تعتبر إشبيلية، من أوائل المدن التي مصّرها العرب في الأندلس. وقد كان ذلك العام 94ه/ 712م، حين دخلها موسى بن نصير، وولّى قيادتها الى عيسى بن عبدالله الطويل المدني، وجعله عاملاً عليها، وعندما عاد موسى بن نصير الى دمشق، خلّف ابنه عبدالعزيز بن موسى بن نصير والياً على الأندلس. فاختار إشبيلية حاضرة له، وابتنى فيها مسجداً. ثم تولّى إمرتها عبدالرحمن الثاني، فشيّد سوراً منيعاً، وبنى أيضاً مسجداً جامعاً وداراً للصناعة. بيد ان أعظم عصور اشبيلية وأزهاها، هو عصر بني عباد، إذ كانت دار الملك عام 414 1023م. وغدت أيام المرابطين بعد عام 479 1086م مركزاً للحكم، كما أصبحت في ما بعد عام 541 1147م قاعدة للموحدين في عهد السلطان عبدالمؤمن الذي استعمل عليها ابنه أبا يعقوب يوسف بن سليمان الموحدي العام 1184، وفي عهده سمت اشبيلية المدينة البديعة الى ذروة المجد الحضاري، فاعتبرت أيامها من أعظم العهود الأندلسية، ولكنها لقيت مصرعها كقاعدة إسلامية أيام الموحدين، وذلك حين سقطت في أيدي القشتاليين في 27 رمضان سنة 646ه/1248م، بعد سقوط قرطبة باثني عشر عاماً، وغدت منذ ذلك الحين حتى مطلع القرن السادس عشر، دار الملك في قشتالة. وهي ما تزال الى اليوم من أجمل مدن الأندلس، وقد أسبغت عليها العصور والدول المتعاقبة، طابعاً من الروعة والجلال، بحيث لا يزال يمثل في صروحها ومعاهدها الفخمة وآثارها العربية الإسلامية الكثيرة. رمضان في ربوع الأندلس سمّيت اشبيلية اشتقاقاً من اسمها اللاتيني "إشبالي" أو "هسبالي". غير انها كانت تسمّى أيضاً في الأدب الأندلسي "حمص"، وذلك لأن جند حمص - الشام، هم الذين دخلوها عند الفتح، وأطلقوا عليها هذا الإسم، لما لمسوه من شبه بين المدينتين في الموقع والخطط والتربة. واليها يشير الشاعر أبو الطيب، صالح بن شريف الرندي في مرثيته حين يقول: وأين حمص وما تحويه من نزهٍ ونهرها العذْب فيّاض وملاّنُ واشبيلية الأندلسية، مثلها مثل سائر المدن الأندلسية، لا تزال عماراتها العربية والإسلامية تعبق بالأفراح والأتراح التي كانت تحياها المجتمعات الأندلسية في المناسبات العظيمة التي بدت تهز جنباتها بين الحين والآخر. ولعل المناسبات الرمضانية، والأعياد الموسمية، كانت أبهج تلك المناسبات الكريمة الميمونة. إذ نراها تأخذ بنفوس الناس وتحملهم على الاندفاع بحماسة لموافاتها بالفرح والحبور والقدوم الميمون. وقد تحدث الباحثون والمؤرخون عن تلك المناسبات الرمضانية، ورووا عنها الحكايات المشوقة، وجمعوا لها الأخبار اللافتة. فوصفوا لنا مثلاً، حال البلاد والعباد في أيام رمضان ولياليه، وكيف كانت ترتفع الزينات في الدور والقصور والأسواق والساحات والشوارع التي ينتهي بعضها الى بعض. كما كانت ترتفع أيضاً فوق قباب المساجد وعلى مآذنها العالية وفي باحاتها الواسعة، وفوق سائر العمائر الإسلامية الأخرى مثل المدارس والحمامات والأضرحة والكتاب والسبل والتكايا والزوايا والمشاهد المختلفة. وقد وصف أكثر من باحث ومؤرخ، بكثير من اللهفة والحرارة، كيف كانت ترتفع معالم الزينات الرمضانية فوق العمائر العربية الإسلامية في اشبيلية الأندلسية، وذكر بعضهم، كيف كانت العامة تقبل على هذه المناسبة الكريمة بكل اغتباط، في الأسواق والباحات جرياً على تقاليد مشرقية عريقة، عرفتها المدن العربية الإسلامية، حين كانت تحيي المناسبات الرمضانية في دمشق وبغداد وبيروت والقاهرة، وصولاً الى طرابلس وصفاقس