من الخطأ القول ان فلاناً فاز بجائزة نوبل للادب، لأن "الفوز" لا يكون الا من خلال مسابقة بين نصوص تختار لجنة التحكيم افضلها. فيما تمنح هذه الجائزة العالمية عن طريق الانتقاء الذي تدخل فيه عوامل كثيرة اهمها السياسية ومنها الجغرافية وحتى العنصر العرقي غير مستبعد ايضاً، بدليل انها منحت لإفريقي اسود واحد هو النيجيري سوينكا ولأسمرين ملونين هما طاغور الهندي ونجيب محفوظ العربي المصري وعدد قليل جداً من الصفر اليابانيين، بين عشرات البيض ومعظمهم من أوروبا وأميركا الشمالية حيث "النقاء" العرقي الرفيع! ومع ان هذا الانتقاء ليس مقتصراً على جائزة الادب وحدها، لأنه ينسحب على جوائز الفروع الاخرى وبخاصة الطب والعلوم والسلام، الا ان جائزة الادب اكثرها اثارة للامتعاض من قبل غير "الانقياء" عرقياً وقارياً. اذ ان احداً لا يفهم - على سبيل المثال - خلو الصين وأفريقيا وأقيانيا من حملة هذه الجائزة، في الوقت الذي تمنح فيه لكاتب باللغة اليهودية الالمانية "يديش" التي لا يتكلمها اكثر من ثلاثة آلاف يهودي من اصل ألماني! ولا ننسى ابداً ان جائزة نوبل للادب منحت لونستون تشرشل السياسي البريطاني الداهية، بعدما استبعد عن جائزة السلام، لكونه من ابطال الحرب العالمية الثانية، وسبق له ان حارب ضد البوير في جيش الامبراطورية الاستعمارية في جنوبي أفريقيا. كما لا ننسى انها اعطيت لليهودي الروسي بوريس باسترناك صاحب الرواية الوحيدة "دكتور جيفاغو" لأنه هاجم الثورة الاشتراكية في مؤلفه وإبان الحكم السوفياتي، في الوقت الذي لم يحصل عليها مواطنه ميخائيل شولوخوف الا بعده بعشر سنوات. وهو تقريباً ما حصل للكاتب والمفكر الفرنسي العظيم جان بول سارتر الذي سبقه الى ذلك الشرف التليد "تلميذه" ألبير كامو، وقبل عشر سنوات ايضاً، وهو ما دفع الاول الى رفض الجائزة... لقد فطن اعضاء الاكاديمية الملكية السويدية الى وجود الياس كانيتي اليهودي المتعدد الجنسيات الاوروبية، والى اليهودي الاسرائيلي عجنون، وهما اللذان لم يسمع بهما احد قبل نيلهما الجائزة من متتبعي حركة الادب المعاصر في العالم... ولم يفطنوا الى جورجي آمادو البرازيلي الذي هو بحق اعظم كتّاب أميركا اللاتينية، بل والعالم، بشهادة الاوساط الادبية في فرنسا وروسيا والولايات المتحدة، والذي وصفته مجلة "تايم" الاميركية ب"الجوهرة السوداء في أدب أميركا اللاتينية"... لكن هؤلاء الاكاديميين فطنوا الى جوزيه ساراماغو البرتغالي النكرة حتى من متتبعي الادب البرتغالي. وأذكر انني عام 1983 حينما زرت البرتغال وقد اجتمعت برئيس الجمعية البرتغالية للكتّاب آنذاك مانويل فيرّيرا وهو روائي معروف وترجمت له الى العربية روايته "ساعة الرحيل" سألته عن اهم الروائيين الجديرين بإجراء مقابلات معهم، فأشار عليّ بالروائي الكبير جوزيه بيريز كاردوزو، وكانت آخر رواية له قد صدرت قبل ستة شهور وتحمل عنوان "ملحمة شاطئ الكلاب" وطبعت منها في تلك الفترة