يزور وفد من "البرلمان العالمي للكتاب" رام الله، فتسلط وسائل الإعلام الضوء على "مهمته". لكن ماذا يعرف القارئ العربي عن اعمال ساراماغو وبانكس وسوينكا؟ ساراماغو وسوينكا مترجمان الى العربية. بانكس لم يُترجم بعد. هل يمكن العثور على علاقة ما بين روايات هؤلاء مثلاً وبين موقفهم التضامني الأخير؟ هنا قراءة بقلم الناقد الفلسطيني سمير اليوسف في المسألة: الاميركي راسل بانكس والبرتغالي خوسيه ساراماغو والنيجيري ويل سوينكا، ثلاثة كتّاب كبار، قدموا الى اسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية في إطار وفد ضمّ ثمانية اعضاء من "البرلمان العالمي للكتّاب"، وهدفهم، على ما ذكرت وكالات الانباء: "لقاء كتّاب واكاديميين وناشطين في سبيل السلام من فلسطينيين وإسرائيليين، ولكي يعربوا عن دعمهم لأولئك الذين يعانون من العنف والقمع، ويظهروا للعالم ان الكتّاب قادرون ايضاً، بل من الواجب عليهم، ان يتحركوا لكي يساعدوا في وقف العنف". والسؤال الذي يتبادر الى الذهن، في ضوء طموح إنساني نبيل كهذا، ما الذي يسع ثلاثة، بل ثمانية او أكثر من الكتّاب، تحقيقه حيث اخفقت وفود وبعثات دوليّة ذات نفوذ؟ ليس الكثير، يؤسفنا القول. بيد ان السؤال الاصح هو ما الذي يعرفه هؤلاء الكتّاب عن هذه المنطقة الملعونة بداء العنف؟ فهل يتجلى الصراع العربي الاسرائيلي في سياق إهتماماتهم السياسية والادبية؟ لا شك أن ويل سوينكا هو الاشهر بالنسبة الى قراء العربية. وكان تُرجم الى لغة الضاد، أولاً، من باب التضامن السياسي مع الادباء الافارقة، ثم ما عتم ان تُرجم من باب الفضول والاعتراف بالاهمية وذلك بفضل فوزه بجائزة نوبل الادب عام 1986. والمفارقة التي تسترعي الانتباه ان سوينكا فاز بهذه الجائزة لقاء اعماله المسرحية وليس الروائية او الشعريّة، اي لقاء اعمال من العسير وصولها الاّ للنيجيري او لذاك المهتم بالثقافة المحلية النيجيريّة. فعلى رغم ان هذه الاعمال مكتوبة بالانكليزية، الاّ انها انكليزية خليط من لغة ملتون Milton والمحلية الانكليزية السوقية الشيوع في نيجيريا. ولعل ما يبقى للقارئ العربي من حظ في تقدير اعمال هذا الكاتب الكبير رواية شأن رواية "المفسرون"، وهي، بحسب البعض، اول رواية افريقية حداثيّة الطابع فعلاً. وكان الشاعر العراقي سعدي يوسف قد ترجم هذه الرواية الى العربية بعد عام واحد على فوز مؤلفها بالجائزة الكبيرة. ولعل ما فيها من تأرجح ما بين لغة محليّة ولغة ادبية، فضلاً على تصويرها الثقافة الاسطورية والخرافية الافريقيّة في سياق تقنية سردية حديثة، يزودنا بمذاق ادب سوينكا وإنشغاله المتواصل بالنزاع متعدد الوجوه ما بين الماضي الكولونيالي والحاضر الإستقلالي، وما بين التقليديّ والحديث عموماً. وكون جائزة نوبل هي معيارنا الحاسم في تعريف الادب العالميّ- والعالمية، كما لا يُخفى، من الامور التي ما انفكت تستأثر بأفئدة الكبار والصغار عندنا- فلا غرابة ولا عجب ان تأتي معرفتنا بالكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو عشية فوزه بالجائزة قبل اربعة اعوام. وعلى أي حال فإن الكاتب لم يُعرف بالنسبة الى قراء الانكليزية الاّ في مطلع التسعينات، بعد ظهور روايته "سفر الرؤيا بحسب يسوع المسيح". وعلى منوال اليوناني كازانتزاكي، صاحب "الاغواء الاخير للمسيح"، عمد الكاتب البرتغالي الى تأويل قصصي حديث حاول من خلاله إستنطاق ما يسكت عنه "سفر الرؤيا". وعلى رغم ان روايته الاولى تعود الى 1957، الاّ ان ساراماغو البالغ من العمر ثمانين عاماً لم يتفرّغ للكتابة الادبيّة، وتحديداً كتابة الرواية، الاّ في نهاية عقد السبعينات من القرن المنصرم. وكان الكاتب البرتغالي نشر على نحو متقطع مجموعات شعرية ومقالات سياسية فضلاً عن مسرحيات، الاّ ان سمعته الادبية لم تترسخ الاّ مع توالي صدور اعماله الروائية وابرزها "بلتازار وبليموندا" و"سنة موت ريكاردو ريس" و"الطوّاف الحجري" و"العماء". ويتبيّن من خلال بعض هذه الاعمال ان