حاولت أمس ان اكتب عن ياسر عرفات بالمحبة التي أكنّها له والتقدير، من دون ان اتجاوز الأخطاء، فهو شخصية تاريخية وصفته هذه اهم من اي صداقة. وأجد صعباً اختصار علاقة 35 سنة قطعتها فقط بين 1982 و1988، احتجاجاً على تصرفات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. وعندما اتصلت بالختيار في النهاية، حدّثني كأن شيئاً لم يكن فهو، في تجربتي الشخصية، يتحمل النقد اكثر من اي قائد عربي آخر. اليوم، اكتب من الذاكرة عن ثلاث قصص لي، مع ابو عمار، اخترتها لأنها تلقي ضوءاً على القائد والثورة. في اواخر 1970، وبعد خروج الفلسطينيين من الأردن، زرت الأخ كمال عدوان، وكان في شقة مفروشة في بناية ستراند قبل ان ينتقل الى شقة مع اسرته قتل فيها بعد ثلاث سنوات، وهذه كانت تبعد مئة متر فقط عن شقتي في شارع مدام كوري، عبر حقل تقوم فيه الآن بناية سكنية عالية. وأبلغني الأخ كمال، وهو صديق قديم عزيز، ان اللجنة المركزية لفتح لم تعد انتخاب ابو عمار ناطقاً باسمها، فقد كان هذا لقبه في حينه. ونشرت "الحياة" و"الدايلي ستار" الخبر، وعاتبني كمال عدوان وأصرّ على ان حديثنا لم يكن للنشر، وبما انه توفي ولا يستطيع الدفاع عن نفسه، فانني اترك مسؤولية الخطأ مفتوحة. والمهم، ان ابو عمار ثار ثورة كبيرة، واعتقد ان هناك مؤامرة عليه، وأصرّ على ان اعترف له باسم ناقل الخبر فأعضاء اللجنة معروفون. واخترعت اسماً وشكلاً، وبقيت وكمال عدوان في قلق اياماً، حتى طوي الموضوع. - في شباط فبراير 1975 ارسلت مراسلة انكليزية الى دمشق لنقل وقائع مؤتمر صحافي عن فلسطينيين حاولا خطف طائرة واعتقلتهما فتح. وطلب منها ان تهاتف الأخ مصباح البديري، وتطلب لي موعداً معه. وهي عادت الى بيروت بمقابلة مع قائد جيش التحرير حمل فيها على منظمة التحرير وياسر عرفات شخصياً. وكنت في الأرز حيث نظمت جريدتي سباقاً في التزلج، ونشر الموضوع، وغضب ابو اعمار غضبة مضرية. واستدعيت الى الفاكهاني حياً او ميتاً. وأجرى التحقيق معي الأخ ابو الزعيم، وكان صديقاً عزيزاً، وحكيت له صدفة ان المراسلة طلبت موعداً فقط فأعطاها أخونا مصباح مقابلة، ثم صودفت ان سيارة مسؤول وكالة الانباء الفلسطينية "وفا"، الأخ ابو الفتوح، اوقفت في الغوطة، وعادت المراسلة "اوتوستوب" الى بيروت، فلم تتح لها فرصة الحديث معه عن المقابلة. ثم صودفت انني كنت وأركان الجريدة الكبار في الأرز، ولم نتنبه الى خطر المقابلة التي زادت عليها "الحياة" تعليقاً زاد الطين بلّة. وفي النهاية اقنع الأخ ابو الزعيم الختيار بأن كل هذه الصدف لا يمكن ان تكون مخترعة، فخيالي المحدود يقصر عنها. وطوى ابو عمار الموضوع بعد ان "حرد" عليّ اياماً. - ربما كان اهم موضوع تعاملت به مع السيد عرفات كان كامب ديفيد الاولى، فقد طلب مني مسؤولون عرب كبار ان اقنعه بقبول كامب ديفيد مع اي تعديلات يريدها، لتبدأ مفاوضات فلسطينية - اسرائىلية باشراف اميركي، تمهيداً للانسحاب الاسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية. لم يبد ابو عمار اهتماماً عندما بدأت الحديث، ولكن عندما سمع اسماء المسؤولين الذين ارسلوني استوى في مقعده، وقال لي بصوت عالٍ: اسمع، انا أصرّ على كل حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك عوجا الحفير. ولم أكن سمعت باسم هذه المنطقة على الحدود المصرية من قبل، وسكتّ حتى لا اكشف جهلي. والمهم انني نقلت الى ابو عمار اسئلة وحملت اجوبة منه واسئلة، مرات عدة، تحت غطاء صحافي. وقال ابو عمار انه يقبل بدء التفاوض، إلا انه بعد تشاور مع المجلس الوطني الفلسطيني، وكان في دمشق تلك الايام، غير رأيه، وانتهت تلك المحاولة الى لا شيء. اتوقف من الذكريات عند ما سبق لأعود الى ما نحن فيه، فأبو عمار قبل عرض بيل كلينتون الأخير عليه في واشنطن في الثاني من كانون الثاني يناير من السنة الماضية، وكان عرضاً محسناً لمفاوضات كامب ديفيد. وألقى الرئيس كلينتون خطاباً بمعنى اتفاقهما بعد اقل من اسبوع. غير ان ابو عمار عاد الى غزة، وأصرّ مساعدوه على ان العرض غير كافٍ، وكاد الاتفاق ان يتحقق في طابا في نهاية الشهر. إلا ان الاحداث سبقت الجميع، وانتخب الاسرائيليون آرييل شارون ليدمر العملية السلمية، ويفتح باب مواجهة دموية لا يعرف سوى الله تعالى كيف سيغلق. وأستطيع ان اكتب عن ياسر عرفات منتقداً، وأستطيع ان اختار الحديث عن نضاله الوطني الطويل وصموده ورفضه الاستسلام. ولو فعلت هذا او ذاك، لما اخطأت، فأبو عمار اخطأ وأصاب، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.