منذ أطلق الرئيس الأميركي بيل كلينتون تصريحه حول حرية اللاجئين الفلسطينيين في اختيار أماكن عيشهم 2 تموز/ يوليو وردود الفعل في لبنان تتسع وتتعاظم بحيث شكلت استنكاراً جماعياً للموقف الاسرائيلي الرافض أي حل يسمح برجوع الفلسطينيين الى ديارهم. ومع ان جواب كلينتون المبهم على سؤال المقارنة بين احتمال معاملة الفلسطينيين كمشردي كوسوفو، لم يتطرق الى حق العودة... إلا أن إيهود باراك انتقد التصريح بقسوة، وطالب الإدارة الأميركية بضرورة اعلان إيضاح وتصحيح. وعلى الفور أصدرت السفارة الأميركية في اسرائيل بياناً أكدت فيه أن قضية اللاجئين أرجئت الى مفاوضات الوضع النهائي، وان معالجتها رهن بقرار الأطراف المعنية. ويبدو أن كلينتون حاول في الشق الثاني من جوابه استدراك الخطأ الذي ورطّ نفسه به، فإذا به يطلق سلسلة اسئلة محيرة قال فيها: إن عودة اللاجئين الفلسطينيين تتوقف في جانب منها، على الوقت الذي أمضوه بعيداً عن البلاد... وما إذا كانوا فعلاً يريدون العودة الى الوطن؟ وما هي مساحة الأرض التي ستُعطى لهم؟ وأين ستكون هذه الأرض؟ وكان من الطبيعي أن تحدث هذه الأسئلة الهادفة موجة من التشويش والقلق، خصوصاً وأنها عبّرت عن تنكر الادارة الأميركية لمسؤوليتها المعنوية والعملية تجاه القرارات الدولية. كما عبّرت في الوقت ذاته عن تراجع الولاياتالمتحدة عن التزاماتها السابقة بحيث تجاهلت قرار الأممالمتحدة الرقم 194 الخاص بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض. وكان للمداخلة التي قدمها أحد مهندسي اتفاق أوسلو يوسي بيلين الأثر السلبي لأنه فسر اسئلة الرئيس كلينتون باجوبة اسرائيلية، فقال ان تمنياته للاجئين بأن يعيشوا أحراراً أينما يريدون لا تعني العودة الى البلد الذي غادروه، بقدر ما تعني حسم وضعهم الشرعي في البلدان المضيفة مثل الأردنولبنان وسورية. أي ألا يكونوا لاجئين بعد اليوم! الضجة التي أثارها تصريح الرئيس الأميركي تلازمت مع فوز ايهود باراك وموعد استحقاق التسوية السياسية للنزاع العربي - الاسرائيلي، وأثر ذلك على مستقبل اللاجئين في الشتات. وكان من المنطقي أن تزداد مخاوف اللبنانيين من انعكاس الحلول المطروحة على الساحة الداخلية بطريقة تؤثر على التوازن الداخلي، خصوصاً وأن الشريحة الكبيرة من فلسطينيي الشتات في لبنان تتمثل بلاجئي 1948 أكثر من تمثلها بنازحي 1967 والفارين من الأردن عقب أحداث 1970. ومع أن لبنانوالأردن وسورية ومصر تعتبر من الدول الحاضنة لأكثر من تسعين في المئة من فلسطينيي الشتات، إلا أن اتفاق أوسلو 1993 استبعد لبنان وسورية من اللجنة التي كلفت بدراسة موضوع العودة. أي اللجنة التي انفرط عقدها بعد سبعة اجتماعات فقط بسبب وفاة اسحق رابين وإصرار شمعون بيريز على استبعاد لاجئي 1948 وحصر المعالجة بنازحي 1967. ولكي يزيد البلبلة حول تصورات الأطراف المشاركة، إدعى بيريز ان المسألة يجب أن تحال الى لجنة دولية لمعرفة عدد النازحين... ثم الى لجنة فنية بهدف وضع تعريف للنازح. وبعد أن ألغى حقوق الذرية والابناء من الاحصاء، واختصر عدد النازحين الى الثلث تقريباً، طالب شمعون بيريز بحصر عدد العائدين سنوياً على خمسة آلاف فقط، بحجة المخاوف من انفجار سكاني في الضفة وغزة. ويقتضي العمل بمثل هذه النسبة مرور أربعة قرون لكي تنفذ عملية نقل أكثر من مليوني لاجئ الى الضفة الغربية. علماً بأن اسرائيل سمحت باستقدام ثمانمئة ألف مهاجر يهودي من الاتحاد السوفياتي سابقاً خلال عامين فقط، وهي تستعد حالياً لاستقبال مليون مهاجر من بلدان مختلفة. والحديث عن مصير اللاجئين يقود حتماً الى استكشاف موقف الولاياتالمتحدة باعتبارها الدولة الراعية والوسيط المشارك في مفاوضات السلام. أول محاولة قامت بها واشنطن لتمرير مشروع التوطين في لبنان كانت في أيلول سبتمبر 1961. يومها زار بيروت كمندوب عن لجنة التوفيق لقضية فلسطين جوزيف جونسون يرافقه شروود مو، ضابط الارتباط بين وكالة الاغاثة الاونروا والأممالمتحدة في