بدأت مدينة اشبيلية الأندلسية الثلثاء الماضي احتفالاتها السنوية بأعياد الربيع التي يطلق عليها اسم "احتفالات نيسان ابريل" عبر اشعال 350 ألف مصباح كهربائي ستظل مضاءة في المدينة طوال اسبوعين، وهي الفترة التي تستمر فيها الاحتفالات التي تجذب إلى المدينة أكثر من 20 مليون سائح من الزوار الأجانب والاسبان. لكن احتفالات السنة الجارية لها طعمها الخاص، لأنها تأتي متزامنة مع مناسبة مرور عشر سنوات على المهرجان العالمي "اكسبو 92" الذي شهدته المدينة عام 1992 والذي تغيرت على أثره الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في منطقة الأندلس كلها، بعد افتتاح الكثير من وسائل المواصلات التي قربت المسافات بين مدن الأندلس وربطتها بشبكة الطرق الحديثة والسريعة التي تم انشاؤها خصيصاً لتخدم ذلك المهرجان. وأيضاً قربت عاصمة الأندلس من العاصمة المركزية مدريد، بافتتاح أول خط للقطار السريع يربط بين المدينتين، وأصبحت المسافة بينهما يمكن قطعها في ثلاث ساعات فقط بدلاً من الساعات التسع التي كان على المسافر أن يتحمل عناءها للوصول من مدريد إلى مدينة المعتمد بن عباد. خيام وساحات احتفالات نيسان ابريل السنة الجارية تقام على مساحة 400 ألف متر مربع، تزين مدخلها بناية من الكرتون المقوى على هيئة بوابة استمد صانعوها عناصرها الزخرفية من حدثين كبيرين: معرض "ايبرو أميركا" الذي اقيم عام 1929، وكان أول وأكبر معرض يجمع دول أميركا اللاتينية الناطقة بالاسبانية مع الدولة المضيفة اسبانيا، والمعرض العالمي "اكسبو 92" الذي كان أول لقاء عالمي تشهده العاصمة الأندلسية في تاريخها منذ فقدت مكانتها كعاصمة للامبراطورية الاسبانية التي لا تغيب عنها الشمس، بانتقال العاصمة الإدارية إلى طليطلة أولاً، وبعد ذلك إلى مدريد العاصمة الحالية. يزين بوابة الدخول إلى ساحة الاحتفالات قوس ارتفاعه 5.42 متر وعرضه 5،50 متر، فيما تُزين الجدران بأنواع مختلفة من الزليج السيراميك التقليدية التي اشتهرت بها اشبيلية، وتحيط بها عناقيد من الأضواء مكونة من 22 ألف مصباح كهربائي. ويقول الخبراء الذين أشرفوا على بناء البوابة إنها تزن نحو 175 طناً، وهو رقم قياسي جديد لم تصله البوابات التي اقيمت في احتفالات السنوات الماضية. تم تقسيم ساحة الاحتفالات إلى 1043 ركناً، موزعة على 15 شارعاً، أكثر تلك الأركان أقامت عليها الأسر التقليدية المعروفة في مقاطعة اشبيلية، وكذلك الجماعات والجمعيات الدينية والاجتماعية والنقابات، وحتى الأحزاب السياسية، أماكن للاستمتاع بالاحتفالات من خلال تقديم الأطعمة التقليدية للزوار مصحوبة بالغناء والرقص التقليدي الاشبيلي الذي تلعب فيه دور البطولة مجموعات غجرية، وكل مجموعة تنتمي إلى طبقة معينة حسب طبقة الأسر التي أقامت أركانها. وتشهد ساحة الاحتفالات، وكذلك ساحة "بلاثا دي اسبانيا" المجاورة لها، استعراضات يومية صباحاً ومساء أبطالها الخيول الأندلسية المولدة التي تجمع بين الحصان العربي الأصيل والحصان الايبيري الذي تم تدجينه في شبه الجزيرة الايبيرية، قبل وصول العرب إلى هناك. خلال تلك الاحتفالات تتحول مدينة اشبيلية بجميع أركانها إلى مكان اللقاء بين المشاهير من نجوم السينما والمسرح والغناء في العالم كله، ويشاركهم في إثارة اهتمام وسائل الإعلام الكثير من الوجوه المعروفة في عالم السياسة والأدب. وتستمر الحياة عادة بشكلها الصاخب خلال الأربع وعشرين ساعة، وهناك من يتسابق مع غيره على