والقيروان. ولا شك في ان مدينة اشبيلية، بلغت قمة مجدها وعظمتها على عهد الأمير الشاعر المعتمد بن عبّاد. ومما يروى عنه، أنه في موسم رمضان، من كل عام، كان يأمر بتزيين الحدائق والقصور التي تقع اليوم الى جنوب مئذنة "الخيرالدا" الشهيرة، ويطلع عليها اسم "رياليس الكاثاريس" أي القصور الملكية. كما كان يأتي بفرق الموسيقيين والمنشدين لإحياء تراث رمضان العربي الإسلامي المشرقي، في إشبيلية الأندلسية. وهذا ما كان يجعل المدينة تتلألأ بالأضواء ليلاً، في جميع دروبها وأزقتها الضيقة. وفي جميع أقبيتها وأسواقها، وعلى رؤوس مآذنها ومناراتها وقبابها. واعترافاً بفضل ابن عبّاد على مدينة إشبيلية، إذ جعلها درة بلاد الأندلس، خصوصاً في الأعياد والمواسم الرمضانية، فقد عبروا عن امتنانهم له اليوم، بإقامة "عمود" مرمري في حدائق القصر الملكي، لإحياء ذكراه المئوية التاسعة عام 1991 وكتبوا عليه باللغة الإسبانية: "من مدينة اشبيلية الى مليكها المعتمد بن عباد في ذكراه المئوية التاسعة... 7 أيلول/ سبتمبر 1091م، رجب 384ه، إشبيلية 1991. وسط المدينة وكان وسط المدينة القديم في إشبيلية، يلبس في رمضان أبهى حلله وزيناته مع بداية حلول شهر رمضان. فتنتشر الزينات وترتفع الرايات والبيارق في خطط الأحياء العريقة والشوارع القديمة الأندلسية الضيقة. وكانت العامة تحتشد في الأماسي الرمضانية داخل أروقة المسجد الجامع في اشبيلية، وما كان يحيط به من عمائر دينية ومدنية عربية الطابع اسلامية الروح. إذ يقبل الناس على صلاة التراويح وحلقات الوعظ والإرشاد الديني والحلقات الصوفية. إضافة الى حلقات الذكر وحلقات قراءة القرآن وتجويده وقصص القصاصين والرواة. ونحن اليوم إذ ننظر الى ما يعرف بالقصور الملكية في إشبيلية، التي تعتبر من أفخم المباني التي خلفتها الدولة الإسلامية في المدينة، فإننا نجدها مزيّنة بالآيات القرآنية الكريمة في جدرانها وأعمدتها وأسقفها وقببها. ولشدّة انبهار الاسبان بها، حافظوا عليها بعناية فائقة. وعندما فكروا في توسيع هذه القصور، استقدموا البنائين العرب المسلمين لتزيين جدران القصور الجديدة بالزخارف والآيات القرآنية ذاتها، وأسندوا زخرفتها الى الفنانين من المسلمين المدجنين. عمائر الموحدين في اشبيلية حقاً كانت اشبيلية في عهد أبي يعقوب عام 1184م وفي عهد ابنه أبي يوسف 1199م وهما من بناة دولة الموحدين، بلغت أعلى ذرى مجدها. فقد شيّد خلالها سلاطين الموحدين - وكبار رجال الدولة - القصور والدور، كما زاد عدد المساجد والحمامات والنزل والأسواق زيادة عظيمة، وبني في عهد أبي يعقوب يوسف، الجامع الكبير الجديد، على الموقع الذي قامت عليه بعد ذلك "الخيرالدا". ويذكر صاحب "روض القرطاس": ان بناءه تمّ عام 567ه/ 1117م. كما يذكر في الوقت نفسه صاحب كتاب "الحلل الموشية" مجهول المؤلف انه شيد عام 572ه/ 1176م. ولم يبق من جامع الموحدين الكبير بأشبيلية إلاَّ صحنه ويعرف الآن بساحة أشجار البرتقال، وأهم ما بقي منه المئذنة المشهورة التي يعرفها العالم باسم "الخيرالدا". وكان لأبي العلاء ادريس بن أبي يوسف يعقوب المنصور فضل كبير في تجميل اشبيلية والعمل على النهوض بها. فعمد الى تحصينها بأن أقام بها عام 1221م، برجاً ضخماً هو "برج الذهب" المشهور الذي ما زال قائماً. ثم جدّد أسوار أشبيلية، وشيّد أمامها سور يحيط بها جميعاً، كما حفر حولها خندقاً. وكانت الحياة التجارية في اشبيلية خصوصاً في