نيويورك. واستقبله في الاجتماع الأول وزير الخارجية فيليب تقلا في حضور الأمين العام المرحوم فؤاد عمون الذي سجل في تقريره الديبلوماسي وقائع النقاش الخطير. أي النقاش الذي اعتبرته حكومة صائب سلام في حينه نوعاً من الاختبار الأميركي لاستجلاء حقيقة الموقف الرسمي اللبناني من موضوع اللاجئين. ولقد سجل الأمين العام عمون وقائع الجلستين في تقريره الديبلوماسي تاريخ 9/9/1961. يقول التقرير: "استهل جونسون الحديث بالاشارة الى توصية الجمعية العامة الصادرة في 11/12/1948، ملمحاً الى أن مهمته منفصلة عن قرار التقسيم المتخذ عام 1947. وأجابه وزير الخارجية فيليب تقلا بأن الحديث عن اللاجئين الفلسطينيين يقود تلقائياً الى مراجعة القضية برمتها ضمن الاطار الذي رسمته لجنة التوفيق. ثم أوضح له أن القرار الصادر عام 1948 ينص على عودة اللاجئين الى فلسطين أو تعويضهم. وأجاب جونسون بلهجة المنتقد أو المصحح قائلاً: ان القرار يؤكد حق اللاجئين في العودة أو التعويض أو الاستيطان في البلاد التي يقيمون فيها استناداً الى كلمة Resettlement الواردة في النص. واعترض الوزير تقلا على تحريف معنى الكلمة، لأن نص القرار يؤكد حق اللاجئين في العودة الى فلسطين، ولا يمكن أن يعني حق الاستيطان في البلدان العربية. ثم أعطى لبنان كمثال على الوضع المعقد الذي خلقته اسرائيل بواسطة اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون في حينه نسبة عشرة في المئة من عدد السكان. وقال: "ان الوطن الصغير يعجز عن استيعابهم، اضافة الى تعلقهم بفلسطين وترقبهم العودة وفقاً لمبادئ الأممالمتحدة والتعهدات الدولية وحقهم الطبيعي. ان اسرائيل تبني المستوطنات استعداداً لاستيعاب بضعة ملايين من المهاجرين اليهود. والعرب أحق بأرضهم وأولى بها. واسمح لي بأن أقول لك بأنكم تعاملون السارق معاملة المسروق منه. لقد تساهل العرب كثيراً عندما وافقوا على بروتوكول لوزان. ولا يجوز أن يُطلب منهم التنازل عن حقهم في العودة". بعد الظهر انتقل مندوب لجنة التوفيق جونسون الى السرايا لمقابلة رئيس الوزراء صائب سلام. وبعد نقاش طويل عن دور الولاياتالمتحدة في مساندة اسرائيل، طرح الزائر ثلاثة خيارات تتعلق باللاجئين. واعترض سلام على تحوير معنى كلمة Resettlement لأن الغموض يعطي اسرائيل الذريعة للتملص من مسؤولياتها تجاه القرار 194. وأصر جونسون على موقفه معتبراً ان كلمة Repatriation لم ترد في التوصية، وانها الكلمة المعبّرة عن إعادة اللاجئ الى وطنه. ورد عليه صائب بك باظهار الفارق بين التوطين والاستيطان مرة ثانية، مؤكداً ان مساعدة أميركا لاسرائيل تشجعها لأن تكون الأداة العدوانية المهددة للسلام في الشرق الأوسط". ويُستدل من التطور الذي طرأ على الموقف الرسمي الأميركي حيال قضية اللاجئين الفلسطينيين، ان حرب 1967 ساعدت على إضعاف زخم القرار 194 الصادر عقب حرب 1948، وذلك عن طريق تحويله من مسألة حقوقية قانونية سياسية الى معضلة انسانية بالغة التعقيد. والملاحظ عن تقلبات موقف واشنطن ان الرؤساء الأميركيين كانوا يطرحون القرار 194 كبعبع لتخويف اسرائيل كلما اختلفوا معها. ولكنهم في الواقع لم يتعاملوا مع موضوع حق العودة كمبدأ ثابت لا يمكن تجاهله والحياد عنه، وكان من نتيجة ذلك ان اسرائيل لم تنفذ شرطين أساسيين وضعا لقبولها عضواً في المجتمع الدولي لهما أوثق صلة بقضية اللاجئين: أولاً - قرار تقسيم فلسطين الصادر في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947. ثانياً - القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة في 11 كانون الأول ديسمبر 1948 الذي نص في الفقرة 11 منه على "أن اللاجئين الراغبين في العودة الى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم يجب أن يُسمح لهم بذلك في أقرب وقت ممكن... ويجب أن يُدفع تعويض عن الممتلكات لأولئك الذين يختارون عدم العودة، وعن فقدان ممتلكاتهم أو عن اصابتها بأضرار". من المآخذ البارزة التي يأخذها