البقاء يقظاً بلا نوم أو راحة طوال الأسبوعين، موزعاً وقته بين الاستمتاع بالأكل والشرب والرقص والغناء، أو ركوب الخيول والعربات المزينة بزهور الربيع الأندلسي الصاخبة. ومن المنتظر أن تكون الاحتفالات هذا العام أكثر صخباً في ظل توقع طقس مشمس طوال فترات الاحتفالات. وإلى جوار ساحة الاحتفالات يمكن التمتع أيضاً بالتجول داخل المدينة الأندلسية التي لا تزال تحتفظ بطابعها العربي الذي تميزت به العمارة الأندلسية خلال القرون الثمانية التي استمرت فيها السيطرة العربية على جزء كبير من شبه الجزيرة الايبيرية. ويمكن الاستمتاع بمناخ اشبيلية وعمارتها الفريدة خلال تلك الاحتفالات بداية من محطة القطارات التي تكاد تشبه محطة البداية في مدريد من حيث التنسيق والجمال والنظام، والانتقال في المدينة بالتاكسيات والحافلات العامة، ولكن لا سبيل إلى الانتقال إلى بعض مناطق المدينة القديمة إلا سيراً على الأقدام، نظراً إلى ضيق شوارعها وتعرج حاراتها. الحي العربي أبرز وأجمل المعمار القديم يتمثل في الحي العربي في المدينة الذي يطلقون عليه اسم "سانتا كروث". ويجد الزائر على مدخله مئذنة "الخيرالدا" الشهيرة، التي تعتبر اقرب إلى الأعاجيب منها إلى مئذنة كانت تستخدم للدعوة إلى الصلاة عندما كانت ترفرف راية الإسلام هناك، وكانت تعتبر حتى وقت قريب أعلى مبنى في العالم، وقد تم بناؤها عام 712 ميلادية، ومصممها عربي عاش في المدينة يذكر التاريخ ان اسمه جعفر، ويذكر آخرون ان اسمه بن يعقوب يوسف، ويقال إن من أشرف على البناء هو شاعر يدعى أبو بكر، لذلك، فإن البناء أقرب إلى القصيدة منه إلى بناء من الطوب. يناهز ارتفاع "الخيرالدا" 250 قدماً 93 متراً، وليس لها سلم، بل يدور حولها طريق منحدر صاعداً أو هابطاً طبقاً لتوجه الزائر. ويقال إن المؤذن كان يصعد إلى قمتها على صهوة جواد، وكان مبناها القديم ينتهي بأربع كرات تشير إلى أركان الأرض الأربعة، أضاف إليها هيرنان رويث في العصر المسيحي عام 1568 أربعة تماثيل من عصر النهضة، كما أضاف على قمتها أيضاً قطعة متحركة تدور مع اتجاه الريح. ويقال إن اسمها "الخيرالدا" - أو "الدوارة" في اللغة الاسبانية - جاء من دوران تلك القطعة مع اتجاه الريح. وإلى جوار المئذنة مقدم صحن المسجد القديم الذي أصبح يلتصق بالكاتدرائية التي بناها الملوك الكاثوليك لاستغلال المئذنة كقطعة فنية في إطار ذلك المبنى، وتعتبر تلك الكاتدرائية من أضخم ما اقيم في اسبانيا من كنائس منذ سقوط الأندلس وبداية حكم الملوك الكاثوليك. ولا تزال البيوت في الحي القديم تحمل الطابع العربي الأصيل الذي عرفه عرب الأندلس. فالبيوت متدرجة، لها بوابات صغيرة تفضي إلى باحة أو فناء في وسطه نافورة مزينة برسوم "الزليج" المتعددة الألوان، وتحف بها الأشجار والزهور، وتصطف من حولها غرف المنزل، وعلى واجهات البيوت كتابات عربية ونماذج للزخرفة الهندسية. والشوارع إلى ذلك متعرجة لا تسمح بمرور سيارات صغيرة. وأسماء الشوارع لا تزال تحمل عمق التاريخ، فهناك شارع "المورو" أي "العربي"، وهناك شارع "المجد". وبعض الشوارع تحمل أسماء امراء دولة الموحدين أو الأمراء الأمويين. وينقل السير في تلك الحارات المتعرجة الصاعدة الهابطة والمرصوفة بالحجر الأسود السائح إلى عالم أشبه بالخيال، فيه متعة للأذن والعين والاحساس. فالشوارع رائعة النظافة، والجدران مدهونة بطبقة كلسية بيضاء، والشرفات زاهية الألوان ويغلب عليها اللون الأخضر، والزهور