ساراماغو هو مثال ذلك الكاتب الذي لا تستقر مخيلته عند منطقة إهتمام بعينها، وهو الساعي الى إستيعاب اساليب سردية وتقنيات مختلفة بما ينجلي في النهاية عن مشروع روائي شامل. فرواية "بلتازار وبليموندا" تجري في عهد محاكم التفتيش في حين ان رواية "سنة موت ريكاردو ريس" تدور في ثلاثينات القرن العشرين إبان الكساد الاقتصادي الكبير وصعود الفاشية. ولئن جاءت رواية "الطالع من الارض" على صورة سرد واقعيّ الطابع لحياة ثلاثة اجيال من الفلاحين البرتغاليين منذ مطلع القرن العشرين وحتى ثورة عام 1975، فإن "الطوّاف الحجري" و"العماء" هما اشبه بفانتازيا ذات بعد رمزيّ. وسمة تعددية مناطق الاهتمام والاساليب هذه عند ساراماغو يشاطره فيها الاميركي راسل بانكس. غير ان بانكس مجهول عند قراء العربية، وليس من دون ذرائع "وجيهة". فالرجل لم يبلغ قمة العالمية بعد، اي انه لم يفز بنوبل. الى ذلك، وعلى رغم ذيوع شهرته في بلاده، خصوصاً بعد تحويل روايتيه "الآخرة العذبة" و"بلوى" الى فيلمين سينمائيين ناجحين، الاّ انه ظهر في حقبة صار من المتوجب على الرواية ان تحمل تبريرها الفني والثقافي في طياتها. صحيح ان بانكس، في العديد من اعماله الروائية المبكرة، لا سيما تلك الصادرة في السبعينات، لم يتوان عن الانغماس في الكتابة السردية باللغة التجريبيّة، الاّ ان مكانته الادبية تأسست من خلال روايات تجري على المنوال التقليدي للرواية الواقعية والطبيعة الاميركية، كتلك التي أنشأ صرحها كتّاب شأن سنكلير لويس وتوماس وولف ودوس باسوس وارسكين كالدويل وجون ستاينبك. هذا بالاضافة الى قصصه القصيرة التي أظهر من خلالها براعة سرديّة كلاسيكية الطابع. بانكس شأنه شأن ساراماغو وسوينكا انما يكتب ادباً وثيق الإلتصاق بشؤون بلاده السياسية والإجتماعية وبتاريخها وإرثها الثقافي. وهو الى ذلك يؤمن بأن في اعماله رسالة سياسية ما، بل وقد تلعب دوراً سياسياً. مثلاً في المقطع الاخير من روايته "تسكع قاريّ" ترد الدعوة الآتية: "إمض يا كتابي، وساعد في تدمير العالم على ما هو عليه!" ولكن في الاحوال كافة ليس لفلسطين او للنزاع العربي الاسرائيلي من مكان في ادبه او ادب رفيقيه وبما يدل على الاهتمام الذي يظهرونه انما يصدر عن امرين خارجيّن عن ادبهم، ألا وهو التعاطف الانساني مع ضحايا الحرمان الاجتماعي والعنف والقهر السياسيين، وسياسة تضامن تُملي ضرورة ان يناصر الفنان "نضال الجماعات مهضومة الحقوق". خلفية اجتماعية مناسبة ويلاحظ ان الكتّاب المذكورين يتحدرون من بيئات إجتماعية محرومة ومن ثقافات مستبعدة ومهمّشة. فراسل بانكس يعود بأصوله الاجتماعية الى طبقة عاملة في بلاد يُعتبر الانتماء الى مثل هذه الطبقة نتيجة سوء حظ او إخفاق في إغتنام فرصة حياة افضل. وكذلك الامر بالنسبة لساراماغو المتحدر من بيئة فلاحين أجراء بما اضطره الى التخلف عن الدراسة في وقت مبكر وإمتهان مهنة ميكانيكي. اما بالنسبة الى سوينكا، ففضلاً عن البيئة المحرومة التي ينتمي اليها فإنه في النهاية ابن بلد مستعمَر سابقاً وثقافة لم تعرف سوى التهميش في ظل ثقافة بيضاء مهيمنة. على اننا نحسب ان "سياسة التضامن" لهي الواعز الاقوى خلف الاهتمام الذي يظهره هؤلاء الكتّاب وغيرهم في التحرك السياسي. فهم في النهاية اعضاء في ما يُسمى ب"البرلمان العالمي للكتّاب" الساعي الى الانشقاق عن سياسات الدول الامم، التي ينتمي اليها اعضاء هذا المجلس، وإنشاء سياسة دوليّة بديلة ترقى على المصالح والتحالفات. الى ذلك فهم معروفون بأنشطتهم السياسية وإنتماءاتهم بما عرضهم الى المضايقة، كما هو الامر بالنسبة الى بانكس أثناء فترة إنضوائه في "حركة الحقوق المدنيّة" العاملة ضد التمييز العنصري في الولاياتالمتحدة خلال عقديّ الخمسينات والستينات، وكما حدث لساراماغو في غير مناسبة لفقدان مصدر الرزق عقاباً له على إنتمائه الى الحزب الشيوعي البرتغالي، وكما هو الامر بالنسبة الى ويل سوينكا المقيم حالياً في المنفى بعد أن تعرض للملاحقة والسجن.