المشرعون على المفاوض الفلسطيني انه تخلى من المرجعيات الدولية في اتفاقية أوسلو وأحلّ الاتفاقات التعاقدية محلها. واسرائيل في هذا المجال تتمنى التحرر من ضوابط القرارات الدولية الملزمة لكي تستفرد السلطة الفلسطينية وتجعل منها سلطة من دون شعب ولا أرض. وكان من الطبيعي أن تزداد مخاوف اللاجئين في لبنان وسورية والأردن ومصر بعدما أعطت اتفاقية أوسلو الأولوية الى "نازحي" 1967. وانطلاقاً من موقف المحافظة على حقوق اللاجئين في العودة، توافق اللبنانيون مجمعين على رفض توطينهم في لبنان وفق ما جاء في التعديلات الدستورية الصادرة في 21 أيلول 1990 التي تقول "لا تقسيم ولا توطين". ومثل هذا الموقف أُتخذ في حينه للاعلان أن الفلسطينيين في لبنان وعددهم في آخر احصاء 366.610 نسمة هم جزء مكمل للشعب الفلسطيني في أي بلد آخر، وان قضيتهم مرتبطة بمصير هذا الشعب. مذ كتب الرئيس ريتشارد نيكسون الى غولدا مائير في تموز 1970 يقول لها ان بلاده لن تضغط لحمل اسرائيل على قبول مشكلة اللاجئين، والادارات الأميركية المتعاقبة تتجاهل قرار العودة وتؤيد تنفيذ القرار 393 المطالب بالتوطين داخل الدول العربية كبديل من القرار 194. وفي ضوء هذا التحول المتنامي سيسعى باراك بالتعاون مع ادارة كلينتون، الى إحياء مشروع بن غوريون وادخاله في خطة إعادة تأهيل العراق وفك الحصار عنه مقابل استقبال مليوني لاجئ فلسطيني كحل انساني. وكان نتانياهو بواسطة وزير دفاعه موردخاي وهو من أصل عراقي قد طرح فكرة إحياء مشروع بن غوريون الذي يجعل من العراق الوطن البديل للاجئين. ولقد اقترح ذلك أثناء اجتماعه برئيس وزراء فرنسا الأسبق غي موليه 22 تشرين الأول/ اكتوبر 1956 على اعتبار ان مساحة العراق وثروته النفطية وبعده عن حدود اسرائيل، كل هذه الأسباب تسمح باستيعاب مليوني لاجئ بسهولة. والغريب أن وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت صرحت مراراً ان معاودة قبول العراق في الأسرة الدولية مع رفع الحظر عنه، تتطلب تأييده مشروع سلام الشرق الأوسط. وهذا يقتضي في نظرها الغاء حال الاحتراب مع اسرائيل والدخول في المفاوضات المتعددة الأطراف حيث الاهتمام الحقيقي بمشكلة اللاجئين. يجمع المؤرخون على القول إن محاولات تغييب فلسطين والفلسطينيين من التاريخ كانت هدفاً أساسياً لخلق قناعة عالمية بأن تاريخ اليهود انتهى بغيابهم عن أرض الميعاد، وبأن عودتهم من المنافي تشكل عودة التاريخ والحضارة الى المكان الذي فرغ باستيلاء غيرهم عليه. وفي ضوء التناقض المتنامي بين مخاوف اسرائيل من إفساد النقاء العنصري بواسطة أكثرية عربية... وإصرار الفلسطينيين على رفع الظلم الذي اقترف بحقهم وطناً وشعباً، تبرز قضية اللاجئين كمسألة مركزية مهددة لمشروع السلام الذي لا يعتبر شاملاً ونهائياً من دون تطبيق قرار العودة. والمطلوب في هذه المرحلة الخطيرة ترجمة تأييد حق المصير الذي صدر عن الجمعية العامة في 12/12/1996 بأكثرية 159 دولة، واعلان قيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. ويمكن للسلطة الفلسطينية المنتخبة ان تدعم قرارها بتأييد الرأي العام الدولي وبحق تقرير المصير استناداً الى أحكام القانون الذي لا يحرم أي شعب من أرضه. ومن الخطأ الركون الى وعود ادارة كلينتون بأنها ستمنع اسرائيل من ضم القدسالشرقية مقابل الامتناع عن اعلان الدولة الفلسطينية. والدليل أن الادارة الأميركية خالفت المرجعيات الدولية، وسمحت لباراك بمخالفة الاتفاقات التعاقدية الموقعة في أوسلو وواي ريفر. والسبب ان اسرائيل تريد تحديد احتياجاتها الأمنية في ضوء حاجتها للأرض. وعندما تنتهي هذه المهمة تكون السلطة الفلسطينية قد فقدت وحدة الأرض لإعادة رسم الوطن. من هنا تبرز الحاجة الى تحديد مصير الأرض لأنها وحدها تقرر مصير الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، أي الشعب الذي ينتظر منذ أكثر من نصف قرن الانتماء الى رقعة من وطن كان في الماضي يدعى فلسطين! * كاتب وصحافي لبناني.