تتدلى من مزهرياتها على كل الشبابيك والأبواب. وينتشر الياسمين ورائحته في كل مكان، خصوصاً في فصل الصيف، وخرير الماء نغمة صوتية لا تنقطع، وتصل إلى اذن السائر في تلك الشوارع مخترقة جدران البوابات الواطئة. وبعض البيوت يبدو قديماً جداً، لكن سرعان ما تكتشف أنها حديثة العهد، ولكن روعي في بنائها طراز المدينة العربي الذي تعتز به المدينة، وكأن أهلها عجزوا عن استعادة العظمة الأندلسية في حقبتها العربية فقرروا الاحتفاظ بها عبر العودة إلى طرازها المعماري. وفي آخر مكان جنوبالمدينة القديمة يقبع نهر "الوادي الكبير" القادم من عمق الأندلس متجهاً غرباً حتى المحيط الأطلسي. وكانت اشبيلية في العهود الأولى لاكتشاف أميركا اللاتينية أهم مرافئ اسبانيا، لذلك يقف على حافة النهر من الجانب الآخر من المدينة برج يطلقون عليه اسم "برج الذهب"، وهو برج عربي مكون من جزءين، الأول مضلع شبه مستدير وضخم، ثم الجزء الثاني الأعلى مضلع أيضاً ولكنه يبدو رفيعاً كالمئذنة، ويبدو أنه كان قلعة لحراسة المدينة وحمايتها من الغارات القادمة عبر النهر، وهناك أساطير وراء التسمية المعروفة عنه الآن "برج الذهب"، إذ يؤكد بعض الرواة أن الذهب المنهوب من أميركا اللاتينية بعد فتح كولومبس كان يجري تخزينه هناك. وعبور النهر بعد المرور على موقع "برج الذهب"، يمكن أن يتم عبر سبعة جسور بناها الاسبان للوصول إلى جزيرة "لا كارتوخا" التي اقيم عليها المعرض العالمي "اكسبو - 92". ولا تزال المباني التي ضمها المعرض قائمة كمزار سياحي. إذ عمد كثير من الدول المشاركة إلى تحويل مبانيها إلى مراكز ثقافية، وجرى تحويل البعض الآخر إلى ملاه ومزارات تجذب السياح، لا سيما الذين فاتتهم زيارة المدينة عام 1992. وتقع جزيرة "لا كارتوخا" التي اقيم عليها المعرض العالمي "اكسبو - 92" جنوب مدينة اشبيلية، بين فرعين صغيرين لنهر الوادي الكبير، وكانت قديماً ديراً للراهبات والرهبان، ويقع مبنى الدير إلى جوار مصنع للزليج السيراميك الذي اشتهرت به المدينة حيناً من الدهر، وتناهز مساحتها 500 هكتار نحو خمسة كيلومترات مربعة. وتشغل المباني التي ضمت المعرض العالمي نحو 215 هكتاراً، وبها 300 ألف متر مربع من الحدائق العامة التي تحفل بما يزيد على 350 ألف شجرة من أنواع تزيد على الألف نوع. وتضم منطقة المعرض التي لا تزال مزاراً سياحياً 96 مطعماً و70 مشرباً، و150 محلاً تجارياً و16 فرعاً للمصارف المختلفة، و11 مكتب استعلامات و200 شاشة استعلامات الكترونية ومحطتين لتوليد الكهرباء تعملان بالتبادل، من خلال جهاز تحكم يمكنه تشغيل إحدى الماكينتين في شكل ذاتي إذا حدث عطل في إحداهما. مدينة اشبيلية قديمة جداً، لكن المؤكد تاريخياً أنها بلغت أعلى درجات عظمتها في عهد الملك العربي الشاعر الشهير المعتمد بن عباد، الذي اتخذها عاصمة لملكه، وأقام فيها الحدائق والقصور، وزينها بأبهى أنواع الزهور. وتعتبر القصور الملكية في المدينة من أبهى ما خلفته دولة الموحدين، حتى أن الملوك الكاثوليك انتقلوا إليها، لكنهم لم يفلحوا في تنصير روح المدينة الموحدية العربية الأصيلة، فقرروا الاحتفاط بطابعها العربي وأقاموا فيها قصورهم على شاكلة القصور الموحدية، وحتى نقوش تلك القصور التي اقاموا، استعانوا في بنائها بحرفيين أندلسيين من الموريسكيين الذين حافظوا على طابع الأندلس الزخرفي الذي يضم تنويعات على الحرف العربي، وآيات من القرآن، ولفظ الجلالة باعتبارها فنوناً عربية فريدة.