوطانهم في أقرب وقت مستطاع. لذلك تراني أرحب بقولك ان نية حكومتك لتنفيذ قرار الاممالمتحدة. وعندما يُشرع في تنفيذه لا يبقى سوى عدد ضئيل تُبذل له ما يستحق من العناية. على ان لبنان لا يستطيع ان يستبقي احداً منه. فانه من أكثر بلدان العالم اكتظاظاً بالسكان، لا يفضله في ذلك سوى بلجيكا. حالته الاقتصادية ضعيفة نظراً لتغلب مساحة الجبال على السهول. البطالة ضاربة أطنابها فيه يهاجر منه الألوف بحيث اصبح عدد المغتربين يفوق عدد المقيمين. فكيف يتسع والحالة هذه لغير اللبنانيين؟ قال: "لقد طلبت الحكومة اللبنانية قرضاً من المصرف العالمي بقدر خمسة عشر مليون دولار لتحقيق ازدهاره الزراعي. الا يُسهّل تنفيذ هذا المشروع قبولَ عدد من اللاجئين؟ قلت: "ان الحكومة اللبنانية تقدمت بهذا الطلب سعياً وراء رفع مستوى المعيشة في لبنان بالعمل على توازن كفتي التصدير والاستيراد. فان الانتاج عندنا لا يتكافأ مع ما نستهلك، واني أضرب لك مثلاً انتاج القمح وسائر الغلال. فانه لا يأتي بأكثر من ثلث الحاجة. فميزان المدفوعات لا يستوي الا بالمداخيل الخفية، كأعمال التجارة الدولية وارباح موسم الاصطياف، وهذا كله لا يمكن ان يستفيد منه اللاجئون اذا استقروا في لبنان بل يصبحون عبئاً عليه. ناهيك بان إنجاز مشروع الذي طلب القرض من أجله يتطلب عدة سنوات، وقضية اللاجئين تحتاج الى حل سريع آني. ولما كان مستر ماجي قد استطرد الى التحدث عن المشروع المشار اليه، وقد يكون أمر تحقيقه منوطاً بتنفيذ البند الرابع من بيان الرئيس ترومان، رأيت ان أتوسع في الموضوع فقلت. فقلت: "ان المساهمة في تنمية مرافق لبنان يجب ان لا تقتصر على الشؤون الزراعية. فان لدينا من القوى الكهربائية مقداراً لم نستغل حتى الآن سوى عشره. فاذا ما استفيد من هذه القوى بكاملها اصبح للبنان قدرة اقتصادية فائقة تنصرف الى اعمال الاستصناع Industrie de Transformation وهذا المشروع قد درس من الوجهة الفنية ويتطلب نحواً من مئة مليون دولار. وعندما حضر ممثلو المصرف العالمي لدرس القرض الزراعي، اي قرض الخمسة عشر مليون دولار، لُفت نظره الى مشروع استغلال القوة الكهربائية، كما ان الوفد الذي توجه الى واشنطن للبحث مع المصرف المشار اليه قد تلقى التعليمات بان يدرس مشروع القرض الزراعي متصلاً بمشروع استغلال القوة الكهربائية بحيث يكون المشروع الاول بمثابة مرحلة أولى فيما ينبغي ان يعمل لتنمية موارد لبنان كافة. واني أوضح هذه الفكرة بمثل اضربه لك، رجل يريد ان ينشئ بناية تستغرق مالاً لا يستطيع ان يحصل عليه دفعة واحدة، فيضع تصميماً عاماً ويباشر إشادة قسم منه على أساس ان هذا التصميم حتى اذا توفر له المال أكمل المشروع. والصلة ظاهرة بين مشروعي المساعدة الزراعية واستغلال القوى الكهربائية لان الدول تحتاج الى قوة كهربائية للري وما إليه. قال: كم تحسبون ان هذين المشروعين يقتضيان من الوقت لتنفيذهما؟ قلت: ان مشروع الانعاش الزراعي قد درسه ممثلو المصرف العالمي ويمكن الرجوع الى تقاريرهم. اما استغلال القوى الكهربائية فبوسعي ان أطلعك على أجل تنفيذه بالرجوع الى الدروس التي وضعت اذا رغبت في ذلك. قال: ان المساعدة التي يمكن ان تبذلها لكم الحكومة الاميركية تدخل في نطاق القوة الرابعة من بيان الرئيس ترومان الخاصة بانعاش البلدان التي لم يكتمل نموها الاقتصادي. انما المقصود من هذه المساعدة هو المساعدة الفنية. اما المساعدة المالية فيمكنكم ان تطلبوها من المصرف العالمي أو من مصرف التصدير والاستيراد. لقد طلبتم الخمسة عشر مليون دولار من المصرف العالمي على ان الأفضل ان تتوجهوا بطلباتكم الاخرى الى مصرف التصدير والاستيراد لانه مصرف حكومي، تشرف عليه الدوائر الخاصة في الحكومة الاميركية وباستطاعة وزارة الخارجية ان تمدكم بالمساعدة لديه، بخلاف البنك العالمي الذي تساهم فيه أميركا كعضو مثل كل الاعضاء ولبنان من جملتهم. وبناء على سؤالي أجاب ان بيان ترومان سيقدم الى الكونغرس ويؤمل ان يصدق في خلال شهرين. ثم سألني أليس لبنان بلداً زراعياً أكثر منه صناعياً؟ فأجبته: "ان للبنان إمكانيات زراعية وصناعية وليست امكانياته الصناعية بضئيلة، فهو فريد في هذه البقعة من الشرق بما يتوفر لديه من القوى المحركة التي هي أساس الصناعة. وبعد ذلك عاد مستر ماجي الى حديث اللاجئين، فقال: "استمعت الى بيانك عن لبنان، ولكن هل يمكنك ان توضح لي رأيك عن إمكان سورية والعراق ان يقبلا عدداً من اللاجئىن العرب؟ أجبته: "انك تعرف طبعاً ان سورية والعراق تتسعان لاكثر مما فيهما من سكان، ولن أناقشك في ذلك، وإن كان نقل السكان من بلد الى آخر أمر عسير لا يخلو من الاخطار. ولكن للقضية وجهة سياسية لا يمكن التغاضي عنها. فقد علمتم ولا شك ان الدول العربية مجمعة على وجوب تنفيذ قرار الاممالمتحدة باعادة اللاجئىن الى مواطنهم. اني لم أبحث معك هذه القضية عندما سألتني عن إمكانيات لبنان، ذلك لأنني أعطيتك الجواب القطعي بمجرد النظر الى الناحية الاجتماعية والاقتصادية فيه. على ان الوجهة السياسية لها شأنها الخطير ولا سيما متى علمت موقف العراق وسورية منها أثناء تبادل النظر فيها مع لجنة التوفيق. وقبل ان ننتهي من الحديث رأيت ان ألفت نظر مستر ماجي الى موقف البلاد العربية بصورة عامة من أمر الانعاش الاقتصادي فقلت له ان التصريحات التي طالعناها في هذين اليومين عن لسان الرجال المسؤولين تدل، اذا صح الاستنتاج على ان تركيا واليونان تشكيان من ثقل العبء الملقى على عاتقهما تجاه الضغط السوفياتي وما يُتوقع من مفاجآت. وفي الواقع ان وراءهما بلاداً متسعة يجب النهوض بها، ولا سيما انها ستكون هدفاً سواء من الوجهة الاستراتيجية أو لما لها من أهمية اقتصادية وفي مقدمتها النفط. وماذا ينفع وقوف تركيا اذا كان بالامكان الالتفاف حولها عن طريق الشرق وقد قرأنا تصريحات عن لسان وزير خارجيتها تنبئ عن احتمال الاكتفاء بالدفاع عن نفسها اذا هوجمت. فللبلاد العربية مركز خطير يوجب ان يؤخذ بيدها كي لا تتعرّض الى الفوضى الاقتصادية والسياسية. فقال مستر ماجي اني أقدر هذه الملاحظة حق قدرها. وعلى الأثر انصرف قائلاً بأنه مسافر غداً وأنه ستتاح له الفرصة للرجوع استكمالاً لمهمته". بيروت في 6 نيسان سنة 1949 المدير العام لوزارة الخارجية والمغتربين فؤاد عمون