القصيرة اربع طبعات، نفدت كلها، بحيث انه لم يستطيع ان يقدم لي نسخة آنذاك، منتظراً صدور الطبعة الخامسة التي كان يجري طبعها! وحين سألته ايضاً عن اهم كتّاب البرتغال في رأيه، ذكر لي اسماء كثيرين لم يكن بينها اسم ساراماغو! ولهذا كانت المفاجأة صاعقة عندما منحت نوبل للأدب لهذا الكاتب غير المعروف على نطاق واسع في بلده البرتغال وفي البرازيل اهم وأكبر الاقطار الناطقة بالبرتغالية، وكذلك في موزانبيق عربياً لا نقول: موزامبيق وأنغولا والرأس الاخضر وغينيا بيساو. فكيف يبعد آمادو عن هذه الجائزة بصفته اعظم ممثل للادب البرتغالي في هذا العصر، وتمنح لشخص كانت الاوساط الادبية البرتغالية ذاتها تجهله - او تتجاهله - حتى العام 1990؟ أنا لا احب افتراض ما لا يندرج تحت خانة الادب في هذا السياق. فمما لا شك فيه انه كاتب وروائي وشاعر، بحسب ما ذكرته اللجنة مانحة الجائزة. لكن، هل هو ممثل حقيقي وأمثل للادب البرتغالي؟ ولا ادري لماذا مرّ في خاطري اسم الكاتب الاسباني سيلا الفائز بالجائزة منذ سنوات؟ قد يكون ذلك لأنه كان رئيساً لجمعية الصداقة الاسبانية - الاسرائيلية... وفي الحقيقة لا اعلم مدى ارتباط ساراماغو باليهودية ذات التأثير البالغ في هذه الجائزة العالمية. لكنني ادري انه لم يكن حتى معروفاً في الاوساط الثقافية السويدية نفسها. وفي هذا الصدد ما زلت اذكر ذلك السائح السويدي المثقف خلال تواجدي في فندق "هوليداي إن" في رواسّي قرب باريس، وظن اني برازيلي للوني الداكن وثرثرتي بالبرتغالية مع احد البرازيليين السياح، فحدثني عن مدن ومناطق الجفاف السرتون ومزارع القهوة في سان باولو والكاكاو في باهيّا، وعن الكرنفال في الريو والماكومبا وبقية الطقوس الوثنية ذات المنشأ الافريقي لدى السود البرازيليين، وكذلك عن الفلاحين المحرومين وعقداء الارض اصحاب المزارع التي هي في حجم اقطار في أوروبا وغيرها... فسألته: هل تجولت كثيراً في البرازيل؟ وكم كانت دهشتي عظيمة حين قال لي انه لم يطأ ارض البرازيل قط، وان كل ما تكلم عنه قرأه في اعمال جورجي آمادو الروائية! ومع هذا حرمت الجائزة على هذا الاديب العالمي الذي جعل من اللغة البرتغالية اداة تعارف واتصال حضاريين في العالم. ولعل "جرمه الفظيع" في كون ادبه يحمل بصمات انسانية منافية للظلم والقهر والعنصرية. ولم يكن داعية من دعاة الهرطقة، برغم شيوعيته السابقة... اذ لم نقرأ في اي عمل من اعماله العديدة ما يناقض الايمان الكاثوليكي الذي هو عقيدة معظم الشعب البرازيلي، لأنه يحب شعبه ولا يسفّه معتقداته الروحية... فيما ساراماغو لم يتورع عن وضع عمل روائي عنوانه "الانجيل بحسب يسوع المسيح" اعتبره الفاتيكان ذروة الهرطقة والاساءة الى الدين المسيحي... ولا ندري اذا كانت اللجنة مانحة الجائزة والتي لا يشك احد من المتابعين لمجريات الثقافة العالمية، بقربها من اليهودية وأنشطتها المرئية وغير المرئية، قد "كافأته" بالجائرة السنّية لهذه الغاية