لم يعد هناك خلاف الآن حول توصيف العنف الأعمى الذي يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون بأنه حرب حقيقية مدّمرة لا غاية لها ولا هدف سوى محاولة كسر إرادة الشعب الفلسطيني المصمم على التحرر من الاحتلال الذي يصادر حريته وأرضه ويشل حياته. إنها حرب لا تكافؤ فيها بين أسلحة الحرب التي يملكها الطرفان. ولكن التفوق الساحق الذي تتمتع به إسرائيل، خصوصاً في الطيران والدروع، لا ينبغي أن يحمل أحداً، سواء على الساحة الدولية أو العربية، على إلقاء أي مواعظ على الفلسطينيين بأن عليهم أن يكونوا واقعيين، وأن يسلموا بحقائق ميزان القوى الراجح ضدهم بقسوة وحشيّة. ذلك أن مواعظ من هذا النوع لا تصدر في الواقع إلاّ من جانب حكومات غربية منحازة تماماً إلى جانب إسرائيل، مثل إدارة الرئيس جورج بوش وحكومة توني بلير البريطانية، أو حكومات عربية تؤثر جانب السلامة في العلاقة مع الامبراطورية الأميركية الهوجاء، وتتجه تدريجاً إلى مساواة الجلاد بالضحية في محاولتها تغليف هذا التوجه بالتنديد ب"العنف" أياً كان مصدره. ثم ان مواعظ من هذا النوع تأتي في غالبية الأحيان من أطراف عاجزة متفرجة، أو قادرة ولكن متقاعسة حتى عن قول كلمة حق بشجاعة وفصاحة وذكاء، وهي بالتالي لا تقدم ولا تؤخر. لكن من قد يلقون مثل هذه المواعظ يتجاهلون، لأسباب تتعلق بهم، أن هذه الحرب الحالية على أرض فلسطين، هي حرب لحماية الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذه حقيقة بات يسلم بها محللون إسرائيليون صرخ أحدهم أخيراً في وجه شارون من على إحدى صفحات "هآرتس": "إنك تضلل الإسرائيليين. ان وجود الدولة ليس في خطر، وإنما الاستيطان". إن المواعظ التي تطالب الفلسطينيين برؤية حقيقة "ميزان القوى" هي دعوات إلى الاستسلام والاذعان لبطش القوة والتنازل عن الحقوق والكف عن ممارسة حق مقاومة الاحتلال غير القانوني وسرقة الأرض بالمصادرة وفرض الأمر الواقع الاستيطاني بقوة السلاح وبطشه. إن ما يرتكبه شارون حالياً من اغتيالات واعتداءات على مخيمات اللاجئين ومدارس الأطفال وضرب أهداف مثل معهد تأهيل المكفوفين في غزة ونسف المنازل وإعادة احتلال مدن وقرى فلسطينية ما هو سوى مذبحة بالتقسيط تتجدد ليل نهار. ويحيط بشارون وزراء يقفون إلى يمينه يحرضونه على قتل المزيد من الفلسطينيين ويهددونه بأنهم سيستقيلون من حكومته إن لم يفعل. ويجتهد شارون أكثر فأكثر في همجيته كلما عيره رئيس الوزراء الليكودي السابق بنيامين نتانياهو بأنه فشل حتى الآن في ترويض الانتفاضة أو قهرها. وهكذا يستمر المزاد العلني على دماء الفلسطينيين، وتتجذر أكثر وأكثر في المجتمع الإسرائيلي عقلية المافيا والتطهير العرقي. ولقد سمعنا أخيراً وزراء ومسؤولين إسرائيليين يطالبون ليس فقط بهدم بيوت أهالي "الانتحاريين" الفلسطينيين وإنما بقتل أفراد عائلاتهم... وصرنا نشهد في الواقع بدايات تلبية هذه الطلبات. يجري هذا كله وفق قرارات تتخذها حكومة شارون الائتلافية من دون أن يقدم وزراء حزب العمل على الاستقالة، الأمر الذي يجعلهم في واقع الأمر شركاء في اذكاء نيران هذه الحرب الجنونية. وزير الخارجية شمعون بيريز له حساباته ويتظاهر بأنه يتصرف كأداة فرملة تخفف من غلواء شارون، لكنه في الحقيقة لم يكن في أي وقت سوى ورقة توت تحاول التستر على جرائم شارون واضفاء ما يمكن اضفاؤه من صبغة احترام على حكومة كارثية بكل المعايير. أما فؤاد بن اليعيزر الذي صعد بفارق ضئيل إلى رئاسة حزب العمل، فيظن أنه كلما بطش أكثر بالفلسطينيين زادت صدقيته كزعيم قد يصل إلى منصب رئاسة الحكومة. وفيما يواصل شارون حربه لحماية المستوطنات والمستوطنين بإدامة الاحتلال وتفعيل بطشه، يواصل الفلسطينيون مقاومتهم وتضحياتهم. ولن ينهي هذا الصراع في النهاية سوى انتهاء الاحتلال والاستيطان.