مواسم رمضان المبارك إذ ان الأسواق والقيساريات، كانت تحيط بجامع ابن عدبس الذي بناه القاضي عمر بن عدبس بأمر من الأمير عبدالرحمن الأوسط عام 829م وما زالت بقاياه ظاهرة تشهد على ماضيه - كما كانت تحيط بجامع القصبة الكبير الذي أسسه أبو يعقوب يوسف ومن تلك الأسواق التجارية: سوق الصباغين وسوق القصابين وسوق الصاغة، وكانت دار صناعة اشبيلية تنهض ببناء القطع الحربية، والسفن وما يتعلّق بأدوات الملاحة. وكانت هذه الدار تقع على نهر الوادي الكبير قرب برج الذهب، خارج الأسوار. ويذكر المؤرخون أن سلاطين الموحّدين، كانوا يمجدون شهر رمضان، فيجعلوه موسماً للبر والإحسان للفقراء والضعفاء. وهو الى ذلك يمثل عندهم الزهد عن متاع الدنيا وغرورها، والتقرب من الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح والبر والإحسان وكانوا يحتفلون به احتفالاً يتناسب مع مكانته في نفوس المسلمين. ويذكر أحد الباحثين ان السلطان الموحدي أو قائده، كان يركب في أول شهر رمضان من كل عام، في موكب فخم تشيعه حاشيته المقربة، يشبه أول العام الهجري من حيث اللباس والآلات والأسلحة وغيرها. ولشدّة اهتمام السلاطين الموحدين، كان واحدهم يخطب في هذا الشهر ثلاث خطب في أيام الجمعة الثانية والثالثة والرابعة. وكانت المقصورة المعدّة لصلاته، تفرش بالسجاجيد، ويفرش سائر الجامع بالحصر. ثم يركب السلطان في موكب حافل وفخم كالذي ركبه في أول يوم من شهر رمضان، وما ان يصل الى المسجد حتى يهب الناس لاستقباله والاحتفاء بطلعته. ثم ينزل عن دابته ويدخل المسجد، يحيط به رئيس وزرائه، وكبار رجال الدولة والأمراء والقواد. وإذا حان وقت الصلاة، أذن مؤذنو القصر على باب مجلس الخليفة، وأذن سائر المؤذنين في المآذن، ووقف إمام الجامع على المنبر، عند ذلك يسير القاضي، حتى يصل الى المنبر، ثم يتبعه متولي بيت المال يحمل المبخرة، ثم يصعدان الى المنبر، الى ان يصلا الى ذروته فيبخران المنبر، ثم ينزلان. وعند ذلك يخرج السلطان والمقرئون بين يديه، يرتلون آيات من الذكر الحكيم ترتيلاً محموداً. فإذا نزل السلطان ووقف على الدرجة الأولى من المنبر، جهر المقرئون بالقراءة، وكبر المؤذنون، وأخذ القراء يتلون الفاتحة، ثم يضجّ المكان بتلاوتها عقب ذلك. بعد هذا يبدأ السلطان في إلقاء خطبته التي غالباً ما يكون موضوعها التبرك بطلعة هذا الشهر الميمون، مع ذكر نعمه وفضائله وكرمه، والحث على عمل الخير وطاعة الله. وعندما ينتهي السلطان من القاء خطبته، ينزل ويصلي بالناس. وبعد الانتهاء من الصلاة، يأخذ السلطان في توزيع الصدقات والهبات على موظفي المسجد. وكانت تقام من باب القصر الى المسجد الذي سيصلي فيه السلطان الموحدي، مظاهر الزينة. وكان لا يمرّ بجماعة في طريقه، إلاَّ وينفحهم بالمال، على رغم كثرة التجمعات في الطريق. وكان كرم السلاطين ووزرائهم وكبار رجال الدولة، يتجلّى في شهر رمضان. ومما يؤثر عن أحد الأمراء الأندلسيين في اشبيلية انه كان سخياً، وانه كان يوزّع كل يوم في شهر رمضان عشرة آلاف رغيف مع قدور الطعام. وكان يضاعف هذا العدد في أيام الأعياد. وهكذا فقد كان كرم الأمراء والكرماء والسلاطين وعطفهم كبيراً على الناس في أيام رمضان في الأندلس، حتى نجد ان دورهم وقصورهم كانت لا تخلو في كل ليلة من ليالي هذا الشهر المبارك من اقامة المآدب الخاصة والعامة، حتى فاق ما كانوا ينفقونه في هذا الشهر، ما كانوا ينفقونه في سائر شهور السنة. ويذكر ان بني عبّاد، كان لا يدخل عليهم أحد في شهر رمضان بعد العصر فيخرج من دارهم، إلاَّ بعد الإفطار عندهم. وان دورهم كانت لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها. وكانت صلاتهم وصدقاتهم في هذا الشهر الكريم، تفوق مبلغ ما يصرف منها في جميع شهور السنة. وكانت هذه الولائم والمآدب تقام في القصر وفي دار الوزير وفي دور أصحاب اليسار وفي المساجد والجوامع، وربما في الأماكن العامة، حيث يلتم شمل الفقراء والمساكين والضعفاء وأبناء السبيل. رمضان في قصر الكازار والحق يقال ان قصر الكازار في اشبيلية يعتبر من أبدع عمائر الموحّدين. وكان يعرف "بالقصر". وهو ينهض على مسافة رمية حجر من مقر الجامع الكبير. وكان يعتبر قصر أحلام هنيئة، تحيطه البساتين اليانعة ذات العطر الأخّاذ. وكانت قاعات القصر وردهاته في أيام الموحدين خصوصاً في موسم رمضان، يعجّ بالشيوخ المعممين والفلاسفة المفكرين وشعراء الزجل المبدعين، بل ومشاهير المغنين والمطربين. وكانت المقصورات في الطبقة العليا مخصصة للحريم. ولذلك كانت النساء الجميلات يظهرن بعفافهن خلف المشربيات الأنيقة، يحدّقن النظر فيمن يقرؤون لهم ويسمعون عنهم. كذلك كانت أرجاء القصر الفسيحة تتلألأ بالزينات الرمضانية. أمَّا الفوانيس والشمعدانات، فكانت تضفي مسحة من الجمال على نقوش الجدران وزخارفها، والنافورات تتوسط الحدائق والساحات وخرير مائها يعمل برتابة مثل الموسيقى العربية. ويذكر المؤرخون انه في أبهاء القصر، كان يتبادل أعلام العلماء العرب والمسلمين، أحاديث اللغة والفلسفة والتاريخ وكتب الشرح والتفسير، والى جانبهم جماعات الموسيقيين يلعبون على آلاتهم المشوحات في مجالس الأنس والسمر والليالي الهادئة. ويعترف بعض مؤرخي القصر ان عمارته الأصلية إنما تعود الى العام 1181م، أثناء حكم أبي يعقوب يوسف بن سليمان الموحدي. ومن أهم قاعات القصر وأبهائه: ساحة السيدات ذات 42 قوساً أندلسياً. وقاعة السفراء، وتعلوها قبة نصف برتقالية. وقاعة الطعام في الجانب الغربي، أمَّا قاعة نوم السلطان، فإنها ترجع بنقوشها الى الفنانين العرب والمسلمين، الذين برعوا في اضفاء مسحة جمالية خاصة عليها منذ العصور الساحقة. مجلس السحور عند السلطان وكان السلطان في اشبيلية طوال شهر رمضان، يجلس في المسجد يستمع الى المقرئين وهم يتلون القرآن، والى المؤذنين وهم يؤذنون ويذكرون فضائل السحور ويختمون بالدعاء. أمَّا مجلس السحور، فقد كان يهيأ تهيئة خاصة في رمضان. فكان إذا جاء وقت السحور مثلاً، أحضرت جفان القطائف وجرار الجلاب. فيأكل الجميع ويأخذ بعضهم ما شاء له من الأطعمة المتبقية، وما بقي بعد ذلك يحمله الخدم معهم الى دورهم على سبيل الاستزادة، وينصرف كل الى حال سبيله بعد انتهاء السحور. أمَّا السلطان، فكان يجلس للسحور الى مائدة كبيرة ملأى بصحاف الأطعمة، فيتناول منها المخض، وهو اللبن المنزوع الزبد وعصير الفواكه والموز، وغير ذلك من الأطعمة الخفيفة التي لا يزال المسلمون يتناولونها الى اليوم، وكان الغرض والقصد عند السلاطين من السحور تحقيق حكمة الصوم المتجلية في البركة، لأن السحور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "كله بركة". وكانت الأهازيج الرمضانية الأندلسية: أيها النوام قوموا للفلاح واذكروا الله الذي أجرى الرياح ان حبيس الليل قد ولّى وراح وتدانى عسكر الصبح ولاح اشربوا عجلى فقد جاء الصباح * أستاذ في الجامعة اللبنانية.